تفاسير عنصرية وإستعلائية لتخلف منطقتنا


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 8103 - 2024 / 9 / 17 - 14:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أن أي نظام استغلالي في العالم يضع لنفسه إيديولوجية ومنظومة فكرية وفلسفية تستهدف الاستغلال وتحطيم روح المقاومة والرفض والثورة ضد الاستغلال لدى المُستَغلين، وفي هذا المنظور تدخل البعض من النظريات الأورو-مركزية، التي ما هي إلا نظريات عنصرية تحاول تفسير تخلف العالم الإسلامي إما استنادا إلى عنصر وثقافة ونفسية شعوب هذا العالم، وتعتبر أن هذا التخلف حتمي ودائم لا يمكن الخروج منه إلا بعامل خارجي كالاستعمار.
وتعود الجذور البعيدة لنظريات المركزية-الأوروبية إلى الثقافة الرومانية-الإغريقية التي تعتبر الآخرين برابرة، مما يجعلنا نتساءل هل ثقافة الغرب عالمية حقا كما يراها البعض؟ أم هي ثقافة خاصة أنتجها الواقع والتراث التاريخي الأوروبي ؟ .
يعتبر الإستشراق أحد أسلحة النظام الرأسمالي الغربي التي تستهدف سلب الآخر أي محاولة لرفض إستغلاله وتخلفه، كما تسعى إلى غرس عقدة النقص فيه. فإن كان الإستشراق قد ظهر في بدايته كمحاولة من الكنيسة الأوروبية لمعرفة العالم الإسلامي، فإنه تحول فيما بعد إلى أداة في يد الاستعمار للتعرف الدقيق على خصوصيات وثقافات ونفسية شعوب الشرق الإسلامي، واستغلال تلك المعرفة لوضع خطط التعامل مع هذه الشعوب، مثلما استخدم الإستشراق أيضا كمرآة يتعرف الأوروبي من خلالها على ذاته، ويقول إدوارد سعيد في كتابه "الإستشراق-المعرفة، السلطة، الإنشاء" بأن ألإستشراق "قد ساعد الشرق على تحديد أوروبا أو الغرب بوصفه صورتها وفكرتها وشخصيتها وتجربتها المقابلة"، فالإستشراق صورة الشرق كنقيض للغرب الأوروبي، ويصر في عمومه على القول بأن أوروبا ديمقراطية وعقلانية ومتحضرة ويقابلها شرق إستبدادي وخرافي ومتخلف.
وبوضع بعض المستشرقين صورة كهذه عن الشرق، نشأت لدى الأوروبي عقدة التفوق والإستعلاء مقابل عقدة النقص لدى الإنسان الشرقي، مما سيؤدي إلى إنشاء سلطة غربية على عقل هذا الإنسان تجعله يقتنع أنه لا يمكن له التقدم إلا بالتخلص من قيمة وحضارته وثقافته والاندماج في الغرب الرأسمالي روحا وفكرا ونمطا استهلاكيا...وغيرها. وقد كتب إدوارد سعيد في بحثه الممتاز حول الإستشراق عن ذلك بقوله "كان تمثيل الأوروبيين للمسلمين أو العثمانيين أو العرب، كما كانت شخصيات والترسكوت، دائما طريقة للسيطرة على الشرق المهيب، ويصدق هذا إلى حد ما على مناهج المستشرقين المعاصرين المتفهمين، الذين لم يكن موضوع دراستهم الشرق ذاته بقدر ما كان الشرق، وقد جعل معروفا، وبالتالي أقل إرهابا لجمهور القراء الغربيين".
ويذهب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر Max Weber إلى نفس طرح بعض هؤلاء المستشرقين الذين يتحدث عنهم إدوارد سعيد، فيحاول فيبر أن يفسر أن القيم البروتستانتية الأوروبية هي وراء نقل المجتمع الأوروبي إلى مجتمع صناعي، لكنه يذهب أبعد من ذلك عندما يعتبر أن قيم الإسلام كانت وراء عرقلة تحول المجتمع الإسلامي إلى مجتمع صناعي بسبب إحتقاره الحرف والتجارة وسيطرة الفكرة الأخروية وغياب القانون العقلاني لدى معتنقي هذا الدين، وقد رد عليه مكسيم رودنسون في كتابه "الإسلام والرأسمالية" عام 1966 بالقول أنه من خلال دراساته، خاصة للإسلام في جنوب شرق آسيا تبين له أنه "لا تعاليم الإسلام ولا الأيديولوجية الإسلامية تعرقل نمو روح وذهنية معرقلة للرأسمالية"، كما اعتبر المستشرق الفرنسي أرنست رينان أن الإسلام ضد العلم والعقلانية الضروريين لأي تقدم، مما جعل كلا من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني يدخلان معه في نقاش حامي الوطيس حول العلم والإسلام .
