فضح إستراتيجية ماكرون-ستورا تجاه ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا
رابح لونيسي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7553 - 2023 / 3 / 17 - 15:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يعد المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا عنصرا رئيسيا ومؤثرا في رسم السياسة الفرنسية تجاه ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا بحكم علاقاته الوطيدة بصناع القرار الفرنسي، خاصة مع الإشتراكيين من قبل أو مع ماكرون بعد توليه السلطة. فقد كان وراء وضع تقرير هام حول الذاكرة، والذي تحول إلى منهج يسير عليه الرئيس ماكرون تجاه هذا الملف. فعندما يتحدث ستورا عن عدم قيام أحد أبرز قادة اليمين المتطرف، وهو جون ماري لوبان بممارسة التعذيب في الجزائر، فهذا الكلام ليس بريء، بل يدخل في إطار تمهيد الأذهان وتحضيرها لإعادة النظر في بعض المسلمات والبديهيات التي من المفروض أن لا يثار عليها أي إختلاف، ومنها قضية التعذيب في الجزائر التي هي بديهية تماما، ويستحيل أن ينفيها أي كان سواء كان جزائريا أو فرنسيا، فقد أعترف بها الجميع دون إستثناء. وقد بررها أبرز قادة الجيش الفرنسي في حينها بالقول أن ممارسة التعذيب ضرورة لا يمكن التخلي عنها، وذلك بهدف إنتزاع معلومات يمكن حسبهم إيقاف وإجهاض عمليات عسكرية وفدائية للثوار الجزائريين يمكن أن تؤدي إلى موت أشخاص، وبتعبير آخر كانهم يقولون بأن ممارسة التعذيب في أقصى حدوده عند الجيش الفرنسي هدفه إنقاذ أرواح بشرية. ونعتقد ان محاولة ماكرون الأخيرة ودعوته لوضع الأرشيف الخاص بالإستنطاق في الجزائر الهدف منها هو تبرير ممارسات التعذيب لأن المطلع على هذا الأرشيف سيجد كيف أن عملية إستنطاق مجاهدين أدت إلى إكتشاف مخططات وعمليات يحضرها الثوار الجزائريين، ومكنت الجيش الإستعماري من إفشالها، طبعا إضافة إلى محاولة إدخال شكوك حول مجاهدين وقادة أدلوا بإعترافات عن تلك العمليات لإحداث نوع من بلويت بين جزائريين وتشويه مجاهدين لأن الكثير من أبناء الشعب الجزائري اليوم لايعلم للأسف الشديد بأن قيادة الثورة كانت تطلب من كل مجاهد يلقى عليه القبض الإدلاء بالإعترافات بعد 24 ساعة من وقوعه في قبضة الجيش الإستعماري، فما عليه إلا الصمود لعمليات التعذيب هذه المدة فقط.
أثار الكثير من اللبيراليين الفرنسيين ممارسات التعذيب في الجزائر، مما دفع السلطات الإستعمارية إلى قمع الكثير من هؤلاء الإعلاميين والمثقفين، كما أستقال قادة عسكريون بسبب هذه الممارسات، وعلى رأسهم الجنرال دولابولارديير، وألفت كتب من أشخاص تعرضوا للتعذيب كسياسة إذلال، وليس لجمع المعلومات، فإن كان أحد مثل هنري علاق يصور ما مورس عليه من بشاعة في كتابه "السؤال"، فماذا سنقول عن جزائريين بسطاء إن كان الهدف هو منع عمليات تنوي الثوة القيام بها، كما أن هناك كتاب "العفن" لمجموعة من الجزائريين، وعلى رأسهم بشير بومعزة اين صور هؤلاء بالتفصيل التعذيب الممارس عليهم وعلى آخرين في السجون الفرنسية. فهناك من صور ذلك بكل بشاعة كشهادات لجزائريين وأيضا لفرنسيين مثل كتاب "في مزرعة أمزيان" وغيرها. كما لا ننسى ما تم تصويره عالميا أنذاك أثناء المحاكمات مثل محاكمة جميلة بوحيرد، وما قاله محاميها جاك فيرجيس. ونذكر مثلا ما روته لويزة إغيل أحريز لجريدة لوموند الفرنسية، فلنشر أيضا إلى إعتراف بول أوساريس في مذكراته بممارسة التعذيب وآخرين أيضا من قادة الجيش الفرنسي الذين ادلوا بإعترافات كتأنيب ضمير في آواخر حياتهم بشكل يشبه إلى حد ما إعترافات المتدين المسيحي بذنوبه أمام الرهبان.
