عندما أنقذتني الشيوعية

لست شخصية عامة، لكي أكتب سيرتي الذاتية، ولكن في حياة كل منا، مهما بدت تلك الحياة متواضعة، ما يستحق أن يقال، ذلك أن حياة البشر، كل البشر، بها الكثير من لحظات الوجد، أو محطات التحول. ولو أننا استطعنا أن نكتشف ما في داخلنا من قيم، لأمكننا الارتقاء بإنسانيتنا قفزات واسعة وكبيرة.
وهذا المقال، هو جزء من مسيرة حياة فرد، عاش هذا الوجود بنفس المنطق الذي عاشت به كافة الكائنات من الأميبا الي الإنسان الأعلى النيتشوي. أعني أن الوجود حلّ في كما أنا حللت في الوجود، لا ميزة لأحدنا على الآخر.
لينتصب السؤال أمامي كالسيف، كيف عايشت وجودي؟ أو بمعني أخر مختلف، كيف مارسني الوجود؟

1- برنبال التي في خاطري

لا أعلم إن كان من حسن الطالع أو سيئه أنني ولدت ونشأت في قرية، ولما اشتد عودي في الحادية والعشرين من عمري رحلت الي المدينة. والغريب في الأمر حقا، أن القرية لم تكن مجرد قرية بالمعنى الكلاسيكي للمصطلح" مكان مأهول بالسكان، معظمهم مزارعون"، ولا المدينة كانت مجرد مدينة" كثافة سكانية وحياة اجتماعية أكثر تطورا". بل كانت القرية تحمل الكثير من السمات، كما كانت المدينة ذات خصائص يندر تكرارها في مدينة نظيرة في العالم. من برنبال الي الإسكندرية، 70 كيلومتر تقريبا، في محاذاة الساحل الشمالي علي أطراف الدلتا المصرية. ولكنها رحلة من الوابور الجاز إلى البوتجاز، ومن اللمبة نمرة عشرة إلى اعمدة الانارة ولمبات النيون، رحلة بدت لي انها كل العالم من القطب الشمالي الي الجنوبي. وإن كنت أصفها بـ " الرحلة" فهذا على سبيل المجاز، فهي في حقيقة الأمر أقرب إلى منفى اجباري، أكثر منها رحلة، منفى ظلت تضغط على الظروف حتى وجدت نفسي استقل قطار الإسكندرية، واهبط فيها، والغريب أنني لم أشعر حينها برهبة الأماكن الغريبة علينا.

وبداية، سأحدثكم عن برنبال، لأنها فعلا تستحق أن أكتب عنها، لما لها من فضل علي. فهي القرية التي اختلف الباحثون والمؤرخون في نسبة اسمها، بين " قرية الأرز" وهي "برمبالة" باللغة التركية، حيث اشتهرت بزراعته حتى الآن، وأنه الوجبة الرئيسية فيها، مع السمك. وهي كما يقول الباحث بسيوني مرعي أنها قرية فيضية، تحمل ذات الخصائص لتلك القرى المطلة على نهر النيل من أسوان إلى رشيد. يحميها جسر ترابي مرتفع حماية لها في أوقات الفيضان، وترسو فوق شبه هضبة أو ربوة عالية، منحدرة من اتجاهاتها الأربع، وهي تبعد حوالي 500 متر عن النيل، بقطاع عرضي يسمي أرض الجزيرة التي تكونت بعد بناء السد العالي، وتعتبر من أجود أنواع الأراضي في مصر نظرا لخصوبتها، وفاكهتها مميزة. وهي أيضا تبعد عن البحر المتوسط بحوالي 8 كيلو مترات تقريبا، وتبعد عن بحيرة البرلس من جهة الغرب بحوالي اثنين كيلومتر، وبالتالي فالقرية ذات السمات الفرعونية، تقع بين مثلث مائي، نهر النيل والبحر المتوسط وبحيرة البرلس، ترك كل منها أثر ما على القرية، فهي تحمل عبق التاريخ المصري، حيث كانت إحدى القرى القريبة جدا من مدينة أبطو حاليا – بوتو قديما، عاصمة الوجه البحري قبل توحيد القطرين، وقريبة أيضا من مدينة كاسخت – سخا الحالية مقر حكم الأسرة الرابعة عشر في مصر القديمة.
ولكن قيمتها الأهم ترجع إلى اسطورة إيزيس وأوزوريس، حيث يذكر أن إيزيس لجأت إلى قرية " كوم أمان أو بر أمان"، التي تقع على الشاطئ الغربي لبحيرة البرلس، كما تقول الأسطورة، حيث لاقت الكرم والأمن، ولذلك يعتقد أهل القرية ومثقفوها أن هذا الاسم هو أصل التسمية.

وعلاوة على ارتباطها بالعمق المصري القديم في بعدها النيلي، سنجدها أيضا ذات سمات بحرية، فجزء مهم من سكان القرية يعملون بمهنة الصيد، وهم محترفون فيه، ومتميزين إلى حد بعيد ولهم تراثهم وتاريخهم وعراقتهم المميزة في هذا الجانب، من حيث المهارة والصنعة، سواء في أدوات الصيد كالشباك والمراكب، أو في القدرة والموهبة على فهم لغة بحيرة البرلس وطقوسها طوال فصول السنة، وعلى مدار نهارها وليلها. وهذا التوحد مع البحيرة وطقسها نحت البرنباليون أغانيهم الخاصة برحلات الصيد، وطقسوهم وطباعهم وعاداتهم، حتى في بيوتهم، تدرك على الفور مدى ارتباط الصياد في برنبال بالبحر والسمك، والتفاصيل في هذا الأمر كثيرة يصعب حصرها.