ويعتبر المفكر الفرنسي الكونت جوبينو (1819-1882) أحد رواد النظريات العنصرية في أوروبا، وذلك عندما وضع كتابه "مقالة عن عدم تساوي الأجناس البشرية" في عام 1854، يرى فيه أن حركة التاريخ من نتاج العنصر الآري أو الهندو-أوروبي، ويستدل في ذلك بقوله أن أي ملاحظ لكل الإبداعات الإنسانية في كل المجالات تدفعه إلى استنتاج أنها من نتاج عنصر واحد له فكر واحد هو العنصر الآري، وأن فقدان هذا العنصر نقاوته معناه نهاية الحضارة الإنسانية، ولأن الشعوب الآرية متحضرة ومتقدمة طبيعيا وبالوراثة عكس الشعوب السامية المتخلفة والجامدة طبيعيا .
إن القليل من العلمية والموضوعية كافية لدحض نظرية تفوق الجنس الآري، وقد دحض هذه النظرية الكثير من المفكرين والعلماء الأوروبيين عند ظهورها، ويمكن لنا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر دينكر Denker ومييMeillet ، وموللرMuller ، وهارتمان Hertmane ودوركايم Durkheimوريبلي Repleyوجان فينو Jean Vinau الذي وصفها بـ "خرافات ومزاعم باطلة"، وكذلك تارد Tarde الذي كتب "أننا إذا رجعنا إلى ماضي الأقوام التي نراها الآن في أوج العظمة والمجد –متصفة بقوة الإرادة وشدة الإقدام- وجدنا أنها كانت فقيرة ضعيفة ومحرومة من قوة الإقدام، وبعكس ذلك الأمم التي نراها الآن في حالة الانحطاط، فإننا إذا استعرضنا ماضيها، وجدنا أنها كانت مثلا للبطولة ومتميزة بروح الإقدام والمغامرة...".
وما يدحض هذا التفسير العنصري للتخلف هو وقوع دعاة نظرية الجنس الآري في مأزق عندما عجزوا عن تفسير سبب تخلف الهنود الذين هم من الجنس الهندو-أوروبي، مما جعلهم يضيفون تفسيرا جغرافيا للتخلف، فقالوا أن أوروبا الباردة هي وراء سمة النشاط والديناميكية لدى الأوروبيين، وأن الحرارة هي وراء كسل وخمول الشعوب الأخرى كالعرب والأفارقة والآسيويين، ولو أن هذا الطرح قديم إذ أورده مونتيسكيو من قبل، إلا أن غرابة الأمر هو أن الرحالة المسلم ابن بطوطة أورد نفس القول عن أوروبا، لكن بشكل معكوس، فكان يرى أن تقدم المسلمين يعود إلى المناخ الحار، أما تخلف أوروبا آنذاك يعود إلى البرودة، مما جعل المفكر سمير أمين يعلق على ذلك في كتابه "التمركز الأوروبي-نحو نظرية للثقافة-" بالقول أن " كلا الحكمين السطحيين والمتعارضين غير علميين".
نلاحظ من خلال محاولات بعض مفكري الغرب الرأسمالي تفسير تخلف شعوب منطقتنا بأسباب خاصة بهم كالعرق والثقافة والنفسية والبيئة الجغرافية، أنهم يحاولون إبعاد أي مسؤولية للاستغلال الرأسمالي الغربي لثروات هذه الشعوب، أفلا تشبه هذه الطروحات والتفسيرات ذلك الطرح والتفسير الذي يقدمه الرأسمالي الاستغلالي نفسه الذي ينهب فائض قيمة العمل للبروليتاري وعرقه وكدحه في المصنع، ثم يقول عنه أنه فقير لأنه سلبي وكسول مبعدا أية تهمة أو شبهة عن الاستغلال والنهب الذي يمارسه عليه، وقد ذهب بعض هؤلاء الإيديولوجيين الرأسماليين إلى حد استغلال الدين لتبرير تقدم أوروبا وتخلف الآخرين، فبعد ما يورد الاقتصادي ريتشارد جيل Richard T-Gill في كتابه "التنمية الاقتصادية: الماضي والحاضر" أرقاما وإحصائيات تبين مدى تزايد الفجوة الاقتصادية بين العالم المتقدم والعالم المتخلف، وبأنها تضاعفت من 15 إلى 20 مرة خلال مدة مضت قدرها قرن ونصف، فبدل أن يفسر ريتشارد جيل هذه الظاهرة علميا واقتصاديا، فإنه اكتفى بتفسير ديني، فيورد قول من الأنجيل "كل من لديه سنزيده حتى يصبح لديه وفرا، وسنأخذ مما يفتقرون حتى الذين بين أيديهم "[إنجيل متى الأصحاح 25 الآية 29]. وكأن ما يحدث في العالم من ظلم واستغلال هو حتمي ومقدر من الله سبحانه وتعالى، فهذا التعبير هي صورة عن توظيف المسيحية بهدف إستغلالي، فقد كان لعب الإكليروس المسيحي دورا لا يستهان به في مساعدة الإستعمار الأوروبي في أفريقيا، مما جعل فرانز فانون يقول عنهم بأنهم كانوا يعطون للأفارقة الإنجيل بيد، ليسلبوا منه أرضه وخيراته وثرواته باليد الأخرى.