الثورة المصرية .. والبحث عن دولة يناير (2)
محمد دوير
الحوار المتمدن
-
العدد: 6229 - 2019 / 5 / 14 - 16:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
احدي أخطر إشكاليات يناير أنها جاءت في لحظة تاريخية – عالميا – تهيمن فيها أفكار ما بعد الحداثة وتنتشر عبر تكنولوجيا الاتصال قيم ومفاهيم وتصورات يدور معظمها حول الحرية الفردية والرغبة في التغيير المتواصل بلا توقف وكسر حواجز الزمن وجغرافيا العادات والتقاليد. وهي إشكالية – علي أية حال – تصب في مصلحة دعاة الدولة المدنية الديمقراطية التي تؤمن بالتنوع والصراع الاجتماعي وتداول السلطة وتدعم الحريات الخاصة وتضع الاقتصاد في معادلة متحررة تماما من قيود الاقتصاد الجماعي أو الموجه.
.. لذلك فمن الصعب أن نعتبر التحولات السياسية والثقافية التي ميزت جيل 25 يناير هي نتاج ذلك الانفجار الشعبي الذي استمر لعدة شهور، ولكي يكون التحليل متسقا مع المنطق ومع الواقع ومع النتائج اللاحقة أيضا، فلابد من فهم طبيعة الواقع العالمي – ثقافيا واقتصاديا – لكي ننجح في تشرح العقل – الينايري– بصورة أقرب للمعقولية.إذ اندفع شباب يناير من قلب الحراك الثوري نحو محاولة لقلب كافة القيم السائدة بصورة أقرب إلي التمرد – والتمرد هنا يكون بديلا لغياب مشروع ثوري – فجاءت قوة الدفع أو الاندفاع متلاحقة ولكنها مشتتة، وعندما فشلت أهدافهم السياسية – قدموا أكثر من 1200 ائتلاف في حينها – استقرت دوافعهم المتمردة في الوعاء الثقافي، فعندما يغيب الوعي الجمعي وتتراجع قدراته علي حل أزمة المجتمع الوجودية، ينكسر أو يتماهي جزء رخو من المجتمع مع الواقع الصلب الذي يعصي علي التغيير، ويتحول الجزء الحيوي " الشباب " إلي كائنات فردية تبحث لنفسها عن سماء خاصة يحقق كل فرد فيها طموحه الذاتي علي الصعيد الثقافي والاقتصادي والاجتماعي. والذي حدث أن الطاقات المكبوتة نتيجة خنق الحياة العامة انفجرت في وجه السلطة السياسية – مبارك ورجاله – ولما فشلت في استكمال مشروعها – بفعل نقص وعيها الثوري وقدرات الثورة المضادة – انحرف هذا الانفجار ليصبح عبئا علي العقل الجمعي ونتحول من مرحلة مقاومة السلطة إلي مقاومة الأفكار التي انهالت علينا من عالم الشمال والتي جاءت في صور شتي من أهمها الصورة ما بعد الحداثية، وخاصة ما تعلق منها بتسييد النزعات الفردية كالهجرة والانشغال بالموقف الفردي من الدين وتكفير المجتمع وطنيا ...الخ
.. وأستطيع أن أفسر تلك الصورة ما بعد الحداثية بأنها كانت تعبيرا مباشرا عن رفض قطاع كبير ممن شاركوا في ثورة يناير لدولة الخلافة والدولة الوطنية المستبدة في الوقت نفسه. والسؤال الآن: هل الأفكار السياسية ما بعد الحداثية قادرة علي تجاوز أو حل أزمة المجتمع المصري وبناء دولة مدنية ديمقراطية ؟ بمعني أخر هل حل الأزمة المصرية هو حل خارجي أم داخلي؟ وبالتالي ، هل تملك الجماعة الوطنية المصرية تصورا لبناء دولة المواطنة والحريات دون استدعاء قاموس الثقافة الغربية ما بعد الحداثي ؟؟