ولم يغب البعد المتوسطي عن القرية، فهي تحمل سمات حوض البحر المتوسط، مثلها كالبلدان التي تطل على البحر أو تدنو منه، فالطقس البحري يغلب على هوائها نتيجة انفتاح المجال بينها وبين البحر بدون عوائق، والطباع المتوسطية تميز أهلها أيضا، سواء في طريقة نطق الكلمات، وأحرف المد التي تميز سكان الساحل الشمالي المصري، وكذلك طريقتهم في التسوق والبيع والشراء، والحديث بحركة اليد كثيرا، وميل أهل القرية إلى البحر والترحال دائما بجواره، سواء للإسكندرية أو السويس حيث البحث عن عمل في مهنة الصيد، ومؤخرا في الغردقة.. هذا الميل تجاه البحر، ليس مجرد رغبة للبحث عن الونس والفسحة والمصيف، بل هو بحث عن الرزق، وكأن جزء كبير من أهل القرية لا يرى نفسه بعيدا عن العمل بجانب الشواطئ أو بداخل البحار.

بين ذلك الثالوث المائي، تشكلت هوية وشخصية المواطن البرنبالي، إذ نسج ميوله، ومزاجه العام، وطباعه، وأغانيه، وتقاليده التي ظلت حتى وقت قريب، تصبغ القرية بصبغتها. وإن غلب الهوى العذب" النيل" على الهوى المالح" البحر والبحيرة.
بمعنى ، إذا كان البحر قد فرض سطوته علي الشخصية البرنبالية، فالأرض الزراعية أيضا شاركت البحر في تلك السطوة ونازعته في هيمنته، فالزراعة كانت قريبة من تلك الشخصية بقدر قرب نهر النيل لها، فإذا كانت بحيرة البرلس والبحر المتوسط يبتعدان آلاف الأمتار عن القرية، فإن النيل يبدو أنه يدخل في احشائها ويمر حتى من خلال شرايين أهلها، حتى أننا ورثنا أمراض المياة العذبة ، فالترع والقنوات تشق القرية شمالا وجنوبا وغربا وشرقا، تحيطها من كل جانب، وتسير بجوار الطرق المؤدية إلى الأراضي الزراعية، وكأن الماء العذب يشارك أهل برنبال حياتهم ومسعاهم إلى الرزق، بل ويسبقهم إليه.

في قريتي.. يبدو الفلاحون وكأنهم جاءوا للتو من صلب الفلاح المصري القديم، إذ ترى من يشبهون رمسيس الثاني واخناتون وحتشبسوت وأحمس.. الخ، فالوجوه المنحوتة كالصخر، والأجسام المغروسة في طين الأرض وكأنها أعواد الذرة أو عباد الشمس، حينما تميل نحو الأرض من فرط ثمارها، تمنح القرية وأهلها سمات مميزة لا تخطئها العين المجردة، وعلى قدر هذه الصلابة في القدرة على مواصلة العمل في الصيد أو الزراعة، سنرى في المقابل قدر عال من البساطة وحس الفكاهة والدعابة التي يتسم بها معظم أهل القرية نساء ورجالا وأطفالا.

والفلاحون في قريتي هم من يحملون نسقها القيمي، ويحددون ملامح وجهها الحضاري، فمنهم نستمد اللغة واللهجة والطباع والثقافة الزراعية، حتى عادات الزواج وسماته تسود فيها خصائص الفلاحين، ورغم أن بالقرية ما يقرب من ثلث سكانها من الصيادين الذين لا يعرفون شيئا عن الزراعة اطلاقا وكأنهم قريتين منفصلتين، ورغم أن بها عدد لا بأس به من المتعلمين، إلا أن النمط الفلاحي يغلب عليها بدءا من زي الرجال والنساء، وحتى العادات والقيم.

وإذا كان الصيادون في قريتي هو أهم مصدر يومي للثروة والرواج الاقتصادي – حيث تتأثر حركة التجارة الداخلية بحالة الصيادين- فإن الفلاحين هم أهم مصدر للأمان الاقتصادي لأهالي القرية، فهم منتجوا الحبوب والغلال والألبان والطيور، وبالتالي فثمة تكامل اقتصادي يقوم به الفلاحون والصيادون، مما يجعل من القرية رائجة تجاريا بشكل يومي، بل وبما يسمح لأهلها بأن يكونوا في سعة من أمرهم في كثير من الأحيان، ولكنها سعة محدودة لا تسمح كثيرا بتكوين فائض اقتصادي، ينقلهم من طبقة اجتماعية إلى أخرى، وربما هذه التركيبة تفسر لنا لماذا اشتهرت برنبال بالمقاهي الكثيرة، حتي قيل عنها من أهالي القرى المجاورة بأنها قرية لا تنام.

بيد أن الحديث عن فئتي القرية "الفلاحين الصيادين"، لن يكون كافيا في فهم التركيبة الاجتماعية دون الحديث عن فئة الموظفين الذين يحتضنون بداخلهم جماعة المثقفين، تلك الجماعة التي وجدت نفسي بين ليلة وضحاها أحد أبنائها.. وإذا كانت مراكب الصيد في بحيرة البرلس هو موطن الإنتاج المعرفي والثقافي لمجتمع الصيادين، وكانت الحقول في المقابل هي موطن الإنتاج المعرفي لمجتمع الفلاحين، فإن المقاهي كانت هي ملتقي المثقفين والموظفين، وبعض أعيان الفلاحين، ولكن الغريب حقا أن المقاهي كانت تحمل سمات معينة، فهذا مقهى يرتاده الفلاحون، وأخر الصياديون، وأخر الشباب، وأخر المثقفون والموظفون.. وهكذا..

