يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
محمد دوير
الحوار المتمدن
-
العدد: 7495 - 2023 / 1 / 18 - 15:52
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
إغراء الجدل يأتي من قدرته على تفكيك المركبات الدوجمائية، وإعادة توظيفها في علاقات جديدة تخلق روحًا مغايرة للمعني. والحدث الذي أوجد تفكيكًا متراكمًا في الحضور الشعبي المصري، يناير 2011، تخطي حدود الرغبات السياسية، بتغيير حاكم أو طبقة أو جماعات مصالح، بل وتخطي حدود إدانة نخبة ظلت على مدار عقود تدور في فلك السلطة، حتى وهي تعارضه بالملابس الرسمية، في البرلمانات أو المؤسسات الرقابية أو الصحف، أو النقابات التي نشأت في ظل ظروف تاريخية بعضها كان يستحق، وبعضها جاء بناء على استكمال شرط من شروط التحديث. بل وتخطي معناه الكلاسيكي بوصفه ثورة أو انتفاضة جماهيرية تسعي لإعادة وضع الدولة المصرية على خارطة الحداثة، ولكن هذا الحدث وجد نفسه في قلب ما بعد الحداثة، يدشن كرنفالاً متعدد الرؤي والوجوه بفسيفساء من المساحيق التي حمل حقائبها جيل تربي بين أحضان عالم جديد، لم نكتشفه سوي لحظة الفوران، يوم أن صار مستحيلا أن تسقط حبة ملح على أرض الشارع المصري المحتشد. في تلك اللحظة التي انفجر فيها الموقف، لم يعد بالإمكان استدراك أي شيء، ذلك أن تلك اللحظة التي اكتشفنا فيها القدرة على الفعل الثوري هي نفسها لحظة اكتشافنا حقيقة هذا التغيير الذي ظل يعمل في صمت مريع، وفي أنفاق سرية، بعيداً عن ضوضاء الفلاسفة والمفكرين والسياسيين والنقابيين. لقد كنا – في يناير 2011- نقرأ ثورتنا من اليمين إلى اليسار- بحروف حداثية، وفجأة اكتشفنا أنها كانت مكتوبة بلغة ما بعد حداثية تُقرأ من اليسار إلى اليمين.
كان أبناء الطبقة الوسطي يصرخون في الميادين بالإنابة عن كل الثورات المصرية المجهضة من ثورة القاهرة الأولي وحتى يناير 77، فتصوروا أن بإمكانهم تجاوز أحلام عرابي في المقاومة، وتصورات سعد زغلول عن الاستقلال الوطني، ومساعي عبد الناصر في عدم الانحياز، وضد أوهام السادات وأسلافه، السياسية والاقتصادية التي شوهت الروح المصرية. وحاولت استحضار تلك الروح الثورية التي رسمت ملامح النديم وعبد الحكم الجراحي وسعد ادريس حلاوة وسليمان خاطر...الخ، وأن تعيد انتاج العلاقات لخلق روح جديدة، روح اعتقد معظم من في الميدان أنها فقط تحتاج إلى نوايا مخلصة، وقلوب صادقة. وإلى مسار سياسي واقتصادي تقليدي يؤسس لمشروع وطني حداثي بكل معني الكلمة.
ولم يكن باستطاعة تلك الطبقة التي شكلت غالبية المتظاهرين، أن تنظر الي أبعد من مصالحها، رغباتها، احتياجاتها، ناموسها الاحتجاجي الذي لا يتخطى حدود حالة ثورية تلد دستورا قابلا للحياة، ولم تكن مصر مؤهلة لأكثر من ذلك بكثير. لذلك استقر الوجدان الثوري حينها على أنها مرحلة الفقهاء الدستوريين، لا النقابيين العماليين، مرحلة النشطاء السياسيين لا الكوادر السياسية المؤدلجة، مرحلة الرموز السياسية لا المناضلين. فاحتشد هؤلاء الزعماء الجدد على بوابات الفضائيات لإقناع الشعب بالتمسك بالمسار الدستوري.
