مراحل تطور النظام الرأسمالي في الغرب


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 8031 - 2024 / 7 / 7 - 16:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

نواصل في سلسلة هذه المقالات الإجابة على الإشكالية الرئيسية المطروحة وهي: هل النظام الرأسمالي هو وراء تقدم الغرب؟، وهل فعلا انه لا مفر من إتباع هذا النظام كي تتقدم منطقتنا كما يدعي أنصار ودعاة هذا النظام سواء عندنا أو في الغرب. وقد تناولنا في المقالة السابقة كيف نشأ هذا النظام في ظل جرائم يندى لها جبين الإنسانية أرتكبها الغرب ضد الإنسان، خاصة في أفريقيا بجلب الرقيق منها، وفي القارة الأمريكية بجلب المعادن النفيسة وإبادة الهنود الحمر، وسنتطرق في هذه المقالة إلى المسار التاريخي للرأسمالية في الغرب عموما وأوروبا خصوصا ومختلف المراحل التي مرت بها بعد نشأتها وإنعكاسات ذلك.
مرت الرأسمالية في أوروبا بثلاث مراحل أساسية، ففي المرحلة الأولى الممتدة من القرن 15م إلى نهاية القرن 18م كانت رأسمالية تجارية أو المركانتيلية، أين شكل الأوروبي التراكم الأولي للرأس المال، فبدأت تظهر طبقة برجوازية تحمل أفكارا جديدة، وتفكر في كيفية تنمية المال والثروة بشكل أكثر فعالية، فلجأت إلى الإستثمار في الصناعة، خاصة وأن أوروبا كانت تعرف إنفجارا ديمغرافيا هائلا، مما يتطلب إنتاجا أكبر يلبي حاجيات السوق الواسعة، خاصة وأن الحرف التقليدية والورشات الصغيرة لم تكن بمقدورها "تلبية المطالب التجارية للسوق العالمية الجديدة التي بعثتها الكشوف الجغرافية العظمى التي حدثت في نهاية القرن 15م" -حسب ماركس- الذي فكك هذا النظام وأبرز ميكانيزمات عمله في كتابه الرئيسي "الرأس المال"، وكانت هذه العوامل كلها وراء الإستثمار الواسع في تطوير قوى الإنتاج وتشجيع الإختراعات والبحث العلمي. فظهرت المصانع الكبيرة التي قضت على الحرف التقليدية والورشات الصغيرة التي كانت عاجزة عن منافسة هده المصانع، فتحول أصحاب هده الحرف والورشات إلى مجرد أجراء لدى أصحاب هذه المصانع الجديدة والكبيرة .
لكن علينا التوقف عند مسألة تطور الإختراعات والبحث العلمي، لأنه حتى ولو كان الربح الرأسمالي وراء تشجيع البحث العلمي بهدف تطوير قوى الإنتاج، إلا أن الأمانة العلمية تدفعنا إلى القول أن روح البحث العلمي لم تبدأ في آواخر القرن 18م، بل تعود بذورها إلى عصر النهظة وما قبلها عندما كان الأوروبيون يشدون الرحال إلى الأندلس لتلقي علوم المسلمين هناك، ويمكن لنا القول أن البحث العلمي في أوروبا قد مر أيضا بثلاث مراحل، فهناك عصر النهظة أين تم الإهتمام بإحياء التراث الإغريقي والروماني القديم ودراسته ونقل علوم المسلمين، لكنهم لم يتوقفوا عند عملية النقل فقط والإفتخار بتراثهم وسجن أنفسهم فيه أو الإنبهار بعلوم المسلمين، بل انتقلوا إلى مرحلة نقد تراثهم وعلوم المسلمين، وبهذا الشكل اكتسب الأوروبي روحا نقدية تجاه كل شيء، ووصل إلى حد نقد الكتاب المقدس أي الأنجيل، ونشير إلى أن ديكارت قد وضع منهجه النقدي متأثرا بأبي حامد الغزالي، وما دام النقد ينمي في الإنسان ملكة التفكير والإجتهاد والإبداع، انتقل الأوروبي إلى المرحلة الثالثة وهي الإبداع في شتى المجالات سواء كانت فكرية أو علمية أو تقنية، ولم يكتف الأوروبيون بالمجال النظري، بل أهتموا أيضا بالمجال التطبيقي متأثرين بمنهج ديكارت الذي يقول في كتابه) مقالة في المنهج( "أنه لمن الممكن الوصول إلى معرفة تطبق تطبيقا نافعا في الحياة، بحيث تترك مدارس التعليم تلك الفلسفة السكولاستسية، وتعلم فلسفة تقبل التطبيق، وتتيح لنا بعد معرفة تأثير النار والهواء والأجرام الفلكية، وكل الأجرام التي تحيطنا أن نستخدمها تحت قانونها بالذات لمصلحتنا الخاصة، حيث نتمكن من إمتلاك الطبيعة والهيمنة عليها". هذا ما جعل المفكر الجزائري مالك بن نبي يعتبر في كتابه "المسلم في عالم الإقتصاد" أن هذا التغيير في المناخ العقلي الأوروبي هو أحد أسباب النهظة الإقتصادية في أوروبا .