كان مقهى رخا، في البداية هو مركز أو بؤرة الوعي الثقافي بجوار الجلسات العامة التي كانت تعقد في أحد بيوت كبار القرية، وهذا المقهى يحمل أبعادا تاريخية لاعتبارات كثيرة، أهمها موقعه في منطقة السادات، وهو مكان متسع، يشبه ميدان الحسين في وضعيته بالنسبة لأهل القرية، وملتقي الشمال بالجنوب، ملتقي الفلاحين بالصيادين، حيث يفصل السادات بينهما سكنيا تقريبا. ظل مقهى رخا نقطة التقاء، ومرفأ السهر، وموطن كل جديد يدخل للقرية، فكنا نستمع لحفلات أم كلثوم في مذياعها الشهير، وكنا نلتقي المرشحين بها، وتدريجيا تحول مركز الثقل الثقافي منها إلى مقهى صبري، الذي تزامن مع تطور ما حدث بالقرية، سواء في نسبة التعليم، أو التثاقف عبر الترحال لبعض المدن كالإسكندرية والقاهرة، أو خارج البلد عموما. كان مقهى صبري ملتقى الموظفين حتى اشتهرت بهذا الاسم، وكانت أيضا ملتقى المثقفين، فأول فيلم أجنبي رأيته كان بها، وأول مرة أرى بعضهم يستمع إلى وصلة كاملة لأم كلثوم، وكنا نعلم وقتها أنها شيء يصعب متابعته أو الاستماع لمدة ساعة كاملة لها وهي تشدو..

ومع التطور أيضا تحول مركز الثقل إلى مركز الشباب الذي انتقل من شقة من حجرتين إلى مكان أكثر اتساعا، فسنحت لنا الفرصة لأن نحدث تحولا نوعيا في نشاطنا واهتماماتنا، فقمنا بتكوين لجنة ثقافية برئاسة الشاعر كمال الزراع، وقدمت نشاطا أكبر كثيرا من حجم وقدرات القرية. كان النشاط الثقافي في برنبال ملفت للانتباه، ومؤثر وفعال وإيجابي إلى حد بعيد، حتى أننا كنا ننافس في عدد المبدعين مدن كبرى في المحافظة مشهود لها بالحركة الأدبية مثل مدينة دسوق العريقة..

من تلك البؤرة تكثف الضوء، الذي صار مسلطا على عقولنا ليستفز فيها الفعل، فعل الأدب، وفعل الانتماء للقرية في الوقت نفسه، حتى إننا قررنا ذات مرة أن ننظف كل شوارع القرية، وكانت وجبة الغذاء سندوتشات مربي. في هذا الوقت كنت في الثامنة عشر من عمري تقريبا، وكنت عضوا فاعلا ومندمجا بقوة في كافة الأنشطة فكنت عضوا في فريق كرة القدم وكرة الطائرة واحد النشطاء في اللجنة الثقافية حيث بدأت كتابة الشعر، فكنت مع رفيقي عبده الزراع نكتب، ونذهب بما نكتبه للشاعر كمال الزراع أو ننتظر لحين قدوم الشاعر طاهر البرنبالي من القاهرة لنعرض عليه كلماتنا. ولم يكن بإمكاني فعل أكثر من ذلك.. وهو كثير. ويبدو لي أن تلك السنوات ظلت عالقة في حلقي لم يفارقني مذاقها أبدا.


2- أبي وأمي.. والنجم إذا هوي

هذا عن القرية، وكيف شكلت الأعمدة الرئيسية لشخصيتي، ولكن ماذا عن الأسرة، كان أبي شخصية نادرة، ارتحل هو أيضا من قريته، بإحدى قرى مركز قلين " الغنيمي" إلى برنبال، طلبا وسعيا وراء الرزق. وحينما أقول كان شخصية نادرة فأنا أعني جيدا ما أقول، ليس انحيازا للأب، بقدر ما هو حكم موضوعي تماما، على رجل أصيب في مقتبل حياته بما يكسر ضهر أي شاب، ورغم ذلك ظل حريصا- بكبرياء غير معهود – على مواصلة الحياة، وتكوين أسرة، بذل من أجلها الغالي والرخيص لكي يجعلها أسرة صالحة. وقد ترك أبي في أثارا كبيرة، فهو لم يكن حرفيا أو فلاحا أو صيادا، كان موظفا في الصحة في مستشفى القرية، وبالتالي لم أضع قدماي بكامل هيئتها في طين الأرض، ولم تفلح دعوات والداي بأن أعمل صيادا أجيرا حتى في شهور العطلة الصيفية، ولذلك بقيت محافظا على تقاليد الأب الموظف، وهي وقت الفراغ الكبير جدا، والابتعاد عن الأعمال الشاقة التي يتسم بها عمل أبناء الريف. ترك في هذا الأمر، أثر استمر معي في المدينة، وهي فتور الحماس تجاه العمل الخاص أو الأعمال الشاقة. فيما كانت أمي كالأرض البكر، ظللت طوال حياتها أحصد منها نضارة الحياة، وبلسمها. وحينما كنا نجلس على طبلية العشاء، كانت توزع علينا الحب والرضا لنستكمل به الوجبة المتواضعة. علمتنا أمي أن ثمة أشياء لا تشترى، وهي القناعة، كانت توزع علينا كل منا نصيبه من السمك الصغير، ويبقي هي نصيبها رؤوس تلك الأسماك.. في أيامها الأخيرة، كنت أتوسل اليها أن تطلب مني ما تشاء، كان تطلب لأحد أخوتي.. ولكنها أبدا لم تطلب يوما شيء ما لنفسها..