وحينما بدأت ملامح الحالة في الكشف عن حدودها الثورية وخطابها السياسي، ظهرت المشكلة الكبرى، مشكلة أزمة العلاقة بين الذاتي والموضوعي، فالقدرات لا تتحمل أكثر من مسار إصلاحي في ظل غياب تنظيم ثوري، والموضوعي يتطلب تحولات جذرية في العلاقات الاجتماعية والدولية والإقليمية حتى تستطيع الثورة أن تكمل فصولها. وهذا التناقض بين الذاتي المجهض والموضوعي المستباح، خلق أزمة هوية ثورية، مما أسهم في فتح ثغرات لا حصر لها.
إن مشكلة يناير الكبرى أنها كانت سخية في فيضانها بخيلة في وعي كوادرها، غنية في تدفقها فقيرة في حصادها. وكانت أيضا تشبه الي حد كبير الميدان الذي استقرت فيه، كثيرة المنافذ، دائرية في تصوراتها، ما أن تنطلق من نقطة حتى تعود اليها مرة أخري. لقد افتقدت العراب، ولم تجد غير العراف.
أولا: رمزية المكان و جماعية الذات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الميدان: لم يتوقف ميدان التحرير عن أن يكون مجرد قطعة من جغرافيا الوطن، بكل ما يحمله من تاريخ نضالي سابق، فلم يكن هو تحرير الكعكة الحجرية، ولا مجرد بؤرة مركزية داخل دائرة كبيرة ( وسط البلد) التي شهدت كل تاريخ بناء مصر الحديثة، بل سنجده هذه المرة – يناير 2011- ميدان اشتباك أيديولوجي وسياسي وثقافي واجتماعي وحضاري، تجاورت فيه كافة الرؤي التي كان يجمعها هدف مرحلي واحد وهو رحيل مبارك، وإن كانت تسكن خلف هذا الهدف مرايا محدبة وعقول مشحونة بآمال وطموحات لا حصر لها حول مصر المستقبل.
كان الميدان واقعًا مزيفًا بامتياز، ظاهره الفعل الثوري، وباطنه أحلام اليقظة التي استباحت فيها الجماعات السياسية والنوعية كل شيء من أجل كتابة محضر بإثبات الواقعة. من حلم الملكية أو استدعاء التجربة الناصرية أو مصر الإسلامية أو مصر الليبرالية أو مصر الاشتراكية أو مصر الديمقراطية العلمانية...الخ ، كل منها كان موجودًا ومعبرًا عن نفسه، بحيث بدا الميدان تعبيرًا عن مقطع رأسي لتاريخ مصر الحديث بدءًا من محمد علي وحتى مؤيدي مبارك نفسه، وبدءًا من فرح أنطون وسلامه موسي وسيد درويش والشيخ امام وحمزة نمرة وحتى حسن البنا وسيد قطب ويوسف القرضاوي والشعراوي ...الخ ولأن الميدان كان مجرد محضر لإثبات الحالة، فقد انفض سريعًا بعد أول مكسب وهمي – إزاحة مبارك – ليسرع الجميع بعد ذلك نحو البحث عن غنيمة مستحقة، لمجرد أن ظهر في الصورة الثورية التي استغرقت أيام.
كان التخلص السريع من الميدان تعبير عن وعي جمعي، لدي السياسيين والثوار والمشاركين في الفعل الثوري بكافة، بأن دور الميدان قد انتهي، ليس برحيل مبارك، ولكن بوصفه جمعية تأسيسية على الطراز اليوناني القديم، الذي يترتب عليه بعد ذلك الانتقال إلى جدول الأعمال، الذي اختلفت بنوده من فئة إلى أخري ومن جماعة إلى أخري.. فهناك من رأي أن الانتقال لجدول الأعمال يكمن في مواصلة النضال في شارع محمد محمود، وهناك من رأي البرلمانية هي الوسيلة الأفضل لاقتناص الكعكة، ثم هناك من رأي أن العمل السياسي المباشر وتعميق مساحات الحرية التي بدت رقعتها تزيد على الأرض هو أفضل فعل يمكن القيام به...هذا التحول السريع أدي إلى تفكيك الذات الجماعية الوهمية التي كان الميدان عنوانها.. باختصار حمل التحرير سمتين أساسيتين، الأولي: أنه كان ميداناً للأحلام، أكثر ما كان أرضاً خصبة لزراعة واقع جديد لدولة ديمقراطية حديثة، والثانية: أنه كان تأكيد لمركزية مقيتة ومؤلمة اتسمت بها الشخصية المصرية عبر تاريخها، فقد استقطب كل رموز المدن والمحافظات، تاركين الأطراف أمام شاشات الفضائيات، تلك الرموز التي كانت تجهل بعضها البعض، وبالتالي كان من المستحيل بناء جسر تنظيمي قادر علي العبور بالذات الجماعية من الميدان إلى الشارع السياسي بمعناه الواسع.
