ما مسؤولية الطبقات الحاكمة في منطقتنا ما قبل الاستعمار في تخلفها؟


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 8077 - 2024 / 8 / 22 - 14:04
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

نواصل في هذه المقالة تفسير ومحاولة فهم أسباب تخلف منطقتنا قبل أن نطرح ما أسميناه ب"البديل الإنساني" في مقالات قادمة. أن فهم وتفسير أسباب تخلفنا ضروري لإقامة أي مشروع تنموي يخرجنا من هذا التخلف، فلنعلم بان فهم حاضرنا فهما صحيحا وموضوعيا ومبني على العلمية هو عامل رئيسي في أي عملية بناء لمستقبلنا الذي يجب أن يكون مبني على أسس سليمة وصحيحة.
فقد قلنا في المقالة السابقة بأن المفكر سمير أمين قد تبنى نظريات التبعية، وأضاف إليها نظريته "التطوراللامتكافئ" التي حاولت الإجابة عن سبب عدم نشوء الرأسمالية الصناعية في العالم الإسلامي، فإن الخبير الاقتصادي المصري محمد السيد سعيد يرفض رفضا قاطعا نظريات التبعية عند تفسيره تخلف اقتصاديات منطقتنا، ويعتبر إنتشار هذه النظريات في بلداننا قد تحمل أخطارا كبيرة، لأن ذلك سيؤدي إلى النكوص والعجز عن نقد الذات وتحميل الاستعمار كل مآسينا، والعجز عن التمييز بين الجانب السلبي والجانب الإيجابي لدى الغرب ومعاداة كل ما يأتينا من الغرب دون استثناء، ولا يكتفي محمد السيد سعيد بذلك، بل يرى أن الغرب ذاته هو الذي يعمل على نشر أفكار التبعية بهدف إعطاء راحة نفسية لإنسان منطقتنا أمام أزمة تخلفه، ويورد في ذلك تحذيرات أحد منظري مدرسة التبعية نفسها وهو الأمريكي اللاتيني فرناندو هنري كوردوسو الذي قال في كتابه "التبعية والتنمية في أمريكا اللاتينية" بأن الولايات المتحدة الأمريكية عممت النظرية السوقية لنظرية التبعية بهدف جعل العالم الثالث "يحول استنتاجاتها إلى تمائم مقدسة ذات قدرات كلية على تفسير مشاكل نظرية النمو والتخلف".
فبعد ما انتقد محمد السيد سعيد نظريات التبعية باعتبارها خاصة بمنطقة أمريكا اللاتينية، ولا يمكن تعميمها إلى مناطق أخرى من العالم الثالث، ولأنها أيضا تجاهلت دور الطبقة البرجوازية في أوروبا التي استطاعت تحطيم الإقطاع في الوقت الذي عجزت فيه الطبقات السائدة في العالم الثالث على تحطيم النظام السائد، فيصل محمد السيد سعيد إلى تعريف التخلف بأنه "عجز النظام (أو تشكيلة اقتصادية- اجتماعية) عن توفير مصادر تغيير دينامية على درجة مناسبة من القوة والإنتظام بحيث تمكن من إشباع حاجات اجتماعية متزايدة من حيث الاتساع والعمق".
وبناءً على ذلك فإن التخلف في منطقتنا -حسب محمد السيد سعيد- لا يعود إلى الاستعمار أو الرأسمالية الأوروبية مثلما يقول أصحاب نظريات التبعية، لأن العالم الإسلامي لم يحتك بالرأسمالية الأوروبية إلا في القرن19م عندما استعمرت أوروبا بعض البلدان كالجزائر في عام 1830 وعدن في عام 1838، وبدايات التغلغل الرأسمالي في المشرق الإسلامي في المنتصف الثاني للقرن 19م، ولهذا فإنه يرد سبب تخلف المنطقة إلى عدم استثمار الطبقة السائدة فيه آنذاك ثرواتها في الصناعة عكس ما فعلته الطبقة البرجوازية في أوروبا "حين سيطرت المراكز التجارية الإسلامية على الفائض المشتق من التجارة البعيدة، فإن هذه المراكز قد فشلت في استخدام هذه الفوائض في دفع دورة تراكم. إن الفائض لم يستخدم في توسيع قاعدة الإنتاج، وقد كان هذا هو ما حدث تقريبا أيضا في حالة إسبانيا والبرتغال". ونشير أن إسبانيا والبرتغال هما الأوائل اللتان وصلتا إلى القارة ألأمريكية، وأستولوا على معادنها الثمينة، لكن بدل ما يستثمرونها في الإنتاج الصناعي والبحث العلمي كما فعلت أنجلترا فيما بعد، فإنهم أنفقوها في البذخ والترف والحروب من أجل التوسع، وهو ما جعل بعض المؤرخين يقولون بأنه في الوقت الذي كان فيه الإسبان والبرتغاليين يستخدمون الذهب كحدوات للجياد، كان الأنجليز يستخدمونه لإطلاق شرارة الثورة الصناعية. وغرابة الأمر أن ما وقع في إسبانيا والبرتغال ينطبق بأتم معنى الكلمة على الدول النفطية في منطقتنا التي أسرفت في تضييع موارها النفطية في إستيراد السلع الغربية وفي الترف واللهو، وكذلك الإنفاق العسكري للتقاتل فيما بينهم.