3- سفر الخروج

بعد انتهاء الثانوية العامة، كان على أن اخرج من القرية لمواصلة التعليم، ولكن الأمر لم يكن طبيعيا معي، ففي تلك الفترة، تحولت أفكاري، وانتقلت من حال إلى أخر، كنت أشبه الجميع، فصرت لا أشبه أحد، على الأقل في قريتي، كنت ألعب الكرة، فصارت الكرة هي رأسي، التي خامرتني فظلت تتمايل بي، يمينا ويسارا، اختفي القمر من السماء، وبدا للأخرين أنني ضللت الطريق، ولأول مرة في حياتي أشعر بالغربة بين أهل قريتي، أشعر بالانسلاخ عنهم، شعرت بالوحدة، والسير عكس الاتجاه، وذقت مرارة التجاهل والحرب غير المعلنة علي، لأنني ابدو لهم شيوعيا أو في طريقي إلى ذلك.. اصدقائي يتهامسون، وأكاد اسمع همسهم من نظرات أعينهم، وأبي يعارض بشدة، وأمي تخشي على من غدر السنين كما تقول.... آه ما أقسي الغربة في وطنك.

كان الخروج من القرية، في وقته تماما، فخرجت إلى طنطا أولا حيث كلية التربية الرياضية، ولكنها مرحلة لم تستمر طويلا، فالهوى قد تغير، والرؤية انقلبت رأسا على عقب، وصار ما يصلح بالأمس لا يصلح اليوم، فقررت السفر إلى الإسكندرية، لماذا ركبت قطار الإسكندرية ولم اركب قطار القاهرة.. لا أعرف حتى الآن.. رغم أنهما حينئذ كانا بالنسبة لي نفس نسب المخاطرة.

في الإسكندرية التحقت بالمعهد الفني الصناعي، ولم احضر فيه محاضرة واحدة ولا امتحان واحد.. كنت أري نفسي خارج هذا المكان، ولكنني لم أفعل وقتئذ غير تلك النظرة السلبية دون فعل أي شيء.. فقد كنت مصدوما من كل شيء حدث معي ولي، وليس لدي شعور داخلي إيجابي تجاه أي شيء، حتى أهلي، ابتعدت عنهم جدا، إلى درجة كادت أن تذهب بعقل أمي فعلا..

كان الرحيل إلى الإسكندرية يشبه رحلة حبة القمح حينما تنزع من سنبلتها إلى أقرب مطحن للدقيق، انتقال لا أجيد وصفه أبدا، لأن به عشرات التفاصيل، وربما مئات، ولكن أكثرها وضوحا، كان في صعوبة تحول المياه العذبة التي تجري بين ضفتي النيل، إلي المياه المالحة التي تلاطم شاطئ الإسكندرية، فالتحول من العذب إلي المالح، يواجهه التحول من ضيق القرية إلى براح المدينة، كلاهما مشاعر تضاد الأخرى، إنه تحول وصفه ماركس وإنجلز جيدا في كتابهما "الايديولوجيا الألمانية" قائلين: "إن المدينة هي إذن نتيجة تمركز السكان، والرأسمال، والملذات، والحاجات، بينما يثبت الريف الحقيقة المضادة تماما، أي العزلة والتشتت".. رحلت لكي أذوب في هذا التمركز السكاني، وأهرب من عزلة وحصار القرية، لا سيما بعدما شعرت أنني أنسلخ منها فعلا. لقد رحلت إلى حيث لا يعرفني أحد أو يتهم بأخباري، حاولت أن أفهم أنني هنا أذوب داخل الجماعة، ربما هربا، وربما بحثا عن نفسي من جديد، هذه القرية التي شعرت فيها إيزيس بالأمان، كما تقول الأسطورة، لم أعد أشعر فيها بذلك الأمان، فتحولي الداخلي من أحد أبناء الجماعة إلى فرد مختلف بسبب قناعاتي الاشتراكية التي غرسها في الأستاذ بسيوني مرعي، سبق تحولي الفيزيقي من برنيال إلى الإسكندرية، مما جعل احساسي بالغربة في منبت رأسي يزداد يوما بعد يوم، لا سيما وأن هذا التحول مع التعثر في التعليم كان أحد أقوى الأسباب في توتر علاقتي بوالدي، وكذلك في توتر علاقتي بكثير من أصدقائي الذين كانوا يغمزون ويلمزون من وراء ظهري لأنني خرجت أو أكاد أخرج عن الإسلام والدين بصفة عامة، هذه هي صورة الشيوعي في قريتنا، وفي كل المنطقة العربية تقريبا.

4- الإسكندرية.. شهوة الرغبة

بدت الإسكندرية في عقلي مساحة استعصى الوجدان على ابتلاعها، براح سقطت في جوفه ورقة خريف صفراء شاحبة، لم أكن أشعر بالونس مع أهلها، لذلك ظلت في ناظري هي البحر فقط، هذا الامتداد اللانهائي، الذي يعني بالنسبة لي الانطلاق في التأمل دون حواجز يفرضها علي البشر، لذلك كنت أعشق فيها شيئين، الغرباء الذين يأتون اليها صيفا، لأنهم يشبهونني، فكنت اقترب منهم في صمت، لأسمع لهجتهم وألمس تصرفاتهم التي تذكرني بسنوات الريف. والشتاء لأنها تكون الي حد ما متحررة من زحمة البشر، ولا يبقي منها سوي البحر والمطر، ومقهى الكريستال الذي أجلس خلف زجاجه العتيق لأري كورنيش المدينة خالي من العاشقين والراحلين والمترجلين، هي لي إذن، وربما هذا الفضاء اللا محدود بقدر ما يصل أطراف السماء بحواف البحر، يفصل في الوقت نفسه، بين محكمة الماضي وسؤال المستقبل.. كانت اللحظة، الأنية، هي كل العمر، وكم تمنيت لو أن الزمن يتوقف، لو أن سيولة الأفكار تصمت للحظات، كي أستطيع أن أري ذاتي بلا ضغوط الحياة اليومية.

