كيف أنقذ الإستعمار النظام الرأسمالي في الغرب؟


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 8039 - 2024 / 7 / 15 - 12:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

طرحنا في نهاية المقالة السابقة إشكالية عدم تحقيق نبوءة ماركس القائلة بأن الإشتراكية ستظهر في الدول الأكثر تصنيعا، وللإجابة على ذلك يجب علينا أن نشير إلا أن للرأسمالية أزمات دورية حادة تظهر في فترات محددة، لكن هذه الأزمات الدورية لا تقضي عليها بسبب إمتلاكها قدرة فائقة على التكيف وخلق آليات الإستمرارية والتوسع. فهناك عدة عوامل وراء إستمراريتها، ويأتي على رأسها لجوء البلدان الرأسمالية إلى إستعمار البلدان المتخلفة التي ستحولها فيما بعد إلى مجرد أطراف للمراكز الرأسمالية وفي خدمتها.
لم يكن الهدف من الإستعمار هو فقط البحث عن المواد الأولية ومناطق للإستثمار والأيدي العاملة الرخيصة والأسواق لتصريف منتجاتها كما يقول الأنجليزي جون هوبسن في كتابه " في الإستعمار" الذي نشره عام 1902، بل كان الإستعمار أيضا وسيلة لتحسين الظروف المعيشية المزرية للطبقات الكادحة في أوروبا والحد من الغضب الإجتماعي الذي سيؤدي حتما إلى ثورات إجتماعية ضد النظام الرأسمالي ولصالح الأفكار الإجتماعية الجديدة التي بدأت تنتشر هناك مثل أفكار سان سيمون وفورييه وبرودون في فرنسا، وكذلك روبرت أوين في أنجلترا ثم ماركس وأنجلس وغيرهم.
ولم يخف الكثير من دعاة الإستعمار ومنظريه في القرن 19م علاقة دعوتهم بإنقاذ دولهم من ثورات إجتماعية، فيقول المنظر الإستعماري الأنجليزي سيسل رودس عام 1895 "كنت بالأمس بلا يست أند )وهوحي العمال في لندن(، وحضرت إجتماعا من إجتماعات العمال العاطلين، وقد سمعت هناك خطابات فضيعة كانت من أولها إلى آخرها صرخات الخبز ! الخبز !، وأثناء عودتي إلى البيت كنت أفكر بما رأيت، وتبينت أوضح من السابق أهمية الإستعمار...وأن الفكرة التي أصبو إليها هي حل المسألة الإجتماعية، أعني لكي ننقذ أربعين مليونا من سكان المملكة المتحدة من حرب أهلية مهلكة، ينبغي علينا نحن الساسة طلاب المستعمرات أن نستولي على آراض جديدة لنرسل إليها فائض السكان، ولنقتني ميادين جديدة لتصريف البضائع التي تنتجها المصانع والمناجم، فالأمبرطورية وقد قلت مرارا هي مسألة البطون، فإذا كنتم لا تريدون حربا أهلية ينبغي عليكم أن تصبحوا إستعماريين" .
أما الكاتب الفرنسي فاهل Wahl فيرى أن الإستعمار كان " نتيجة إشتداد تعقد الحياة والصعوبات، التي لا تضغط على جماهير العمال وحسب، بل وعلى الطبقات الوسطى، يتراكم في جميع بلدان المدنية القديمة الضجر والنقمان والأحقاد مهددة الأمن العام، وطاقة خارجة عن مجراها الطبقي...ينبغي حبسها لإستخدامها في الخارج كي لا تتفجر في الداخل"، ونجد نفس الطرح لدى المدافعين عن الإستعمار الفرنسي للجزائر مثل الشاعر لامارتين ودي طوكفيل وغيرهم .