2- الذاتية المفككة: رصدت الكاميرات التي كانت موجهة نحو الميدان، صورة جماعية مهيبة، لتلك الحشود التي يبدو أن الميدان غير قادر علي احتوائها، بحيث بدا للناظرين من كل بلدان العالم أن الذات المصرية بصدد بناء هرم ثوري جديد يضاف إلى الثورات الكبرى في التاريخ. حمل هذا المشهد العام نوع من الخداع البصري بحقيقة الصراع القادم، ولهث الجميع خلف بناء المدينة الفاضلة التي رسمها كل فرد لمستقبله وكل جماعة لنفسها. وإن كانت حروب المنصات وتنوعها داخل الميدان يوحي بأن ثمة تناقضات قادمة، واختلافات محتملة، وهندسات جديدة تُرسم في السراديب السرية للميدان، حيث تخطط كل جماعة لنفسها لتحقيق مكاسب متنوعة. ولأول مرة – ربما منذ ثورة 19 التي لم تكن بهذا الكيف الذي كشف عنه يناير المصري – نستطيع أن تشير إلى ذات مصرية جامعة، اتفقت في نقطة الانطلاق واختلفت في كل ما عدا ذلك. كان الماضي مؤلما والحاضر بائسا والمستقبل مجهولًا، ومظلمًا، ومن هنا نشأت ضرورة أن يتقدم من هو مؤهل لأن ينير الطريق، طريق ثورة بلا رأس، وجسد بلا عقل، ثورة حملت في قلوعها كل تاريخ الضمير منذ المصري القديم، ولكن الرياح لم تأت بما يشتهي هؤلاء الحالمون الطوباويون الذين رفعوا أعلام الدولة الوطنية وصور عبد الناصر وهتفوا للحرية والعيش الكريم. ولكن للأسف لم يكن هناك من هو مؤهل للقيام بهذا الدور فملأت قوي الثورة المضادة هذا الفراغ.
كانت ذات الجماعة المصرية، إذن، وهمية، كما كان الميدان وهما، فعلاوة على حالة الغيبوبة التي عانت منها القوي السياسية المدنية، انفجرت في وجوهنا جميعا حالة تفكك الذات الجماعية في صورة ما يزيد عن 1200 ائتلاف شبابي كدليل مبكر علي وجود أزمة في الحداثة السياسية المصرية، أزمة عدم ثقة، وأزمة عدم قدرة علي التنظيم القطري الموسع، وأزمة عدم نضوج الوعي الاجتماعي بمهام الثورة وشروطها. لذلك سرعان ما تحول الأمر، نتيجة انقلاب المشهد، إلى دراما بائسة رخيصة، وإلى عملية خنق وحصار تدريجي للأحلام، ثم للشعارات، ثم للمسارات الحداثية، ثم للأولويات السياسية والاقتصادية، إلى أن تم اقصاء الجميع، بدءا من قانون حركة التاريخ إلى هؤلاء الذين حلموا بمجتمع جديد ودولة عصرية، ولم تبق سوي القوي السياسية الكلاسيكية، الإسلام السياسي والجزء الغاطس في الدولة العميقة، ليستكملا طريق التغيير وفقا لتصوراتهما عنه.