كان علي، أن أعقد المقارنة بين مقهى صبري ومقهى الكريستال، إن الفارق شاسع، وكاشف في الوقت نفسه، في مقهى صبري كنت أجلس في تراتبية تحكمها أشياء كثيرة، في حدود جيلي، فلا أتخطى الأصول في الحديث مع من هم أكبر مني، وفي مقهى الكريستال، لم تكن التراتبية سوي بما لديك من مال تستطيع به أن تكرر الطلبات وتعطي النادل ما يزيد عن ثمن المشروبات حتى يقدرك كيفما تريد. كنت أدرك حينها أنه يجب علي ترك معايير الحكم التي تربيت عليها، في القرية، وأحيا بتلك المعايير التي وجدتها في الإسكندرية كمدينة، والمدن لا ترحم. ولكن كيف يمكن ذلك وليس لدي مؤهلات الحضور الإيجابي؟ لذلك كنت أميل دوما للعزلة، التي ظلت تحكم شخصيتي حتى اليوم.

في الإسكندرية حيث الطرق الممهدة، والبشر الذين لا يتوادون فيما بينهم، والمحلات التي تشتهي الزبائن، والشباب والصبايا الذين يتمايلون في مشيهم بلا ريبة، محلات كوافير السيدات، والرجال الذين يقفون في البلكونات بملابسهم الداخلية بلا خجل، أو الذين يجلسون لساعات على كورنيش البحر للصيد، طالبات الجامعة حاسرات الرؤوس، صوت قطار أبوقير المزلزل، الخمارات، محلات بيع الجرائد في محطة الرمل، محل العصافيري الذي يقف أمامه عشرات المنتظرين من اجل لقاءات متنوعة، محل تافرنا للفطائر الذي كنت أقف أمامه لدقائق اشتهاء لما يقدمه لزبائن لا يشبهونني، رائحة شواء الكفتة، عصير المانجو في فندف سيسل ، والكوب يخرج منه عصا طويلة اسطوانية، يشربون منها بطريقة دعائية تشبه موديلات الإعلانات، الحنطور الذي يخطو به حصان علي الكورنيش ويحمل بداخله فتاة وشاب مخطوبين حديثا، تلك المرأة التي تقود سيارة فارهة ودخان سيجارتها يخرج من فتحة صغيرة زجاج السيارة، حفلات الأفراح التي كانت تقام في كازينو الشاطبي، جماهير نادي الاتحاد التي تخرج من ستاد اسكندرية في زفة بلدي حتي القهوة العالية في محطة مصر، سور نادي سبورتنج الذي يشبه اقطاعية كبري من العصور الوسطي، كانت الإسكندرية هي كل هذا الزخم، فهل يحتمل القلب المنكسر كل هذه التفاصيل؟ في كل هذا، كانت أمي لا تتركني، صدي صوتها في أذني، هذا ليس لك، استقم، وترفع، وانغمس فيما يجب أن يكون، هذا ليس لك.

ما الذي جاء بي إلى هنا؟ ما الذي وضعني في عالم أكبر من قدرتي على التحمل، فأنا لا أملك سوي جسدي، فهو مسكني، وهو الذي يشعرني حقا بالملكية، التي لم أكن أشعر بها سوي فقط في تلك المسافة بين القدمين على الأرض، كنت أشعر أن هذه المساحة هي كل ما أملك في تلك اللحظة. حتى حينما أقبض على بضع جنيهات، لم أكن أشعر أبدا أنها ملكي، فغالبا ما أكون قد استعرتها من أحدهم. هل هذا هو الفقر؟ لم أكن على استعداد لتقبل هذا المعني للفقر، مؤكد أن له معني أخر، وهو فقر الفكر – كما يقول يوسف ادريس- أو فقر الإنسانية، أو فقر المشاعر، هكذا كنت أحاول أن اقنع نفسي، أن أخلق وعيا مغايرا لما أنا فيه من فاقة. ومع تراكم سنوات العمر، اعتدت على العيش في كل الظروف. ثم اكتشفت أن شيوعيتي كانت هي الرصيد الوحيد الذي أثق في أنني أمتلكه، من هنا كنت معتزا بها الي أبعد مدي، ربما لأنها الشيء الوحيد الذي أثق أنه معي، بعد أن انتزع مني كل شيء، الموطن والأهل والأصدقاء والهوايات والتعليم والعمل، فأخذ كل هؤلاء معهم راحة البال أيضا.

ولكن يبقي السؤال، هل حدثت لي هجرة من الريف إلى المدينة؟ بمعني هل كنت أتوق للمدينة، عيشا وعملا وانسجاما مع روحها المركبة؟ يبدو لي أن الأمر لم يكن كذلك، فلم أزل أحمل في خبايا وجداني روح الريف وتفصيلاته، في المأكل، ومنطق العيش، ولكن في العموم ظل المظهر ريفيا غير قادر علي مواكبة تقاليع المدينة. ومن ثم فلا أستطيع القول إنها كانت هجرة بالمعنى الذي يؤدي إلى انسجام تام مع المدينة وانسلاخ حاد مع الريف.