يذهب محمد السيد سعيد أبعد من ذلك في تفسير تخلف منطقتنا بالقول بأن ما قبل لإستعمار كان يسيطر عليها نمطين للإنتاج، وهما الخراجي والإقطاعي، وذلك عكس ما يذهب إليه سمير أمين الذي يقول بسيادة نمط الإنتاج الخراجي فقط مستثنيا مصر في بعض الفترات، وأيضا ما يذهب إليه البعض الآخر بالقول أن الإقطاع هو السائد محاولين تعميم النظرية الماركسية للتطور التاريخي إلى العالم الإسلامي كله .
ويبدو -في نظر محمد السيد سعيد- أن هناك علاقة جدلية بين النمطين الخراجي والإقطاعي في منطقتنا، بحيث أنه في النمط الخراجي كانت السلطة المركزية تنهب الفائض الاقتصادي للسكان خاصة الفلاحين عن طريق الملتزم الذي يقوم بمهمة جمع الضرائب من سكان منطقته، فيعطي نسبة منها للسلطة المركزية، ويأخذ هو النسبة المتبقية، ولهذا فإن هذا الملتزم كان يحاول بكل الوسائل أخذ أكبر جزء ممكن من هذا الفائض الاقتصادي، مما يضعف نسبة الإدخار لدى السكان خاصة التجار والفلاحين، كما أنه كلما ازداد الفائض الذي يسلب من السكان ازداد فيه الصراع بين الطبقة الحاكمة ورعاياها من جهة وبين عناصر الطبقة الحاكمة نفسها من جهة أخرى، وذلك بسبب الاختلاف بينهما حول توزيع هذه الغنائم، فتنشأ صراعات وحروب بين الأمراء، فتنهار الدولة، فتتفتت، فتظهر الإقطاعيات المختلفة، فينهار الأمن والاستقرار، فتضعف التجارة وأنظمة الري للفلاحة. فأمام هذا الوضع يصبح السكان يبحثون عن سلطة مركزية قوية مهما تكن درجة نهبها وسلبها لعرق جبينهم، وهناك بعض الأمراء الإقطاعيين الأقوياء يشجعون التدهور الأمني لكي ينادي جميع السكان بالولاء للأمير الأقوى وإعطائه الحكم المركزي بوصفه القادر على الحفاظ على الأمن والاستقرار، فيقوم الحاكم الجديد بدوره مع حاشيته بسلب ونهب السكان، ويلاحظ أن هذه الوسائل المتمثلة في تشجيع الفوضى كوسيلة لظهور الدكتاتور لا تزال إلى حد اليوم منتشرة بقوة في منطقتنا.
إن الإنتقاد الذي يمكننا توجيهه إلى محمد السيد سعيد هو: لماذا لم تثر الطبقة الاجتماعية المستغلة على مستغليها مثلما ثارت الطبقة البرجوازية على الإقطاع وإيديولوجيته في أوروبا؟، ولماذا لم تستثمر الطبقات الحاكمة الفائض الاقتصادي في القطاعات المنتجة، فتطور قوى الإنتاج؟، فهل يعود ذلك إلى طبيعة إنسان المنطقة الذي دخل في عصور الإنحطاط منذ القرن13، فأصبح مستسلما لقدره وفاسد روحيا واخلاقيا وعاجز على الثورة ضد الظلم والإستغلال؟. هذا ما يدفعنا إلى تناول تفسير آخر للتخلف تتمثل في تحميل إنسان المنطقة ذاته أسباب تخلفه بدل تحميلها للأنظمة والطبقات الحاكمة كما يقول محمد السيد سعيد. هذا ما سنعود له في المقالة القادمة.