رعب يناير: عشر سنوات من الثورة المضادة
محمد دوير
الحوار المتمدن
-
العدد: 6796 - 2021 / 1 / 23 - 01:44
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
... في عشرية الثورة المصرية يناير 2011 - يناير 2021، ينبغي لنا أن نطرح ثلاث تساؤلات كبري الأول ماذا حققت الثورة من إنجازات علي طريق استكمال مهامها لبناء دولة ديمقراطية بقاعدين هما الحرية والعدالة الاجتماعية؟ والسؤال الثاني : كيف كانت ردود أفعال الثورة المضادة في مراحل حكمها الأربعة ( المجلس العسكري والفترة الانتقالية – فترة حكم الإخوان – المرحلة الانتقالية بعد 30 يونيو 2013 عدلي منصور– فترة حكم السيسي ) ؟ والسؤال الثالث : ماذا يجب أن نفعل أو ما العمل ؟
وسوف ينشغل هذا المقال بالسؤال الثاني كيف كانت ردود أفعال الثورة المضادة طوال العشر سنوات التي مرت من عمر ثورتنا المستمرة ؟ بصيغة أخري ، ما هي صور الرعب من يناير ؟
1- مقدمات ملونة
ـــــــــــــــــــــ
منذ أن تولي مبارك السلطة وهو حريص علي تنفيذ المسار الكلاسيكي في علاقة السلطة بالشعب المصري، وفي علاقة الدولة المصرية بالمتغيرات الإقليمية وقضايا المنطقة، فلا الرجل ولا نظامه كان لديهم طموحات متعلقة بتطوير وضع مصر التي ورثته من خريطة الحكم الساداتي. ولكن التغيرات أتت من خارجه، ومن خارج السلطة المصرية ذاتها، فالواقع العربي المحيط يتغير باستمرار بدءا من الانتفاضة الفلسطينية وأوسلو ومرورا بحرب الخليج والحرب اللبنانية الإسرائيلية 2006، ومشكلات الإرهاب الداخلي وتأثر السياحة و الاستثمار. ولم يكن مبارك من هؤلاء الرؤساء الهواة لوضع بصمات علي سجلات التاريخ، ولذلك ظل ممسكا ومتمسكا بالنمط التقليدي في الإدارة حتي علي صعيد الرصيد المعقول من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي ورثها عن الفترة الناصرية.
بيد أن المتغيرات جاءت مع الطموح، طموح الابن في لعب دور ما، وطموح الزوجة في تقديم خدمات ذات سمات نسوية أحيانا وثقافية أحيان أخري..إضافة إلي تضخم في اكتناز الثروة لدي مجموعة عائلات، واتساع رئة الإسلام السياسي بجناحية الاخواني والسلفي.وعلي الجانب الأخر من النهر صرنا أمام مزيد من عمليات الإفقار، ومزيد من الدماء الجديدة من أبناء الطبقة الوسطي الذين شغلهم التغيير تأثرا بالتواصل الحضاري عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع أمم تشكلت فيها البني السياسية بصورة متقدمة..
المسرح يبدو مهيأ لاستقبال حدث ما، في مصر والمنطقة العربية، ثمة جيل مختلف، وتفكير مغاير، ورغبات جديدة ليست بالضرورة مكتفية بالطعام والشراب والكساء والمسكن، هناك الحريات، والرغبة في التعبير، واكتشاف عالم جديد مختلف عن ذلك العالم الذي رسمت ملامحه تجربة دولة يوليو..