ثانيا: اجهاض الثورة وموت الحداثة السياسية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل تبعثرت رياح الثورة بعدما تم الانقلاب على المسار السياسي بعد استفتاء 19 مارس 2011؟ في تقديري أن ما قامت به الدولة العميقة المتحالفة مع الإسلام السياسي بدءا من الاستفتاء على خارطة الطريق أو التعاون المشترك في كتابة الدستور وإدارة شئون المرحلة الانتقالية حتى الصدام الذي تم في 30 يونيو و3 يوليو 2013، هو أخطر ما تم في مسار تاريخنا الحديث، وأعني تحديدا من هذا القول إن انقلاب طرفي الثورة المضادة ونجاحهما في وراثة الحكم القديم، فتح الباب على مصراعيه لتشظي الذات الجماعية التي عبر عنها ميدان التحرير – والتي وصفتها بأنها كانت ذاتًا وهمية – لأنها لم تكن سوي تعبير مزيف عن وحدة المصريين. مما فتح الطريق أمام تحول الذات الجماعية تلك إلى تقسيمات متنوعة كشفت عن الوجه الحقيقي الذي ظل الميدان ساترًا له، وأعني فتحت المجال لكافة الرؤي والتصورات والمفاهيم لأن تنفجر في وجه الجميع، وكأنَّ قوي الثورة المضادة قدمت أكبر هدية ممكنة لهؤلاء لكى يحققوا ذواتهم المنفصلة والمستقلة. كيف؟
كانت خارطة الطريق الحقيقية – التي لم تجد من يدافع عنها وينفذها –بناء دولة ديمقراطية حديثة، أي القفز في قلب الحداثة من ابعادها المختلفة وخاصة السياسية، بحصانة دستور وطني كلاسيكي يحافظ على الحقوق الاجتماعية والسياسية والحريات العامة والخاصة، لتبدأ مصر مسارا تم اجهاضه عدة مرات فيما سبق. ولكن خارطة الطريق الزائفة التي بدأت مع استفتاء 19 مارس أدت إلى تقسيم مصر إلى مستويين، كلاهما يعادي الحداثة، المستوي الأولي كان من خلال التحالف الإسلامي/ ورأس الدولة العميقة من أجل بناء دولة الصوت الواحد، وظلت الأمور تتراوح بين شد وجذب – وكلاهما استجار واستدعي ما تبقي من قوي مدنية لم تزل متمسكة بحلم دولة الحداثة، وهو ما ظهر بوضوح في جولة الإعادة لانتخابات الرئاسة بين شفيق ومرسي – فيما كانت بقايا الذات الجماعية خاصة من الشباب عازفين عن دخول تلك المعركة الصفرية. ويمكن رؤية المشهد السياسي في الفترة من 25 يناير 2011 الي 30 يونيو 2013 كالتالي:
1- اختار الإسلام السياسي والسلفي طريق الحداثة السياسية، عندما قرروا انشاء أحزابًا سياسية " الحرية والعدالة – النور – مصر القوية ...الخ “، وبالتالي نجدهم قد تقدموا خطوة لا يمكن وصفها سوي بالتقية أو الموائمة النضالية من أجل اثبات الحضور، وفقا للشروط السياسية الجديدة.
2- اختار رمز الدولة العميقة أن يحيط نفسه بحاضنة سياسية وشعبية كبيرة، باعتباره زاهدًا في السلطة ولا يريد سوي مصلحة البلاد، وليس لديه استعداد لتحمل مسئولية الحكم السياسية، وهو هنا يدير المعركة السياسية بدرجة من الوعي التام بموازين القوي واحتمالات المسارات المختلفة، وفي الوقت نفسه حفاظا على مصالح ترسخت منذ سنوات.
3- فيما انقسمت الحركة الاشتراكية بين ثلاثة مسارات، الأول داعم للدولة العميقة، والثاني للإسلام السياسي والثالث للحركة الوطنية المدنية. ولكنه لم يكن مؤهلًا أو طامحًا في بلورة تصور يساري مستقل. وإن كنت أميل إلى أن المسارات الثلاثة لا تختلف جوهريًا عن بعضها البعض، ذلك أنها كانت تدور في معظمها حول الحل الحداثي، وإن اختلفت التحليلات، ولكن الغاية كانت واحدة.. وباستثناءات قليلة بدا في الأفق الاشتراكي المصري اتجاه – ظل ينمو مع الوقت – حول النضال من أجل رؤي ما بعد حداثية، نجدها بدرجات لدي الاشتراكيين الثوريين ومجموعات من العيش والحرية وفصائل من الحركة النسوية ذات المرجعية الماركسية.