ولم تكتف الطبقة البرجوازية الجديدة في أوروبا بإحتواء العلماء والمخترعين، بل أمتدت يدها إلى الفلاسفة والمفكرين، فدفعتهم إلى التفكير في وضع نظام سياسي وإقتصادي وإجتماعي وفلسفي يخدم مصالح هذه الطبقة الجديدة في مواجهة طبقة النبلاء التي كانت تعرقل نمو الطبقة البرجوازية .
ولكي تحطم الطبقة البرجوازية طبقة النبلاء القديمة كان عليها أولا أن تحطم أسسها الأيديولوجية ونظامها السياسي والإقتصادي المبني على الإقطاع والحكم الملكي المطلق الذي يستند على نظرية التفويض الإلهي المقدس الذي كانت تنشره الكنيسة في أوروبا حليفة هذه الطبقة الحاكمة، وكان ذلك أحد أسباب ظهور الأفكار التنويرية التي حطمت وقوضت أسس النظام القديم، فانقسم المفكرون البرجوازيون إلى صنفين، صنف مهمتهم تحطيم أيديولوجية النبلاء بنقدها والتهكم والسخرية منها، ونجد على رأس هؤلاء فولتير، وصنف آخر أهتم بإقامة مشروع النظام البديل، ونجد على رأس هؤلاء آدم سميث في المجال الإقتصادي صاحب المبدأ الرأسمالي"دعه يعمل، دعه يمر"، ونجد في المجال السياسي مونتيسكيو وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم من الذين وضعوا أسس الديمقراطية البرجوازية. وقد سهلت روح النقد التي أمتلكها االإنسان الأوروبي، وضعف نظام الإقطاع والصراع العنيف بين الملوك والأمراء عملية تحطيم الأسس الأيديولوجية لطبقة النبلاء قبل التحطيم الشبه الكلي لهذه الطبقة ونفوذها بعد الثورة الفرنسية عام 1789 .
وكان أحد الأهداف الأساسية للطبقة البرجوازية من تحطيمها الإقطاع وأسسه الأيديولوجية هو دفع الأقنان إلى الهجرة من الأرياف إلى المدن، ومن العمل في الأرض إلى العمل في المصنع، فينتقل القن بذلك من إستغلال مباشر من الإقطاعي إلى إستغلال غير شفاف من أصحاب المصانع أي من الرأسمالي الصناعي. ونشير إلى أن هذه الظاهرة عرفتها كل النظم الرأسمالية، فحتى الحرب الأهلية الأمريكية)1860-1864( التي أراد الغرب أن يعطيها صبغة تحررية للعبيد، فما هي في حقيقة الأمر إلا صراع بين البرجوازية الصناعية التي أرادت في الشمال إستغلال العبيد الذين يشتغلون في آراضي كبار ملاك الآراضي في الجنوب، فهو صراع يشبه نوعا ما الصراع بين البرجوازية والإقطاع في أوروبا، ويتسم هذا الصراع في الغالب بالعنف والدموية، ويمكن لنا إستثناء اليابان في ذلك، أين تم الإنتتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية بطرق سلمية، فالإقطاعي نفسه هو الذي تحول إلى رأسمالي صناعي بعد ما شجعه الأمبرطور الميجي على إستثمار أمواله في إقامة الصناعة، وأن هذه الظاهرة في اليابان جديرة بالدراسة، ولعل ذلك يعود إلى الثقافة والتقاليد اليابانية .
إن إنتقال عمال الأرض إلى العمل في المصنع، بالإضافة إلى الإنفجار الديمغرافي في أوروبا جعل الرأسمالي الصناعي أكثر راحة في إستغلاله للعمال ودفع أجور زهيدة لهم، لأن هؤلاء البشر الذين تجمعوا في المدن لم يكن أمامهم إلا البحث عن عمل ولو بأجر زهيد بسبب تضخم الجيش الإحتياطي للعمال-حسب تعبير كارل ماركس-، والمتمثل في البطالين الذي يتنامى عددهم يوما بعد يوم بسبب تطور قوى الإنتاج، وقد جعلت هذه الظروف الرأسمالي يحقق أرباحا ضخمة، فبدأ يفكر في طريقة أفضل لتنمية ثروته أكثر دون أي مخاطرة أو مجازفة وبأكثر راحة له، فشرع الكثير من هؤلاء في إنشاء البنوك والمصارف في آواخر القرن التاسع عشر والإقراض بالفائدة، فأصبح المال يولد المال دون أي مجهود يذكر، فظهرت بذلك الرأسمالية المالية .