كنت احتاج في المدينة إلى وسائل حماية، كانت الحماية الداخلية موجودة بحكم تربية الريف وخاصة ما غرسته أمي من قيم، دون دراية كافية منها بما تفعل، كانت دائما ترفع في وجهي نصف الحديث النبوي " ثم استقم "، وكان علي أن أفسر وأطبق تلك العبارة علي نفسي في كل وقت ومع كل اختبار، وهي كثيرة جدا ، وخاصة في سنواتي الأولي في المدينة ..أما الحماية الخارجية فقد كنت حريص علي أن أبدو دائما لدي استعداد للدخول في صدامات مع الآخرين مع بروز أية مشكلة في البيع والشراء أو المواصلات، كنت حريص علي الاندفاع، ربما بحكم فورة الشباب أو بحكم الشعور الدفين بالغربة التي تحتاج إلي مصدر قوة، حتي ولو كانت مجرد الصوت العالي. ولكن هذا المنهج ليس مناسبا في كل الأوقات، فالحماية مفهوم أكبر من مجرد حماية النفس، بل وتأمينها أيضا، واستقرارها كذلك، والتأمين كان يحتاج للعمل، ولكن الاستقرار كان هو الأمر الأصعب، كيف يتم؟ كانت الايديولوجيا هنا هي مفتاح استقرار النفس لتصبح قادرة على أن تحيا حياة طبيعية. ولكن يبقى السؤال، ولماذا تشعر النفس بعدم الاستقرار، هل هي حياة المدينة؟ أم تقدم العمر وغياب الهدف؟ أم شعوري بالانسلاخ عن الجماعة وليس عن قريتي فقط؟ والانسلاخ عن الجماعة يعني أنني حينما تحولت فكريا وأيديولوجيا من المنطقة الرمادية التي لا تلزمني باتخاذ أية موقف من الحياة، وأن أسير مع السائرين من أهل بلدي، إلى المنطقة الأيديولوجية والاشتراكية، شعرت بانسلاخ عنيف عن الجماعة، صرت لست أنا الذي يعرفني على مدار عشرين عاما، وهي سنوات التكوين والنشأة.. كان الأمر عسيرا وصعبا، فقد خلعت ردائي مرتين، مرة من برنبال إلى الإسكندرية، من بساطة الريف إلى تعقيد المدينة، ومرة من اللا منتمي إلى المنتمي. وحينما يضاف إلى ذلك التحول الذي تم في فترة وجيزة جدا، حينما يضاف إليه أنني بلا عمل، وفقدان فرصي في التعليم، فإن الأمر يصبح أكثر صعوبة، وربما أكثر قسوة أيضا. هنا كانت الحماية الخارجية أمر هام وضروري.

لا أذكر بالضبط كيف أقرأ سطور مشاعري وخلجان خلجاتي ومنحدرات روحي، في مرحلة الانتقال، الجسدي والنفسي، فالجسد كان يستقل قطار مطوبس- المعمورة، ومنه إلي قطار أبي قير حيث أهبط في ميدان محطة مصر، ومنها مترجلا إلى مقر الحزب بمحرم بك، التي لم اتركها منذ أن وطأت قدماي الإسكندرية. أما الروح فلا أعلم هل انتقلت معي، من مقعدها بجوار أمي في القرية، أم رحلت مع الجسد في رحلة البحث عن ذاتي، أو ربما الهروب منها.. وفي لحظات كثيرة كنت أعتقد أن روحي لم تزل تسكن في تلك المسافة بين يد الهون والهون، وأنا أطحن لها الثوم، جالسا بجوارها، وهي تطهو الطعام الفقير، وهذا ما يجعلني اعتقد بثنائية ربما تبدو غريبة أن روحي كانت تسكن أمي فيما كان جسدي يسكن قريتنا، وحينما ارتحل الجسد حيا في أرض الله الواسعة، ظلت الروح معلقة في صدر أمي بجوار ذلك العقد الذي ورثته عن أمها. والمؤكد أنه حينما تغيب الروح بعيدا عن محل إقامة الجسد، يصبح الفكر يتيما بلا هوية، وبلا معنى، هنا بدت الخيمة مهددة من الرياح العاتية بالاقتلاع، رياح الغربة والاغتراب، في الإسكندرية، ورياح العزلة وشبح الانسلاخ عن واقع صار ضيقا على صدري في القرية، وبدا لي أنني أغرق أو مستعد للغرق في مياه الحياة التي لا أعرف عن غدها شيئا، ما المصير؟ وما الهدف؟ فركبت حصان العناد والكبرياء، وقررت أن أصمد ولا أسقط من فوقه، فلست على استعداد لأن تذوب جفون أمي من لهيب الدموع، وكأنها صنعت من مادة الشمع، كانت أمي مصلوبة دوما بين حاجبي، فيما ظل أبي، رغم ما به من قسوة خارجية، يطل علي في كل لحظة، وكأنه يصدح في أذني، لا تجعلني أندم على رهاني عليك.. أي عبء هذا الذي جعل الجسد خائر القوي دائما، واستحل الروح فسكنها عنوة؟