4- بينما ظلت الحركة القومية الناصرية أسيرة الإنجاز التصويتي الذي حققه مرشح الرئاسة حمدين صباحي، ولم تستطع أن تتقدم خطوات أوسع من ذلك حفاظًا على الكتلة التصويتية، فكان هذا الأسر معوقاً لمزيد من المجازفة في المواقف. مما حال دون أن تقفز الحركة القومية بأبعد من انجاز مرشح الرئاسة، وعلى أية حال لا تحمل الحركات القومية نزوعًا نحو ما بعد الحداثة إلا في ظل شروط معقدة لم تتوفر في حالتنا الثورية المصرية الحالية.
في ظل تلك الحالة الكسيحة، والروح المعنوية التي بدأت تتراجع بشدة، دخلت مصر منعطفا قاسيا بتجربة الإخوان، ولم يخش المصريون على الوطن في ظل انسحاب الشرطة يوم 28 يناير، مثلما استشعروا ذلك عندما طاف مرسي بسيارته الرئاسية أمام أنصاره في ستاد القاهرة الذي جلس في مقصورته عبود الزمر ورفاقه، ثم فقدت مصر فرصتها التاريخية في الدخول الي عالم الحداثة السياسية بعد 3 يوليو 2013. لقد تم اجهاض الثورة عبر أربعة مراحل، أ- تفكك الذات الجماعية ووهن القوي المدنية وتشظي الحركات الشبابية. ب- الإسلام السياسي، ليس لأنه قوي رجعية بطبيعتها فقط، ولكن لأنه ترك له المجال ليلعب دورا مزريًا في تنظيم الفعل الثوري. جـ- رأس الدولة العميقة التي لم تؤمن بحق مصر في بناء دولة ديمقراطية تمارس تداول السلطة برئيس مدني، ولم تتقبل فكرة غيابها عن السلطة السياسية. د – عدم رغبة جميع الأطراف على تجذير الفعل الثوري خارج الميدان والفضائيات، فتحول الشعب الذي شارك في الثمانية عشر يوما الي متفرج، وهذا هو الموقف الذي أطلقت فيه الحركة الثورية المصرية الرصاص على نفسها.
باختصار شديد، فإن تلك الأسباب وغيرها وخاصة استفتاء 19 مارس، أسهمت في اجهاض الثورة، وإن ما حدث بعد ذلك وخاصة منذ 3 يوليو أسهم في اجهاض الحداثة السياسية، ولم يكن أمام المهزومون في المعركة سوي اللجوء لمنافذ بيع تذاكر ما بعد الحداثة. أي انتقل التغيير من مجاله السياسي والدستوري الي مجاله الاجتماعي والثقافي، ليصبح الحضور ما بعد الحداثي هنا بديلا للغياب الحداثي في السياسة.
ويبدو لي أنه ابتداءً من الاستفتاء ثم جولة الإعادة بدأنا ندخل المستوي الثاني وهو البحث عن عالم فئوي ونوعي جديد بديل للمجتمع الأكبر، واقصد هنا بدأ الأفق ما بعد الحداثي يظهر بوضوح ويفرض نفسه على المشهد الاجتماعي العام.