لكن هذا ليس معناه أن البنوك بدأت تظهر في آواخرالقرن 19م، فهناك الكثير من المصارف ظهرت في أوروبا من قبل هذه الفترة، لكنها لم تدم طويلا كمصرف فلورنسا، ويقول المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل في كتابه "حركية الرأسمالية" "فبعد لحظة نجاح باهر مع آل بارودي وآل بيروزي في القرن 14م، ثم آل مديسيس في القرن 15م...فإن المغامرات الخارقة التي يقوم بها المصرفيون الجنوبيون ستستمر لأقل من نصف قرن حتى سنة 1621، لتهيمن آمستردام بدورها وبنجاح صارخ على مدارات القرض الأوروبي في القرن 17م، وتنتهي التجربة هذه المرة أيضا إلى الإخفاق في القرن الموالي"، ولم تحقق الرأسمالية المالية نجاحا كبيرا إلا منذ آواخر القرن 19م عندما سيطرت البنوك والمصارف على الإقتصاد أي"عندما سيتحكم المصرف في كل شيء في الصناعة فضلا عن السلعة" .
وعرف ر-هيلفردينغ صاحب كتاب )الرأسمال المالي( الرأسمالية المالية بقوله "إن قسما متزايدا من رأس المال الصناعي لا يعود للصناعيين الذين يستفيدون منه، وهم لا يستطيعون الحصول على إمكانية التصرف فيه إلا عن طريق البنك الذي يمثل إزاءهم مالك رأس المال، ومن الجهة الأخرى يتأتى على البنك أن يوظف في الصناعة قسما متزايدا من رأسماله، وبذلك يصبح أكثر فأكثر رأسماليا صناعيا، وهذا الرأسمال البنكي أي هذا الرأسمال النقدي الذي يتحول بهذا الشكل في الواقع إلى رأس مال صناعي أسمه راس المال المالي...أي رأس المال الموجود تحت تصرف البنوك والذي يستخدم في الصناعة"، ويعتبر فلاديمير لنين أن هذا التعريف غير كاف لأن صاحبه أهمل "تمركز الإنتاج ورأس المال إلى درجة يفضي إلى الإحتكار"، وأن هذه "الإحتكارات الناشئة عن هذا التمركز وإندماج أو إقتران البنوك والصناعة، هذا هو تاريخ نشوء رأس المال المالي" .
ويقصد لنين بهذا المفهوم إمتلاك أصحاب الإحتكارات أو الشركات الكبرى رؤوس أموال في البنوك ويوظفونها، وعلى عكس ذلك أي إمتلاك أصحاب البنوك إستثمارات في الشركات الكبرى، هذا ما يمكن أن نسميه اليوم بتواجد الأنواع الثلاثة للرأسمالية وهي التجارية والصناعية والمالية، وبوجود رأسماليون كبار يمتلكون إستثمارات في نفس الوقت في التجارة والصناعة والبنوك، لكن ما لا يمكن التغاضي عنه هو أن الرأسمالية المالية هي الأقوى والمتحكمة في الإقتصاد العالمي، ويورد لنين ذاته أن 80% من المبلغ الإجمالي للأوراق المالية في العالم عام 1910 كان في يد أربع دول فقط وهي بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا، وأورد ذلك ليؤكد على مدى إحتكار المال من طرف مجموعة صغيرة أو ما أسماه "الرأسمالية الإحتكارية" التي تنشأ من قضاء الرأسماليين الكبار على الرأسماليين الصغار.
أن هذا الطرح اللنيني يتدعم اليوم أكثر فأكثر من خلال ما نلاحظه من شركات متعددة الجنسيات وأيضا تحكم 50 بنكا فقط وحوالي خمسة آلاف من المرابين العالميين في شؤون العالم، وهؤلاء يملكون 5 آلاف مليار دولار من الديون العالمية، وهي لا تشكل إلا ثلث ما يملكونه من الأموال.
ومن أكبر الآثار الإجتماعية والفكرية للرأسمالية في أوروبا هو الإستغلال الرأسمالي البشع الذي كان سببا في ظهور حركات إجتماعية وبروز الأفكار الإشتراكية التي بدأت طوباوية على يد سان سيمون وفورييه وغيرهما، لتتخذ فيما بعد شكلا راديكاليا على يد كل من كارل ماركس وفردريك أنجلس اللذان أصبحا يتحدثان عن إشتراكية علمية تعمل من أجل تقويض أركان النظام الرأسمالي، وأنتشرت بقوة هذه الأفكار في صفوف الطبقة الشغيلة والكادحين مدعمة بتزايد التناقض الطبقي الحاد بين الطبقة البرجوازية والبروليتاريا، لكن يبدو أن طبقة البرجوازية عرفت كيف تواجه ذلك بأسلوب ذكي وبآليات أنقذت النظام الرأسمالي من السقوط، بل وأكثر من ذلك أعطت رفاهية حتى للبروليتاري والكادح، وقوضت في المهد الطرح الماركسي القائل بأن الرأسمالية ستظهر في البلد الأكثر تقدما في المجال الصناعي أي أنجلترا، فما هي هذه الآليات التي أنقذت النظام الرأسمالي من الغضب الإجتماعي، ونجحت في إزدياد الرفاهية الإقتصادية للإنسان الغربي بمافيه الطبقة الكادحة مقابل إسقاط المعسكر الإشتراكي وتقويض أيديولوجيته الماركسية فيما بعد؟. هذا ما سنجيب عنه في المقالة القادمة.