في الإسكندرية، حيث التاريخ والجمال والسحر والبحر، جال بخلدي أنني ارتقيت معيشة وتحضرا، ولم أكن أدري جوهر الأمور وبنيتها، فقد اعتقدت أنني انتقل من البداوة إلى الحضارة، من ثقافة الحقل إلى ثقافة المصنع، من الترعة إلى البلاج، ومن الانغلاق إلى الانفتاح. فشواهد الواقع تقول إن صوت الترام وهو يشق الطريق الواسع، يختلف تماما عن صوت الحمار وهو ينقل الفلاحين من بيوتهم إلى حقولهم، ولكن الاختلاف ليس بالضرورة دليل علي شيء عميق، أدركت للحظات، لم تستمر طويلا في ذهني أنني أت من قرية أكثر عمقا في التاريخ من الإسكندرية، وأكثر ارتباطا بالتاريخ المصري من الإسكندرية، لم أكن أدرك أنني أهبط هبوطا حضاريا، وليس كما كنت اعتقد، وربما هذا النسيج الحضاري البرنبالي كان سببا مهما في قدرتي على مواصلة الحياة في الإسكندرية لثمان سنوات بدون هدف وبلا قيمة تقريبا. ولكن تظل الإسكندرية مدينة ذات مواصفات خاصة، أول مدينة كوزمو بوليتان في التاريخ، وأكثر المدن التي حدث فيها تلاقح حضاري، ومنارة حقيقية، وأخطر جوانبها سحرا، أنها مدينة عصية على الكراهية، وهذا الجنون الساكن فيها، ربما جعل ارتباطي بها، وخاصة في سنواتي الأولى سهلا، رغم كل مرارات الغربة الجسدية والنفسية.

في قريتي، كنت متخم بالأصدقاء، ولكن في الإسكندرية لم يكن لي فيها صديق واحد، فلم يزل الهوى ريفي، يفهم العلاقات الإنسانية على الطريقة الزراعية، فاخترت أن اسكن في رحم الرفاق، ولم يكن لي من سكن، فاخترت أن اسكن في جسدي، لم يكن لي من مصدر دخل، فاخترت أن اصادق الجوع، ولم يكن لي من وطن محلي تلتف برايته مهجتي واساريري، ومن ثم لم يكن أمامي سوي الاعتصام بقناعاتي وأفكاري، التي بدت للعالم أجمع أنها في طريقها للانهيار، فبعد ثلاث سنوات تقريبا تفككت الكتلة الاشتراكية وصارت أثر بعد عين، حتى هذا الحلم الذي كنا نتحلق حوله، رغم كل ما به من عيوب، تبخر وصار عبئا إضافيا.

5- الشيوعية التي أنقذتني

إذا كان حزب التجمع ومن قبله الحزب الشيوعي المصري هما الغطاء الأيديولوجي الذي تحمل مسئولية الحفاظ على هويتي من التفكيك أو التبعثر بين جنبات شوارع الإسكندرية الخلفية، وعالمها الليلي، ، فإن هذا الغطاء كان في حاجة لعناصر تشبه قضبان السكة الحديد، فتعرفت علي ثلاثة رفاق، هم هشام نوح وصفاء السباعي وعزيزة مصطفي، فوضعت نفسي في قلب هذا المثلث، كل منهم يستر مساحة فارغة في روحي ووجداني وحالة التعرية التي اصطبغت بها غربتي، وبعد سنوات قضيتها بين الغطاء العام في الحزبين، والغطاء المحدود بين الرفاق الثلاثة وغيرهم آخرين، بدا لي أن العالم لم يزل ضيقا، فأبي وأمي وأخوتي لا يرونني لشهور عديدة، ولم تكن وسائل الاتصال متاحة وميسرة، مما جعل الحياة أشبه بيوم واحد طويل، لا تسري عليه ثنائية الليل والنهار، وكنت سعيد الحظ جدا أن كانت الإسكندرية تعج بالكثير من مناضلي جيل الاربعينيات – مع حفظ الألقاب – "خربوش، حمزة البسيوني ، محمد يونس، شحاتة عبد الحليم، جابر المعايرجي، أحمد مصطفي، صفية فهمي، نازك عباس، حسين عبد ربه، ...الخ وغيرهم الكثير"، فارتميت في أحضان هؤلاء، عوضا لي عن ما افتقدته من حنان الأبوة، ودفء الأسرة، ولكن الأهم أنني وجدت فيهم النموذج الايديولوجي الخام والبكر، فانتقلت من واقعية العمل التنظيمي السياسي إلى رومانسية النضال وتجاربه الإنسانية، فحدث لي أكبر وأهم تحول من خلال ملاصقتي شبه اليومية لهذا الجيل الاربعيني الذي قدم الكثير جدا للحركة الشيوعية المصرية. ظلت ملاصقتي لهم حتى أخر أيامهم في هذه الحياة، فتعلمت منهم الشيء الكثير والعظيم، ولكن أهم ما ارتويته منهم هو الايمان بالإنسان، والنضال من أجل قيم إنسانية، والإخلاص، والوفاء، والصدق.. لا أعلم هل تعلمت الدرس منهم أم لا.. ولكن المؤكد أنهم وبدون دراية منهم، استطاعوا أن يسدوا ثغرات غائرة في وجداني، تجاه الانسلاخ عن القرية، والاغتراب في مدينة الرب، وشعور اللاهوية الأيدولوجية الذي اصابنا جميعا بعد انهيار الكتلة الاشتراكية.

كانت الأيام صعبة، كنت أخشي النظر إلي السماء، حتي لا يشرد الذهن في المستقبل وفي المصير، فإن كنت قد فقدت الكثير، فعلي الأقل يجب علي أحافظ علي انسانيتي من التلوث، فعشت فترة عقيمة ، ثقيلة، مؤلمة ، سبع سنوات عجاف ، من 1987- 1993، سبع سنوات أكلت فيها الدنيا من عظامي، فلم أعرف من الطعام سوي الخبز والفول المدمس، ولم استبدل فرش السرير بآخر يوما، لأنني لم أكن أمتلك محلا مستقرا للنوم، بل ولم استبدل ثيابي كثيرا، فكانت من الندرة بحيث كنت أغسل السترة وانتظرها حتي تجف لألبسها، سبع سنوات والكبرياء يزداد عنادا، لن أضعف ولن انحرف ولن اتنازل عن أي من قيمي في هذه الحياة حتي لو انتهت بغير إرادة مني، فكنت عنيفا، صداميا، سريع الغضب والاشتباك، سليط اللسان، عصبي دائما، حاد الوجه والملامح، غاضب دوما، ولم تكن كل تلك الخصال السيئة سوى حالة حماية مصطنعة تمنع الأخرين من النفاذ إلي داخلي فيروا أطلال الإنسان الذي يسكن هذا الجسد.