ثالثا: الأفق ما بعد الحداثي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما كان بالإمكان العودة لما قبل يناير، بعد انكسار الموجة الثورية، فإذا كانت الدولة المصرية عصية على أن تتحول إلى دول ديمقراطية حديثة، فالمجتمع الذي سبح جزء مهم منه في بحر تكنولوجيا الاتصال، لم يكن مستعدا لأن يتراجع خطوة للوراء. وإذا كان المسار الحداثي في حاجة إلى شروط نظرية ومواقف عملية من أجل تنظيم حركة المجتمع وقوانينه، فإن المسار ما بعد الحداثي ليس في حاجة إلى تلك الشروط، اللهم إلا أن تترك نفسك لتسبح مع التيار العالمي السائد. ومن هنا اضطرت المياه التي احتجزتها سدود الثورة المضادة أن تبحث لنفسها عن مسارات عشوائية بديلة، فالطاقة التي انفجرت لابد من تصريفها بأية طريقة، ومن هنا كان المسار ما بعد الحداثي اجباريًا، وضروريًا، وفحوى ضرورته أن الانفجار الثوري حدث، وأن توجيهه إيجابيا قد فشل، ولذلك لابد من استثمار ذلك الأفق الذي بات منفتحا، فاتجهت الطاقات المتفجرة تلك نحو مزيد من التفكيك، والتشظي ، والعبث، وأحيانا الاكتئاب والبحث عن مصالح الذوات الفردية بالهجرة الي خارج الوطن أو الانكفاء علي الذات وجلدها أو تشويه الواقع ولعن الظلام، وذلك نتيجة اجهاض الذات الجماعية، فظهرت رؤي ما بعد حداثية كردة فعل سلبية لروح الثورة التي كانت تصوب مدافعها نحو الدولة القديمة، وحينما فشلت صوبت مدافعها نحو المجتمع، بفئاته وعناصره وشبابه، ولم يكن حل أحزاب الحرية والعدالة ومحاصرة مصر القوية وتدجين النور والتجمع والناصري والوفد ... الخ سوي إقرار بأن التجربة السياسية الحزبية يمكن الاستغناء عنها، وربما التخلص منها أيضا مثلما تم التخلص من قبل من النقابات المستقلة والرسمية والمهنية والاتحادات الطلابية وصورية منظمات المجتمع الأهلي، وكأن فشل يناير لم يكن مجرد انتكاسة ثورة بقدر ما كان فشل مجتمع في إدارة شئونه علي الطريقة الحديثة.
في المقابل ونتيجة لضرورة تفريغ الطاقة المندفعة، خاصة لدي الشباب، حدثت ردة فعل تلقائية ومباشرة للحركات النوعية التي تحمل سمات ما بعد الحداثة، فظهرت جماعات متنوعة ومختلفة من الملحدين تري أن الايمان هو العقبة طالما ظل هذا المناخ الديني لا يسمح بالتعددية، ومن المثليين الذين رفعوا علم مصر الديمقراطية الحديثة، وحينما انكسرت الثورة استبدلوه بعلم الرينبو، فيما توسع النشاط الشيعي والبهائي والتبشير المسيحي في محاولة لخلق بديل نوعي إيجابي في ظل مناخ عصي على التغيير الجذري الذي يسمح بحقوق متساوية للجميع واعلاء قيم المواطنة. علاوة على التحول من البحث عن سينما واقعية بديلة إلى مرحلة سينما الاسقاطات البذيئة والتشوهات الاجتماعية، فيما توسعت بشكل كبير جدا أغاني المهرجانات، وأصبحت الساحة المصرية ملجأ لكل انحرافات الأدب والفن والسياسة والدين والسلوكيات، وأصبح المواطن المصري مستباحا بدرجة غير مسبوقة، وبدأ المجتمع المصري يشهد تحولات مؤلمة في كل شيء تقريبا بدءا من تشويه العمران الحضاري وحتى قصات الشعر. ولا تستطيع أن تسجل ادانتك لكل هذه المظاهر لأن الأمر ببساطة شديدة يندرج تحت بند الحريات الشخصية، التي أصبحت تعمل في ظل دولة كافرة بالحريات العامة والخاصة، ومن هنا يأتي التناقض ويكمن سر الأزمة، فعلي حين يمارس الجميع حقوقه الفردية، فإن الجميع أيضا يخضع لحياة خالية من تفعيل الدستور والالتزام به واحترامه. فالفرد ينتزع حريته الشخصية – حتى في فعل الخطأ – ليس من المناخ العام الذي يسمح بذلك، ولكن انتقاما من هذا المناخ الذي حاول إصلاحه ففشل.
لقد توسعت مطالب الحريات الفردية حينما استحالت فكرة الحرية الاجتماعية والنقابية والسياسية والحزبية والطلابية، وصار كل ما هو فردي متاحا ومفروضا ومتحققا على حساب كل ما هو جماعي، صار كل ما هو ما بعد حداثي مطروحا بقوة ويتم قبوله تدريجيا، على حساب الاستسلام لواقع موت السياسة والحياة المدنية والتنظيمات السياسية والثقافية والنقابية.