لا يمكن لنا سرد كل الشهادات حول التعذيب سواء من جرائريين تعرضوا له أو من ضباط فرنسيين اشرفوا عليه أو شاهدوه، وعاشوه فهي بالمئات، فيكفي فقط جمع هذه الشهادات المتناثرة هنا وهناك. كما نجد أيضا شهادات لما عانه الكثير من الجنود والضباط الفرنسيين نفسيا، وسردوه إلا لكي يتخلصوا من مرض نفسي أصيبو به مما شاهدوه من ممارسات يندى لها الجبين. وقد كتب المؤرخ الفرنسي بيير فيدال ناكي عن التعذيب بتفاصيل كبيرة في عدة كتب له، وذلك منذ 1964 اين نشر اول كتاب له حول الموضوع بعنوان "من منطق دولة". فلاننسى أنه عندما جاء الجنرال دوغول إلى الحكم في 1958 لمح بشكل غير مباشر بأنه سيتخلى عن تلك الممارسات التي أضرت بسمعة فرنسا وجيشها، وذلك من خلال إنشائه ما سمي بّ " لجنة الحريات وحقوق الإنسان" التي ترأسها في البداية ميشال دوبري قبل ان يصبح وزيره الأول بناء على ما ورد في تقرير "الكتاب الأحمر" الذي وضعته الحكومة الفرنسية في جويلية 1958 أي في بداية حكم دوغول عن المساس بالإنسان في الجزائر وممارسة التعذيب عليه بما فيهم فرنسيين ساندوا الثورة الجزائرية، لكن رغم ذلك التلميح والنية الديغولية في إنهاء ذلك فإن ما مورس في عهد دوغول من تقتيل وتعذيب كان أكبر من قبل، وهو ما يثبت أن تشكيل أي لجنة لهدف إيجابي نجده مجرد غطاء لممارسات أبشع وأكثر سلبية.
فقد عبر الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، وأعطى صورة وافية عن ممارسات التعذيب في الجزائر من خلال عنوان كتابه "عارنا في الجزائر"، وهو تعبير عن خشية الكثير من الفرنسيين أن تخلق ممارسات التعذيب جيل مريض نفسيا، ويمكن أن يدفع فرنسا إلى نظام نازي يتحكم فيه هؤلاء المرضى، وهم ما يسمى أنذاك بالغلاة. فقد كان جون ماري لوبان ضمن هؤلاء، والذي يريد ستورا تبرئته ليس بهدف إبراز حقيقة تاريخية منه حول شخص ما، بل كمحاولة من ستورا لإعادة النظر في بديهية معترف بها، وهي حقيقة التعذيب في الجزائر، فنفي والتشكيك في البديهيات المتفق عليها، والذي يقع الإجماع حولها تبدأ بإثارة النقاش والبلبلة حولها، وإنطلاقا من ذلك يقوم أصحابها بعملية نفسية وإعلامية تشكك في تلك البديهيات. فستورا أيضا عندما يتناول المسألة كقضايا شخصية عن فلان وفلان، ومنه ماري لوبان، فمعناه يريد الدخول بنا في نقاش بأن هذه الممارسات هي فردية، وليست سياسة دولة بكاملها. وهو نفس المنهج الممارس من فرنسا منذ سنوات، وهي جعل جرائمها الإستعمارية في إطار إنحرافات خاصة بأفراد، وليست سياسة رسمية يمكن تبريرها ب"منطق دولة" كما سماها المؤرخ الفرنسي بيار فيدال ناكي الذي يقصد من خلال عنوانه هذا أنها سياسة رسمية تبنتها الدولة الفرنسية، ففرنسا الرسمية تريد إقناعنا دائما مثلا بأن مجازر 17أكتوبر1961 هي مسؤولية بابون، وليس فرنسا الدولة، ونجد نفس الشيء عن مجازر 08ماي1945، وقس على ذلك على عدة أحداث ومجازر قامت بها سواء في الجزائر او غيرها، وبالتالي لايمكننا مطالبة فرنسا الرسمية بأي إعتذار مما ارتكبته من جرائم، وأن هذا الطلب يجب أن يوجه حسبها إلى أفراد قاموا بأعمالهم البشعة كتصرفات شخصية، واليوم يريد ستورا أن يقوم بنفس الأمر حول ممارسة التعذيب في الجزائر في إطار إستراتيجية ومنهجية تمارس بدقة متناهية منذ سنوات.