فقد حول الإستعمار البلدان المستعمرة إلى أكبر خادمة ومنقذة للإقتصاد الرأسمالي العالمي من خلال عدة آليات وأساليب، وتتمثل في:
1-نهب ثروات المستعمرات: لا يمكن لأحد أن ينكر عمليات النهب الكبيرة التي تعرضت لها ثروات المستعمرات، فمثلا أخذت بريطانيا من الهند أثناء الحرب العالمية الأولى ما قيمته 217 مليون جنيه أسترليني من المواد الخام والغذاء فقط، وقال الإقتصادي لورد كينز في كلمة ألقاها في مؤتمر بريتون وودز عام 1945 "أننا لشاكرون لهؤلاء الحلفاء، وعلى الأخص أصدقاؤنا الهنود الذين وضعوا تحت تصرفنا مواردهم بدون تقتير، وارتضوا لأنفسهم الحرمان من أجل ذلك، إن جهدنا الحربي كان يصيبه الإرتباك لدرجة جدية، بل ربما لدرجة خطيرة، لو أنهم أحجموا عن معاونتنا معاونة صادقة وعلى نطاق واسع" .
2-تحقيق أرباحا ضخمة جدا من خلال الإستثمار في الصناعات الإستخراجية، فمثلا جمع الملك البلجيكي ليوبولد الثاني مامقداره 30 مليون دولار كأرباح على الإستثمار في إستخراج المطاط والعاج في الكونغو، وجنت بريطانيا أرباحا قدرت ب129 مليون جنيه أسترليني سنويا من جراء إستثمارها قيمة 840 مليون جنيه أسترليني في الصناعات الإستخراجية في جنوب أفريقيا عام 1955.
3-دفع أجور زهيدة جدا لعمال المستعمرات مقارنة بالعمال الأوروبيين: فمثلا العمال المغاربة والجزائريون يأخذون أجرا لا يتجاوز على أقصى تقدير 25% من أجر الأوروبي، ولا يتجاوز أجر العامل النيجيري شلن واحد في اليوم وهو ما يقابل أجرة ساعة للأوروبي.
4-التبادل غير المتكافيء من جراء التقسيم الدولي للعمل: قام الإستعمار بالتقسيم الدولي للعمل، حيث فرض على البلدان المستعمرة إستخراج المواد الأولية وإنتاج المحاصيل الزراعية النقدية مقابل تحويل البدان الإستعمارية لهذه المواد إلى سلع أو مواد مصنعة، وهذا ما أدى إلى مايسمى بالتبادل الغير متكافيء، حيث يبيع العالم الثالث مواده الإستخراجية والزراعية بأسعار بخسة مقابل شراء مواد مصنعة بأسعار عالية، ومما يدل على إختلال التوازن يوما بعد يوم بين أسعار المواد الأولية والمواد المصنعة، نجد مثلا أن الإنسان من العالم الثالث يشتري سيارة جيب ب14 كيس من البن في عام 1954، ويشتري نفس السلعة في عام 1962 ب39 كيس من البن، ويقول الفرنسي بيير جاليPierre Jalée في كتابه "الأمبريالية في1970 L’impérialisme en1970"(ص61) بأن العالم الثالث قد خسر ما بين عامي 1954 و 1965 نسبة 19 % من تبادله مع العالم المتقدم، ولهذا يجب عليه كي يشتري عام 1965 على نفس سلعة عام 1954 عليه أن يبيع نفس كمية المواد الأولية التي باعها عام 1954 ويضيف لها نسبة 19% من الكمية المباعة عام 1954، وكان هذا التقسيم الدولي المجحف، وما أنجر عنه هو الذي دفع الرئيس الجزائري هواري بومدين بصفته ممثلا لحركة عدم الإنحياز يطالب في خطاب له أمام الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة عام 1974 بإعادة النظر في النظام الإقتصادي العالمي قائلا بأن هذا النظام قد وضعه الإستعمار في غياب عالم الجنوب أي العالم الثالث الذي كان مستعمرا.
