تفسير سمير أمين لتخلف منطقتنا


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 8067 - 2024 / 8 / 12 - 12:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تطرقنا في المقالة السابقة إلى نظريات التبعية التي تفسر تخلف العالم الثالث بالتوسع الرأسمالي، ومنه منطقتنا، وقلنا في نهاية المقالة أنه لو لم نكن متخلفين لما تم إستعمار منطقتنا، وأكتفينا بالقول بأن الإستعمار ربط إقتصادياتنا بالمركز الرأسمالي، لكن لم يكن للتوسع الرأسمالي الذي أنتج الإستعمار سببا في تخلفنا كما يرى أصحاب نظريات التبعية في أمريكا اللاتينية، لأنه مادام أستعمرنا، فقد كنا متخلفيبن قبل مجيء الإستعمار الذي هو فعلا نتاج هذا التوسع الرأسمالي، وهو ما يتطلب البحث عن الأسباب العميقة لتخلف منطقتنا. فمن الجدير أن يتم البحث عن أسباب التخلف في عمق مجتمعات منطقتنا قبل الاستعمار، خاصة وأن العالم الإسلامي كانت تسوده رأسمالية تجارية مزدهرة جدا، لكن هذه الرأسمالية لم تستطع الانتقال إلى رأسمالية صناعية مثلما حدث في أوروبا .
يمكن لنا أن نستخلص ثلاث نظريات تفسر تخلفنا بعدم ظهور الرأسمالية في أوروبا وما أنتجته من إستعمار، ومنها نظرية "التطور اللامتكافئ" للمفكر الماركسي المصري سمير أمين، وكذلك نظرية "تخلف التشكيلات الاجتماعية في منطقتنا ما قبل الاستعمار" للمصري محمد السيد سعيد ، ويمكن أن نضع بينهم أيضا المفكر الجزائري مالك بن نبي صاحب طروحات القابلية للإستعمار والمسلم ما بعد الموحدين أو ما بعد الحضارة، والذي يعد أول من مهد لمفكرين آخرين اليوم للبحث في عمق مجتمعاتنا لتفسير تخلفنا بدل تفسير ذلك بالإستعمارن ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عالم الإجتماع البحريني محمد جابر الأنصاري الذي عاد إلى بن خلدون لتفسير هذا التخلف. وسنتطرق في ثلاث مقالات متتالية إلى نظريات كل هؤلاء مع نقدها، ونبدأ اليوم بنظرية "التطور اللامتكافيء" لسمير أمين .
يعتبر المفكر الماركسي المصري سمير أمين أحد دعاة نظرية التبعية في منطقتنا، لكنه تجاوز نظريات التبعية لمفكري أمريكا اللاتينية الذين تطرقنا إليهم في المقالة السابقة ، فسمير أمين يرى استحالة تحقيق النمو الاقتصادي بإتباع النموذج الرأسمالي الغربي، لأن أي اندماج في هذا النظام الرأسمالي يؤدي إلى تعميق التخلف في العالم الثالث، ويبني طرحه هذا على العلاقة الوطيدة بين رأسمالية المركز ورأسمالية الأطراف، و يرى بأن الطبقة البرجوازية في المركز متركزة حول الذات، وتستخدم علاقاتها الخارجية لخدمة مصالحها وأوطانها، أما الطبقة البرجوازية في الأطراف، فهي طبقة تابعة وفي خدمة مصالح المركز الرأسمالي، ويقول سمير أمين بحتمية إتباع الأطراف النموذج الاشتراكي وتجاوزها للرأسمالية كحل للتخلص من تخلفها .
وقد توصل سمير أمين إلى هذا الطرح انطلاقا من محاولته تجاوز نظريات التبعية التي نشأت في أمريكا اللاتينية ومحاولة تفسيره كيفية إنتقال أوروبا إلى الرأسمالية رغم تخلفها الكبير مقارنة بالعالم الإسلامي في القرون الوسطى، والذي كان يمثل مركز النظام العالمي آنذاك، وكان يسوده النمط الخراجي الأكثر إكتمالا، ويستحيل على أصحاب هذا النمط الإنتقال إلى نمط إنتاج رأسمالي عكس نمط الإنتاج الإقطاعي الذي كان سائدا في أوروبا والذي كان يمثل طرف النظام العالمي التابع والضعيف وغير المكتمل، مما سهل عليه الانتقال إلى نظام رأسمالي وتجاوز النظام الخراجي الذي كان سائدا في العالم الإسلامي المتقدم آنذاك، ويفسر ذلك بالقول في كتابه الشهير"التطور اللامتكافيء-دراسة في التشكيلات الإجتماعية للرأسمالية المحيطة" بأن"أوروبا الباربرية كانت متخلفة بالنسبة لمناطق الحضارة القديمة، فإن نمط إنتاج خراجي ناجز لم يكن يستطيع أن يقوم فيها، فالإقطاعية تكونت إذن في شكل جنيني غير ناجز لهذا النمط الخراجي، وغياب السلطة المركزية القوية التي تمركز الفائض أعطى للأسياد الإقطاعيين المحليين سلطة مباشرة أكثر على الفلاحين، وهكذا كانت ترجع إليهم الملكية الأساسية للأرض، بينما كانت الدولة في نمط الإنتاج الخراجي الناجز للحضارات العظمى تحمي في هذا المجال الجماعات القروية"، ولهذا فإن التجار المسلمين الذين تركزت لديهم النقود لم يجدو العمال في المدن لإستغلالهم عكس ما حدث في أوروبا أين تحول الفلاحون الذين هربوا من الظلم الإقطاعي أو طردهم الأسياد الإقطاعيين إلى بروليتاريا في المدن "تحت طلب التجار الذين يتحكمون بهذه المدن. وهكذا رأينا ازدهار الإنتاج البضاعي الحرفي والإنتاج البضاعي الذي يستعمل العمل المأجور تحت سيطرة التجار"(صص30-31).