إن الثورات المجهضة تخلف ورائها جبال من الرماد، سرعان ما يتطاير في أعين الجميع مع أقرب عاصفة قادمة، وقد عصفت الضغوط الاقتصادية والاختناق السياسي بالمجتمع المصري حتى افتقد أو كاد أن يفتقد التماسك الحضاري الذي تميز به عبر تاريخه، وبدأت نتائج الثورة المجهضة، تحصد ثمارًا مُرة بعد أن فشلت الثورة المصرية، وبعد أن تمكنت الثورة المضادة وسيطرت على المجال العام، فلم يكن أمام شعب الثورة المجهضة سوي السيولة والتمدد في سراديب المجتمع السرية. وتبدي ذلك على أكثر من صعيد:
• علي الصعيد الاجتماعي :الانتشار بكثافة في الكافيهات بطقسها المختلف عن المقاهي، والفاعلية المفرطة علي السوشيال ميديا كبديل أكثر حرية وفردانية من العمل الحزبي أو الأهلي، والتوسع في الدعوة لاكتساب شرعة لفكرة المساكنة كبديل ما بعد حداثي للزواج العرفي، وانفتاح العلاقات بين الجنسين بصورة غير مسبوقة مع خلق كل علاقة قانونها الخاص بعيدا عن الطقس المجتمعي، وانتشار أنواع جديدة من المخدرات، واتساع الرغبة غير المحدودة في التجريب، والمبالغة في العنف اللفظي واستسهال الألفاظ الخارجة، وزيادة معدلات الطلاق بين الشباب، وزيادة معدلات مرضي الاكتئاب الدائم والموسمي، وارتفاع معدلات القتل علي أسباب تافهة، ومشاعية الجسد علي وسائل التواصل الاجتماعي والتربح منه، وتفشي الدعارة والترويج لها، وانتشار الوجبات السريعة فيما اطلق عليه إيهاب حسن المطبخ ما بعد الحداثي. وانتشار الزي الغربي المعاصر بين الشباب...الخ. إن هذه المظاهر وغيرها، ربما تكون نتيجة مباشرة لهيمنة أيديولوجيا التكنولوجيا التي تسعي لتنميط العالم وفقا للثقافة الأمريكية. ربما نتفق سويا على ذلك، ولكن من المهم أن نؤكد على فكرة إضافية آخري، أن المجتمعات المستباحة، تكون مؤهلة أكثر من غيرها على أن تمتص ثقافات الآخر، في ابعادها السلبية، أو كما يقول ابن خلدون أن المغلوب تسيطر عليه روح الغالب فيهوي تقليده.
• على الصعيد السياسي: استبدلت دولة 3 يوليو الحياة السياسية التي كانت تعمل تحت رعاية نظام مبارك مع فتح منافذ تعبير وهامش ديمقراطي يسمح بخطاب سياسي معارض في الشارع السياسي، استبدلت ذلك الوجه الحداثي المحدود، بوجه أخر لا علاقة له بالسياسة، وجه من أصحاب الولاءات المفرطة، ومن هؤلاء الذين لم يمارسوا العمل السياسي طوال حياتهم، لسد الفراغ وبناء حاجز سميك بين الدولة والمجتمع، لا يسمح أبدا بنقل معاناة المواطنين الي التنفيذيين، ولا يعبر عن فئات المجتمع، ولذلك كان النظام حريصا علي استدعاء أفراد حتي من داخل الأحزاب السياسية منفصلين تماما عن كل رؤية أو برنامج سياسي ما. وكان من الطبيعي أن نشهد حالة عزوف شبه تامة لكثير من رموز وكوادر الميدان بل والرموز السياسية في مرحلة ما قبل يناير. إن النظام قرر أن يقضي تماما على الحياة السياسية في مصر، ليس خوفا بقدر ما إن الأمر متعلق بقناعة مفادها أن الفعل السياسي سيقف إن عاجلا أو آجلا بمصر على أعتاب نزوع ثوري جديد. ومن هنا كان موت السياسة هو التعبير الأكثر وجعا وألما عن موت ثورة يناير.
