علي شاطئ الذاكرة للروائي الجزائري مصطفي الشيخ زاوي
محمد دوير
الحوار المتمدن
-
العدد: 6515 - 2020 / 3 / 15 - 16:09
المحور:
الادب والفن
في لغة أدبية مريحة، وفي استرسال درامي هادئ أحيانا ومنفعل أحيان أخري – خاصة في نهايات الرواية – يقدم الكاتب الجزائري الموهوب نفسه لقراء العربية- من خلال روايته علي شاطئ الذاكرة الصادرة عن دار المثقف للنشر والتوزيع بالجزائر عام 2019- بوصفه واحد من هؤلاء المبدعين الذين يحملون علي ظهورهم أعباء المسئولية الاجتماعية في الأدب.فيقدم لنا نموذجا إبداعيا يوحي للوهلة الأولي أنه يهدف إلي بناء عالم زجاجي يكشف بداخله عن تقلبات الروح الإنسانية التواقة إلي الحرية من خلال استعراض منمنمات ورعشات قلب بطلة الرواية " حورية" تلك الفتاة التي تبحث في الواقع عن متكأ للروح ولكن عبثا لا تجده، فتعود إلي الوراء هناك علي شاطئ الذكريات لتستريح من عناء ومشقة الواقع ومن غبار الأدخنة المتصاعدة من شجع البشر، واستنزاف الرأسماليين سواء كان استنزافا للجهد والعرق أو للمشاعر..
تتقاطع في الرواية عدة خطوط، وتمثل حورية نقطة التقاطع هذه، فهو فتاة عشرينية تعمل في مشغل تملكه سيدة متسلطة تسعي بكل جهدها الحصول علي أكبر قدر من استنزاف طاقات البنات لتراكم جهدهن متمثلا في تنمية رٍأسمالها من عرقهن فيعملن في ظروف عمل سيئة للغاية نتجت في النهاية عن حريق ضاع ضحيته عاملات يعلن أسر..كانت حورية تقاوم كل بؤس الحياة، سواء بؤسها في العمل وظروفه أن في ذلك الارتباط العاطفي بالشاب " ضياء" الذي كانت في بدايات علاقة معه قبل أن يتركها بلا سبب معلوم، ثم حاول العودة لها مرة أخري، وكانت تساؤلات حورية عن أوجه الشبه بينه وبين كاميليا صاحبة المصنع الذي تعمل به، تساؤلات وشكوك حول جدوي العلاقة وحقيقتها، ورغم ذلك كانت مندفعة إلي التواصل معه من جديد، حورية كانت تبحث عن نفسها، تفتش في ذكرياته القريبة والبعيدة عن مرفأ تستريح إليه لكي تعوض أشياء كثيرة سلبتها منها الحياة، كموت أبيها، وجفاء أمها الذي يبدو أنها كان بغرض الخوف عليها من المستقبل وخاصة أنها تعيشان بمفرديهما في بيت واحد متواضع وفي ظروف اجتماعية واقتصادية أقل من متوسطة، كان حلم وخوف أم حورية سببا من أسباب متابعتها في كل خطواتها..كانت حورية تبحث عن نفسها في علاقة الصداقة مع كريمة زميلتها في المصنع، وفي عم هارون مدرس الفلسفة السابق والذي فقد زوجته وولده في حادث إرهابي، وظل هائما علي وجهه يبحث عن ابنه المفقود ويرثي حاله لزوجته المقتولة علي أيدي الإرهابيين..بعد أن فقد عمله وصار فرصة مناسبة لأهالي الحي لكي يستزيدوا من الحسنات عبر إطعامه وتلبية حاجاته..كانت حورية تستريح أكثر مع هذا الرجل، وكأنها تجد فيه عوضا عن الأب أو تعويضا عن التعليم الذي لم تحصل منه قسطا وافيا أو ربما لأنه الأقدر علي الإجابة عن تساؤلات كثيرة تدور برأسها..
ولكن معركة حورية مع نفسها وبحثها عن ذاتها تمحورت بصورة أكبر مع ذلك الحجاب الذي فرض عليها بحكم الواقع الجزائري والعربي في فترة التسعينيات وما بعدها، حاولت حورية التمرد عليه وخلعه، وكان عليها أن تدير معارك جزئية مع الجميع لكي تقنعهم أنها تريد أن تصبح " هي" وتفعل ما تريده هي، وتنجح في ذلك، ثم تنجح أيضا في التخلص من ذلك الوهم الذي كانت تشعر به تجاه ضياء، ذلك الشاب الطفيلي الذي لم تعرف يداه طريق الكد والجهد والعمل حيث يعيش علي هامش ارباح والده من المقاولات..
وفي المستشفي حيث تتابع حورية حالة كريمة صديقتها بعد أن اختنقت من الحريق الذي شب في المصنع ، تجد الفرصة مناسبة لكي تخلو إلي نفسها بضع ساعات لتعود إلي شاطئ الذكريات، وذلك البحر الممتد إلي الأفق، وذلك الأب الذي يرقبها وبتابعها ويسألها عن المشهد والبحر والحلم والآمال.. إن حورية تظل تلك الفتاة العربية التي فقد الإحساس بالأمان في الواقع فهربت إلي الماضي بحثا فيه عن عالم أفضل، عن حياة السكينة، واختتمت الرواية بجلوس حورية مع هارون تعبيرا عن أنهما يشتركان معا في الحنين للماضي، الحنين إلي شاطئ الذكريات والهروب من واقع لم يقدم لهما سوي الألم..وينهي الكاتب روايته البديعة بالأمل والقمر والنور القادم من المستقبل.. فحتما سوف ينير القمر الحياة، حتما سوف ينتصر الأمل..
والكاتب هنا في هذه الرواية لديه قدرات رائعة في التعبير عن خلجات النفس البشرية وفي رصد تفاصيل دقيقة، والرواية مشحونة بالعاطفة والتعاطف مع معظم أبطال الرواية وخاصة حورية تلك الفتاة التي تشعر بسرعة ومنذ الصفحات الأولي أنها احدي أفراد عائلتك.. وهذا في تقديري أهم نجاح حققه الكاتب الذي يمتلك لغة منمقة وفي الوقت نفسه قريبة من وجدان القارئ، يرصد بإبداع كل شيء حول الشخصيات حتي أدق التفاصيل، ويغذي الرواية بالكثير من العبارات التي تصلح حكما وأحكاما أخلاقية عامة ، مما يدل علي اتساع ثقافة وقدرته علي الإلمام بطابع النفس البشرية.
إنها رواية جيدة، لكاتب له مستقبل.