تلك التساؤلات تدفعنا الي تشريح الجماعة الوطنية المصرية، تلك المنوط بها قيادة التغيير وتوجيهه، فالمؤكد أن احدي أهم أزمات الجماعة الوطنية المصرية أنها ولدت منذ البداية – الطهطاوي ومدرسته – في رحم السلطة ، وظلت تراوح مكانتها هذه طوال القرنين الماضيين، وإن شهدت الفترات من 1920- 1952، 2000- 2019 محاولات للخروج عن هيمنة الدولة ومؤسساتها علي عقل الجماعة الوطنية. وتلك النشأة ، وهذا المسار جعلها دائما تراقب بعين واحدة مسار السلطة لكي تسير في محازاتها. فالسلطة هي التي تحدد معالم وملامح الأمن القومي المصري، والسلطة هي التي تضع فلسفة التعليم وبرامج الثقافة أو الإرشاد القومي، والسلطة هي التي تعمل كل فترة علي فلترة الجماعة الوطنية وخلخلة رغبتها في التماسك... وعندما جاء جيل يناير بثورته تداخلت الجماعة الوطنية مع الطرفين، مع السلطة للبحث عن حلول للخروج من نفق 25 يناير، ومع الجماهير الغاضبة لتحسين الأحوال السياسية ومحاولة بناء دولة ديمقراطية بضمانة الدستور وليس بضمانة قوي اجتماعية وثورية متماسكة. هنا قدمت الجماعة الوطنية صورة رخوة وغير جادة في الرغبة في لعب دور مركزي في الثورة. ولما كانت غائبة فكرا عن إجابة سؤال الثورة، وجدت الجماهير نفسها في حالة ضياع، نتج عنه تشظي بين ثلاث اتجاهات عرضنا لها في المقالة الأولي " اتجاه دعم دولة الإخوان – اتجاه دعم دولة العسكر- اتجاه لدعم دولة مدنية ديمقراطية" . ونظرا لغياب الرؤية والكادر والاستعداد لدي الجماعة الوطنية بسبب نشأتها المبتسرة، ظل في الساحة اتجاهين فقط.. كلاهما لا يري الجماهير سوي في لحظات متقطعة في مسار بناء المستقبل، فكان استدعاء ما يقرب من 14 مليون في التصويت بنعم علي استفتاء 19 مارس 2011، ثم التصويت بنعم علي مرسي رئيسا ب 13 مليون ناخب ومثلهم لشفيق، مما يعني أن الكتلة الأكبر من جماهير الوطن انقسمت بين الاتجاهين الرئيسيين، واكتفي الاتجاه الثالث " الجماعة الوطنية " بالانحياز هنا أو هناك.إلا أننا كنا أمام عنصر رابع بدأ " بالتجربة والخطأ" الانسلاخ عن الجميع وبناء تصور جديد لمشروع ضبابي يرفض دولة الخلافة والدولة الوطنية المستبدة من جهة وينتقد ممثلي الدولة المدنية الديمقراطية من جهة أخري ، لذلك وجدنا هجوما شرسا وقاسيا علي ما يسمي بالنخبة.
كان الشباب هم عماد هذا الاتجاه الرابع الذي يحاول الدعوة لدولة المواطنة والحريات، ونظرا لغياب أشياء كثيرة جدا عنهم نتيجة ضعف الخبرة بشكل عام والوعي الثوري بشكل خاص، اتخذت هذه الدعوة صورة التمرد كما اسلقنا، فأحجموا عن المشاركة في كل شيء في المجتمع ، وهو ما أدي الي أنهم خلصوا الفعل الثوري من بعده الاجتماعي وانشغلوا كثيرا بالبعد الثقافي، وهذه هي لحظة وقوعهم في براثن ما بعد الحداثة..وفي تقديري أن هذا التحول ساعد الثورة المضادة كثيرا في الاستمرار في احكام قبضتها علي الدولة باستغلال حالة الهلع عند المواطنين وتحويل بذور اندفاعهم الثوري ليصب في مصلحة النظام، واعني نظام كامب ديفيد.
والسؤال الأن هو.. كيف ساعدت اركان الثورة المضادة بعضها البعض في اخراج الجماهير والقوي الثورية الصلبة من معادلة بناء مستقبل الوطن ؟ وهذا هو موضوع حديثنا القادم.