شيوخ الصوفية والتعليم المملوكى : ( المؤلفات العلمية للطلبة / أثر التصوف فى انحدار التعليم )


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 8020 - 2024 / 6 / 26 - 19:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

شيوخ الصوفية والتعليم المملوكى : ( المؤلفات العلمية للطلبة / أثر التصوف فى انحدار التعليم )
كتاب : أثر التصوف المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثانى :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )
أثر التصوف فى التعليم
شيوخ الصوفية والتعليم المملوكى : ( المؤلفات العلمية للطلبة / أثر التصوف فى انحدار التعليم )

المؤلفات العلمية التى تعلمها الطلبة :ـــ
أولا :
يمثل القرن التاسع عشر ازدهار التصوف في العصر المملوكي، وفيه تمت سيطرته على شئون التعليم ومقرراته . لذا يمكن معرفة العلوم التي درست للطلبة من خلال ما كتبه السخاوي الذي ترجم لأعلام القرن في سفره الضخم (الضوء اللامع)، ونختار من بين آلاف التراجم ترجمة لأحدهم ، وهو أبو المجد الطلخاوي، يقول فيه ( نشأ بطلخا فقرأ القرآن ومختصر أبي شجاع ، وتلقن الذكر من يوسف الزهري أحد أصحاب الغمري الكبير ، ثم قدم القاهرة وأقام بالأزهر ، فجوّد القرآن ، وحفظ المنهاج ، وألفية النحو والفقه الفرائض لابن الهائم واللمحة للعفيف في الطب. وغالب جمع الجوامع والفقه والحديث والتلخيص ، وأخذ الفرائض والحساب والميقات والهندسة والجبر والمقابلة وحل الشمس .. عن الشهاب السجيني وراجع ابن الجيعان في شيء من الفرائض والحساب والبيئة مع الرياضيات .... وأخذ الحرف عن ناصر الدين بن قرقماس والرمل عن التحريري والفقه عن العبادي والوردي)، وكان من تلامذة المخلوى في الحديث) وعن هذه العلاقة أورد السخاوي تفصيل حياته العلمية .( الضوء اللامع 3 / 115 ).
وبهذا النص يمكن ان نخرج بالنتائج الآتية :ـــ
1 ـ انه تلقى تعليمه الأولى في بلدته مقترنا بالتصوف حيث : ( تلقى الذكر عن يوسف الأزهري أحد أصحاب الغمرى الكبير) وإلا أدل على أهمية ذلك بالنسبة لموضوعنا هو ان تعليمه الأولى إشتمل الى جانب التصوف ـ حيث تتلمذ على أحد أتباع الشيخ الغمرى أحد الصوفية الكبار هناك ـ بالاضافة الى قراءة القرآن ودرس مختصر ابي شجاع في الفقه ) ..
2 ـ ان أثر التصوف لازمه في القاهرة بعد نشأته في بلدته، فهو يحفظ العلوم مع اختلافها من فقه وحديث وطب ونحو ، ثم هو بعد ذلك يدرس على الحرف وعلم الرمل ولا يجد تعارضا بين ذلك وبين دراسته للفقه. و ( الحرف ) و ( الرمل ) من ( علوم ) التحايل والخراف . وقد ضمت هذه العلوم المتون مع الشرح المستفيض ومراجع دراسته مع جمع الجوامع والفروع المختلفة للعلم الواحد ...
3 ـ وفي القاهرة والأزهر تدرج علميا فأصبحت قراءة القرآن تجويدا ، واتسعت دراسته للفقه من بعد مختصر ابي شجاع الى دراسة الفرائض وكتب الفقه المختلفة على أساتذة مختلفين مع علوم أخرى.
4 ـ إن الدراسة في القاهرة شملت علوما كثيرة لم يدرس بعضها في القرن الرابع من الهجرة، ثم تعارضها مع بعضها بحيث يتعذر الجمع بينها كالفقه مع علمى الحرف والرمل. ولا يمكن التبحر في تلك العلوم كلها من نحو وطب وحديث وحساب وهيئة وهندسة ومقابلة . والواضح ان العلوم سارت على مبدأ الأخذ من كل علم بطرف . وربما اتخذت دراسة الفروع الكثيرة من الرياضة (كالحساب والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة) لخدمة العلوم الأخرى التي اشاعها الصوفية في العصر كالحرف والرمل ، بل ان دراسة فروع الرياضة كانت متقدمة على اخذه لعلم الحرف (عن ناصر الدين بن قرقماس عن التحريري) كما يقول السخاوى .
ثانيا :
1 ـ والشعراني كصوفي متعلم ، بدأ يحفظ كتب الفقه والعلوم ، ثم طالع باختياره في كتب الشريعة ، فحفظ أولا المتون كأبي شجاع والأجرومية والمنهاج وألفية ابن مالك وتوضيح ابن هشان وجمع الجوامع) ثم الفيه العراقي، ثم تلخيص المنهاج ثم الشاطبية ثم قواعد ابن هشام. ثم ارتفعت الهمة على حد قوله ــ الى حفظ كتاب الروض من مختصر الروضة ..... وعدد من المنن مطالعته في كتب الشريعة ) ..
2 ـ وذكر السبكي كتب التصوف التي كانت تدرس في المواعيد مثل )احياء علوم الدين ورياض الصالحين والأذكار للنووى وصلاح المؤمن في الأوعية لابن الامام وشفاء الاسقام في زيارة خير الانام للسبكي وكتب ابن الجوزي في الوعظ ) .