لقد ورثت عن أمي القدرة على التكيف مع الفقر والفاقة، فاستطعت أن أعبر فترات عصيبة في حياتي، وورثت عن أبي العناد والمثابرة، فساعدني ذلك على استعادة مسار حياتي الشخصي والعلمي والاجتماعي، وحملت من كل منهما صفتين متناقضتين، فأبي يحب العزلة، وأمي تعشق الونس الاجتماعي، فصارت لدي القدرة علي هذين الفعلين أو النمطين من الحياة، فكانت العزلة مهمة في دراسة الفلسفة، وكان الونس مهما في العمل السياسي.. ولكن يظل بعد ذلك هذا الجيل الاربعيني الذي ضبط إيقاع سلوكياتي وحياتي بشكل عام. كنت اراقب سلوكياتهم وتصرفاتهم، وأحاول أن اتمثلها.

في تلك السنوات السبع العجاف، تجردت من كل شيء، من القرية/ وطني الأول، ومن الأسرة/ منفذ رؤيتي للعالم، ومن رؤي الجماعة/ حيث الحياة بلا هدف عام، من التعليم/ الذي كان مفروضا علي بعد المرحلة الثانوية، ومن العمل/ تركيبتي النفسية لا تقبل الأوامر من أحد، وصرت كورقة شجر تتقاذفها رياح الخريف علي أرض لا تشعر تجاهها بالانتماء، صرت بلا معنى ولا هدف، وإن ظلت القيمة التي أبحث عنها في حياتي لم تحدد ملامحها بعد، كالهيولى شيء ما في احشائي يزداد توحشا كل يوم، فما الذي علي فعله؟ وكيف أصون نفسي وأحميها من هذا الهجوم الضاري علي من كافة الاتجاهات؟ هنا.. وهنا فقط.. كانت الايديولوجيا هي المنقذ الذي وضع مداد الحبر في قلم جففته دروب الحياة، كانت هي العاصم والعصمة، الحبل الذي امتد لي في قلب الجب لأتمسك به، حتى أستطيع مواصلة الحياة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.. لقد امدتني الايديولوجيا بمنظومة قيم، وتصورات عن العالم، ومنهج في إدارة تلك السنوات العجاف، بحيث حالت دون أن تنزلق قدماي في التافه أو الخطر أو الجريمة أو الانحراف، فكنت دائما أقول لنفسي يجب عليك كشيوعي أن تتصرف كذا وكذا، فلا تكذب، ولا تتنازل، ولا تيأس ولا تنهزم ولا تخشي شيئا طالما لم ترتكب جريمة بشعة، أو أقدمت على شيء تخجل منه. كانت شيوعيتي عونا لي في أن اتقبل الجوع، والتشرد بلا مأوي، وحصانة لي من ما كنت أراه يوميا من مظاهر الغنى في كل مكان بالإسكندرية، فلم أشعر يوما بأن الفقر سبة في جبيني، بقدر ما شعرت أن توقف التعليم كان كارثة حقيقية، لذلك حينما استعدت عافيتي فيما بعد 1993، لم أفكر سوى أن أواصل مسيرة التعليم مرة أخرى ولكن في المجال الذي أحبه، وهو الفلسفة، وتلك هي احدى أهم مميزات الايديولوجيا أيضا، أنها كانت دافعا لي لأن أفعل كل ما أؤمن به، بل اتفوق فيه أحيانا.

لقد انقذتني الشيوعية، رغم أنها لم تستطع أن تنقذ العالم. ومنحتني الأيديولوجيا الوعي الحقيقي رغم كل ما توصف به من أنها لا تنتج سوى الوعي الزائف. وأهداني رفاقي واساتذتي من جيل الاربعينيات الوسائل التي من خلالها أستطيع أن أصبح شيوعيا تعبر عنه تصرفاته وسلوكياته، بحيث يمكن القول بأنه إذا كانت أمي قد غرست في أن اعتدل في تصرفاتي، وعلمني أبي أن العلم والتعلم هما معيار الحياة الحقيقي، فقد عملتني الشيوعية أن أبقي مخلصا للناس، وللقيم الإنسانية، وكذلك عملتني الايديولوجيا أن البشر بلا وعي محض حيوانات تسعى في البرية للبحث عن الطعام والغريزة.

باختصار.. لقد امتحنتني الحياة مرارا، وفي معظم المرات كنت أعبر بأقل الخسائر، ولكنني حينما امتحنت الشيوعية بحثا عن بديل لها في وجداني لم أجد ما يستحق من غيرها لكي أحبو إليه، وكما علمني عم جابر المعايرجي، قائلا لي: استيقظ كل يوم صباحا واطرح على نفسك السؤال التالي: لماذا أنا شيوعي؟؟ إن لم تجد إجابة... تخلي عنها فورا.. وأحسب أن اجابتي كانت كل صباح، هي لأنني أريد أن أكون انسانا، يعمل من أجل نشر قيم الحق والخير والجمال.. وبهذه المعاني.. أستطيع القول إن الذات – ذاتي – كمعمل تجريب ايديولوجي ربما لم تكن على هذه الصورة – بسلبياتها وايجابياتها – لو لم أكن شيوعيا.