ويتوصل سمير أمين إلى القول بأن نمط الإنتاج الخراجي السائد في العالم الإسلامي أثناء العصور الوسطى عاجز عن الإنتقال إلى الرأسمالية لأنه مكتمل وناجز ومتطور، وذلك على عكس نمط الإنتاج الإقطاعي الغير مكتمل في أوروبا المتخلفة آنذاك، فبناء على هذه الملاحظات وضع سمير أمين نظريته "التطور اللامتكافئ"، والتي تقول بأن تغيير أي نظام اقتصادي عالمي نحو الأفضل لا يتم انطلاقا من مركزه المتقدم، بل يتم من محيطه وأطرافه المتخلفة لأن- حسبه- "كل تاريخ الإنسانية يعلمنا أنه ليس تعاقبيا، فقد كانت الحضارات الأقدم والأعظم لعالم ما قبل الرأسمالية، حضارات الصين ومصر، منظمة بطريقة تضمن لها في الوقت نفسه الاستقرار والمرونة الكفيلين بتمكينها من استيعاب التقدم المستمر، لكن البطيء والمحدود للقوى المنتجة، وبهذا المعنى يستحق نموذج هذه الحضارات أن يسمى بالنموذج الناجز. بالمقابل لم يكن للحضارات لما قبل رأسمالية التي تكونت بصورة مستقلة، على أثر هذه المجتمعات وفي محيطها صفة الإنجاز. وهذه الحضارات الأقل لمعانا، تصبح لهذا السبب بالذات الأكثر استعدادا لإبداء أشكال تنظيم جديدة، ملائمة أكثر للرد على احتياجات تطور متفوق للقوى المنتجة، وهكذا يوحي تاريخ ميلاد الرأسمالية بقانون تطور لامتكافيء يقضي بأن تجاوز أي نظام لا يتحقق في مركزه ولكن انطلاقا من محيطه"(ص ص6-7).
وبناءً على هذه النظرية توقع سمير أمين في بداية سبعينات القرن العشرين أن العالم سينتقل من نظام رأسمالي عالمي إلى نظام اشتراكي عالمي لأن "برجوازية المركز...تستغل البروليتاريا في كل مكان، في المركز والمحيط، لكنها تستغل بروليتاريا المحيط بصورة أكثر وحشية... أن تكوين النظام العالمي كما هو عليه الآن لم يساعد فقط على نمو تيارات اشتراكية في المحيط، ولكنه أدى إلى تحول النواة الرئيسية للقوى الاشتراكية من المركز إلى المحيط، إنه لواقع إن التحولات في إتجاه اشتراكي لم تفتح ثغرة إلا في محيط النظام، ونكران ذلك يعني نكران تغيرات النظام على المستوى العالمي، ويعني نكران وجود نظام عالمي في النهاية"(ص153).
إن كان سمير أمين قد وفق -في نظرنا- عند تناوله العلاقات بين المركز الرأسمالي والأطراف الرأسمالية التابعة، فإنه يبدو لنا أنه قد حاول من خلال ملاحظات خاصة بالفترة ما قبل الرأسمالية، وهو المقارنة بين ما أسماه نمط الإنتاج الخراجي في الشرق ونمط الإنتاج الإقطاعي في أوروبا ليضع قانونه "التطور اللامتكافئ"، ويستنتج على أساسه أن النظام الاشتراكي هو الذي سيسود العالم بعد انهيار الرأسمالية، وستتم عملية الانتقال انطلاقا من العالم الثالث بصفته أطراف النظام الرأسمالي العالمي .
ولعل سمير أمين كان منبهرا في السبعينيات من القرن الماضي بمدى تبني الكثير من أنظمة العالم الثالث للنظام الاشتراكي، ويبدو لنا أنه قد تناسى ظروف تبنى بعض بلدن العالم الثالث للنظام الاشتراكي والمتمثل في اعتبار النظام الرأسمالي مرتبطا بالنظام الاستعماري، كما هي محاولة من بعض الأنظمة الإستناد إلى الاتحاد السوفياتي لمواجهة الغرب الاستعماري.
ولم يتمكن سمير أمين التنبؤ بمصير الإشتراكية وإنهيارها في العالم وعجزها عن إخراج العالم الثالث من التخلف، وأنها قد ولدت كرد فعل على الرأسمالية ذاتها في أوروبا، كما غاب عن سمير أمين بأن فكرته قد قال بها لنين قبله، وطبقت بعد1917 في روسيا التي تعتبر أيضا طرفا من أطراف المركز الرأسمالي مثلها في ذلك مثل العالم الثالث الذي يتحدث عنه سمير أمين، وقد أنهار النظام السوفياتي بعد 70سنة لعدة أسباب قد سبق لنا تفسيرها في عدة مقالات من قبل، وهو ما جعل البعض يعودون إلى ماركس وفكرته القائلة بأن الإشتراكية تنتصر في البلدان الأكثر تصنيعا، والتي بلغت أوج الرأسمالية التي هي مرحلة ضرورية يجب المرور عليها قبل المرحلة الإشتراكية، ولعل هذا ما يفسر عودة الصين الشعبية إلى هذه الفكرة الماركسية بعد وفاة ماوتسي تونغ، وقد شرحنا ذلك بإسهاب في مقالتنا "هل تخلت الصين عن الماركسية؟-قراءة في نموذجها"(الحوار المتمدن عدد7847 بتاريخ 05جانفي2024).