وقد أختلفت النظريات المفسرة لهذا التبادل الغير متكافيء بين العالم الثالث والعالم المتقدم، إلا أنها تكاد تجمع على أن سببها الرئيسي هو هذا التقسيم الدولي للعمل وربط الإستعمار لإقتصاديات البلدان المستعمرة بالغرب الرأسمالي، فجون لابنز Labnes Jeanمثلا يقول في كتابه "سوسيولوجية الفقرsociologie de la Pauvreté "(ص ص291-292) بأن البلدان المصنعة تملك سوقها الخاص وإقتصادها متمركز حول الذات، أي هي التي تتحكم فيه، لكن البلدان المصدرة للمواد الأولية تابعة للسوق الخارجية ومحرك إنتاج هذه المواد هو الخارج، أي حاجة الصناعة الغربية، وهو ما يدفع بلدان العالم الثالث إلى التهميش الإقتصادي في الكثير من الأحيان خاصة في حالة عدم حاجة هذا الغرب الرأسمالي إلى هذه المواد الأولية، وهو ما يطلق عليه الكثير من الإقتصاديين بالتبعية الإقتصادية للغرب الراسمالي .
ويذهب رمزي زكي في كتابه "التاريخ النقدي للتخلف" (ص201) إلى نفس الطرح تقريبا بقوله "أن الشطر الأعظم من التجارة الخارجية للدول الرأسمالية يتم بينها، إلا أن غالبية تجارة البلاد المتخلفة تصديرا وإستيراد لا تتم بينها، وإنما مع البلاد الرأسمالية الصناعية، ودلالة هذا الإختلال في التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية للبلاد المتخلفة، هو أن تلك البلاد ترسف في أغلال التبعية للمراكز الرأسمالية الصناعية، حيث تتأثر صادراتها بشكل محسوس تبعا لحالة الدورة الإقتصادية بهذه المراكز" .
أما ألجيري إيمانويلAlghiri Emmanuel فيذهب أعمق من ذلك إذ يقول "في لحظة من لحظات مسيرتها وجدت الرأسمالية في طريقها الإنسان المتخلف الذي خرج منذ عهد قريب من العصر القبلي من ناحية حاجاته، لكنه في نفس الوقت له عشر أصابع وذراعان مثل الإنسان المتقدم، وله نفس العقل ويفكر مثله، فمن خلال الفرق بين طاقة الإنسان المتخلف في إستعمال الآلات الحديثة وفي نفس الوقت ليس له حاجات هذا العصر، تأتي الأرباح من التبادل اللامتكافيء للعالم المتقدم"، وشرح كارلوس روميو هذه الفقرة بقوله" أن التبادل اللامتكافيء يتلخص في مقايضة بين كمية قليلة من العمل ذات أجر مرتفع )أي سلعة العالم المصنع( مقابل كمية كبيرة من العمل ذات أجر منخفض )أي سلعة العالم الثالث( ".
يتبين لنا مما سبق أن العامل الإستعماري هو العامل الرئيسي الذي كان وراء تحسين المستوى المعيشي لكل سكان البلدان الإستعمارية بما فيها الطبقة المحرومة منهم الذين كانوا يهددون النظام الراسمالي الغربي، فبفضل الإستعمار تمكن الرأسمالي من نقل نهبه وإستغلاله لعمال بلده إلى نهب وإستغلال ثروات وعرق عمل الشعوب المستعمرة، ثم يعيد توزيع جزء من منتوج العمل الإجتماعي الكلي للمستعمرات على طبقات العمال في الغرب على شكل خدمات إجتماعية وأجور عالية، وبتعبير بسيط كان الرأسمالي الغربي يوزع جزءا مما نهبه من المستعمرات على البروليتاري والمحروم في البلاد الإستعمارية، وعادة ما كان يتم ذلك تحت ضغط النقابات العمالية، وقد حافظ هذا التوزيع على نوع من الإستقرار والتوازن الإجتماعي في هذه البلدان، لكن السؤال المطروح هو كيف أستطاعت هذه البلدان الرأسمالية الكبرى الحفاظ على هذه الرفاهية رغم خروجها من البلدان المستعمرة فيما بعد؟، هذا ما سنجيب عليه في المقالة القادمة .