وكلما ضاقت الآفاق، ومساحات التعبير، واختنقت فرص التربية السياسية، حدث أمرين خطيرين، الأول الدفع باتجاه العمل داخل سراديب السرية والانغلاق، وفي تقديري أن جماعات الإسلام السياسي حتى العلنية منها كالسلفيين، لديهم برنامجهم التثقيفي والتنظيمي السري، ولا أعتقد أن تنظيما بحجم وقوة الإخوان ببعيد عن تلك السمة أيضا. والأمر الثاني هو الأكثر خطورة على المدي البعيد وهو أن فقدان الأمل في الحصول علي الحقوق بما فيها حق التعبير والتنظيم، سيدفع أسراب من الشباب المصري إلي البحث عن بدائل متطرفة، وبالعودة الي التاريخ الحديث سنجد أن ظهور جماعات كالإخوان المسلمين أو مصر الفتاة أو التكفير والهجرة والجهاد.. الخ سنجد أنها لم تظهر سوي كتعبير عن حالة اختناق كبري دفعت البعض للتطرف في المواقف. إن قيمة الحداثة السياسية أنها تسيطر على الأفق نتيجة الحوار المفتوح والتدافع الفكري بين التيارات السياسية، ولا تسمح بالجنوح نحو أفكار تشكل خطرا على المجتمع. ولكن النظام لم ولن يدرك ذلك.
• على الصعيد الاقتصادي: دخلت مصر بعد يناير في مزيد من تعميق الأزمة الهيكلية التي تعاني منها منذ الانفتاح في السبعينيات، ثم تعمقت أكثر في التسعينيات مع برنامج الخصخصة، ولكنها فيما بعد يناير دخلت في أزمة أكثر تشعبًا حينما اتجهت الدولة المصرية نحو المال الخليجي والاعتماد عليه في تأجيل وتسكين الأزمات الدورية التي يعاني منها الاقتصاد المصري نتيجة سياسات النظام المعتمدة علي الاقتراض المتواصل، بما أدي في النهاية الي وضع اقتصادي خطير ينذر بعواقب وخيمة علي الطبقات الوسطي والدنيا، نتج عنه ارتفاع في معدلات التضخم وانحسار فرص العمل، مما أدي إلى تراجع آمال الخروج من تلك الأزمة في القريب العاجل. في المقابل وعلى النقيض تماما انفتحت الأبواب أمام معدلات استهلاك غير مقبولة أو معقولة، نتيجة فتح السوق المحلي بصورة غير منضبطة. الخطير في الأمر هو انعكاس تلك الأزمة على المصريين، فحينما تضييق مساحات التعبير والدعوات الي الإصلاح، وتشتد في المقابل القبضة الأمنية، يصبح الهروب من الواقع هو أحد الحلول المفروضة على الشخصية المصرية، وإحدى صور هذا الهروب هو الفساد بكل معني الكلمة. وبناء عليه، تصبح مظاهر الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني أيضا هي مجرد انعكاس لأزمة ثورة تم الانقضاض عليها وحصارها وقتلها، فأدت هذه الجريمة إلى قتل الانسان المصري من داخله، وقتل طموحاته في غد أفضل.
خلاصة القول: كان يناير المصري فرصة تاريخية لاستكمال مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، وقفزة ضرورية لإنقاذ الوطن من حالة الركود السياسي التي يعيشها منذ يوليو 1952، ومن حالة التراجع الاقتصادي التي دخلها منذ منتصف السبعينيات، ومن حالة التشظي الاجتماعي التي انغمس فيها منذ أواخر التسعينيات، ومن حالة الاستبداد التي لم ير غيرها طوال تاريخه، باستثناءات نادرة، ومن حالة السيولة القيمية والأخلاقية التي سمحت للرأسمالية الرثة بأن تهين حضارة أمة لها بصمات واضحة على صفحات التاريخ. بمعني مباشر وواضح، كانت ضرورية لمصالحة التاريخ، وانتشال الانسان المصري من تلك المستنقعات التي وجد نفسه فيها، فأصابت معدنه وأصالته في مقتل.