أخيرا :
1 ـ واضح إنه لم يكن هناك منهج محدد للتدريس فى مراحله المختلفة ، فكان لمالك المؤسسة التى يجرى فيها التدريس أن يقرر المناهج كيف شاء بنفس حريته فى توزيع المرتبات .
2 ـ وعلى هذا النظام تخرج الأساتذة في العصر المملوكي ثم العصر العثماني بعده الا أن عوامل أخرى عجلت بانهيار التعليم في العصر المملوكي ....
اثر التصوف فى انحدار التعليم :ـــ
1 ـ بإنحدار المستوى العلمى إنحدر مستوى التعليم بنفس القدر . وعجلت أسباب بانهياره ، منها :
1 / 1 : بيع الوظائف فابن خلدون تنازل عن درس الحديث في الصرغتشية لعبد الرحمن التفهني نظير مال )
1 / 2 ـ الرشوة ( وابن المحرة درس بخانقاه شيخون بمال )
1 / 3 ـ واستشرت المحسوبية في التعيين بالوظائف ، وبرز الصوفية اعتمادا على صلاتهم بالسلاطين والأمراء، فالحافظ علاء الدين مغلطاي لازم الجلال زيني فتكلم مع السلطان فولاه تدريس الحديث بالظاهرية ) وكان حاجى فقيه شيخ مشايخ الظاهرية (عريا عن العلم الا ان له اتصالا بالترك كدأب غيره ) وتولى الهوريني مشيخة الخانقاه القوصونية حين تزوج قرابة الشيخ شمس الاصبهاني ) ودرس ناصر الدين بن الدرديري (ففخم أمره بمصاهرته ، ووجد أبوه بذلك سبيلا الى تقديمه للتدريس مع صغر سنه وخلو وجهه عن الشعر جملة ) .
1 / 4 : وأصبح الابن يرث التدريس عن ابيه ، فنزل السراج البلقيني لابنه عبد الرحمن عن عدة وظائف وهي تدريس الخشابية والميعاد بالظاهرية ) وهذا شبيه بتوريث الولاية الصوفية ، وبعد موت قاريء الهداية اعطى السلطان برسباي تداريسه معها لابنه الصغير (واستنابوا عن ذلك في الوظائف فانه كان صغيرا جدا ) ، أى جعلوا آخرين ينوبون عن هذا الطفل الى أن يكبر . ويذكر ان قاريء الهداية تمتع في حياته بالثراء من كثرة وظائفه ) .
2 ـ ولقد اثار بيع التداريس ثائرة بعض السلاطين ، يقول المقريزي في حوادث سنة 835 : (نودى بألا ينزل احد من الفقهاء عن وظيفته أو أى شىء من الأوقاف، وهُدّد من ينزل منهم عن وظيفة . فامتنعوا عن النزول ثم عادوا كما كانوا ، ينزل هذا عن وظيفة من الطلب في الدروس او التصوف في الخوانق أو القراءة أو المباشرة بالمال في الخوانق الى غير أهلها ويحرمها مستحقوها ، فان الوظائف المذكورة صارت بأيدي من هي بيده بمنزلة الأموال المملوكة ، فيبيعها اذا شاء ويسمى بيعها نزولا عنها ويرثها من بعده صغار . وسرى ذلك حتى في التداريس الجليلة والأفكار المعتبرة وفي ولاية القضاء والاعمال، يليه الصغير بعد موت أبيه ، ويستناب عنه ، كما يستناب في تدريس الفقه والحديث في نظر الجوامع ومشيخة التصوف..) ويعلق المقريزى فى حسرة قائلا : ( فيا نفس جدّى إن دهرك هازل .!! ) .
أخيرا
1 ـ مع هذا الفساد والتردّى العلمى فقد كانت هناك حركة تعليمية فى العصر المملوكى ، ولا تزال معظم المؤسسات المملوكية الصوفية ترصّع القاهرة والمدن الكبرى ، وتشكّل أهمّ الآثار . السبب هو الأوقاف ( الأهلية ) .
2 ـ تنقسم الأوقاف الى نوعين : ( أهلية ) و ( خيرية ).
2 / 1 : الأوقاف الأهلية كانت هى السائدة والرّائجة . ففى عصر التصارع على السُّلطة وانعدام الأمن ، كان الوصول للسلطنة والاحتفاظ بها ، والترقى فى مناصب الإمارة والمناصب الكبرى يعنى المكسب والخسارة . والخسارة تعنى مصادرة الثروة لصالح المنتصر . لذا إخترعوا نظام الوقف الأهلى ، أى يقوم الأمير المملوكى أو السلطان أو صاحب المنصب الديوانى أو الدينى بوقف ممتلكاته من أراض وعقارات تدرُّ دخلا على منشأة صوفية ، ويجعل لنفسه حق إدارتها ، وبذلك يضمن ألا يفقد ممتلكاته ، ويضمن أن يكون دخلها له ، والواقع إن جزءا منها فقط هو الذى ينفقه على تلك المؤسسة ، والباقى له . وكل ذلك مسجّل فى وثيقة الوقف .
2 / 2 : أما الوقف الخيرى فهو تبرع وتنازل عن الممتلكات لتكون وقفا على مؤسسة ما .
3 ـ بسقوط الدولة المملوكية وتحول مصر الى ولاية عثمانية إنهارت أوقاف السلاطين والأمراء ، وتم تخريبها ، فتعطلت المؤسسات التى كانت تعتمد عليها ، وانتهى دورها التعليمى . وبقيت فقط الأوقاف الخيرية ، وكان معظمها يتوجّه الى الأزهر ، لذا بقى الأزهر يمارس دوره فى العصر العثمانى ..وما بعده . ثم قام عبد الناصر بالاستيلاء على الوقاف وتحويل الأزهر الى مؤسسة حكومية .
4 ـ ولا تزال مصر تحمل على كاهلها الأزهر يعرقل مسيرتها .