ويمكن – تجاوزا – أن انطلق هنا من التعديلات الدستورية في 2007 كان لها أثرا كبيرا علي تعميق التوجيه نحو اقتصاد السوق وتحجيم دور الدولة في مسئولياتها الاجتماعية وتقييد الحريات وتمهيد شبه مستتر لتوريث السلطة ( في 2009 كان 32 مليون مصري من إجمالي 80 مليون يعيشون تحت خط الفقر..ويعيش معظمهم علي الدعم الحكومي بسواء بالعيس أو المواد الأساسية- حصة التموين -، وفقد عشرات الآلاف من المصريين وظائفهم بفعل بيع الشركات في برنامج الخصخصة وكذلك المعاش المبكر.. في تقرير عن العام 2008 أن حوالي 12 مليون مصري يعيشون في مناطق عشوائية تعاني من النقص الحاد في كل شيء تقريبا ويعيشون عيشة دون المستوي الآدمي وتنتشر فيها كافة أنواع الجرائم.. واتسمت مصر بسوء توزيع الدخل القومي.)
هذا بالإضافة إلي الصراع داخل نظام مبارك بين الحرس القديم والحرس الجديد بحيث بدا علي السطح أن البلد في اتجاه نزاع فوقي تبدو ملامحه رغم أن كل الأطراف تنكر وجوده. كانت قوي المعارضة وعلي رأسها حركة كفاية تطرح نفسها كزرقاء اليمامة التي تري في الأفق تغييرا محتملا، وتدعو المصريين للامساك بزمام المبادرة، استغرق هذا الوضع من 2005 تقريبا وحتي أوائل 2011 حينما قرر الشعب المصري النزول إلي الشارع لحسم إشكاليات كثيرة وعلي رأسها فكرة الدولة، رغم أن الصراع لم يكن علي هذا المستوي النظري البحت إلا أن الشعارات والأفكار المطروحة كانت كلها تدعو إلي بناء دولة جديدة بمعايير مختلفة. ولكن لا نظام مبارك ولا طرفي الثورة المضادة " المجلس العسكري و الإسلام السياسي" كانوا يريدون دولة مدنية جديدة، وإنما كل ما "ناضلوا" من اجله هو مجرد تسليم السلطة مع الإبقاء علي المجتمع والدولة والمستقبل رهينة لهم ولتصوراتهم دون مشاركة أي طرف أخر غيرهم.
وكان مقتل خال سعيد علي أيدي رجال الشرطة في 6 يونيو 2010 مدخلا للحراك الثوري، سبقه دعوة للإضراب العام في 6 يناير 2008 حققت نجاحا كبيرا غير متوقع وهو ما أوحي بأن ثمة تغييرات تبدو تحت السطح.. وأن كرة الثلج تتدحرج في نمو متواصل، ثم كانت الثورة التونسية بمثابة نفير الحراك الثوري والربيع العربي.
2- ثورة متشابكة الأطراف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اندلعت ثورة يناير، والمعني الرمزي لها "في عيد الشرطة 25 يناير" وهو اليوم المجيد للشرطة المصرية، إلا أنه يعني أن غضب الشعب موجه بالأساس نحو الاستبداد والتسلط ،والبحث عن الحرية، وعن دولة تحترم حقوق المواطنين سواء الحقوق الإنسانية أو الاجتماعية، وبغض النظر عما إذا كانت الصرخة عشوائية وغير منظمة ولا يقودها تنظيم أو كانت مسبوقة بمشروع تغيير، القضية الآن ليست هنا ، إننا نبحث فقط عن مشروعية الحراك الثوري، ونجده مشروعا بدرجة كبيرة، مشروع لأن عناصر الحراك توافرت بصورة غير مسبوقة .
انتفض المصريون. وبدت السلطة في ورطة كبيرة لم تواجه نظيراتها في تاريخها الحديث، رجال مبارك يحاولون إنقاذ الموقف بأية صورة عبر إصلاحات فات أوانها مثل تعيين عمر سليمان نائبا للرئيس، ثم تعيين احمد شفيق لرئاسة الوزراء الذي وعد بمزيد من التعديلات، أما الإخوان ومعهم كافة فصائل الإسلام السياسي فإنهم يعتبرونها فرصة تاريخية للانقضاض علي السلطة و"خومنة" مصر ، فيما كان المجلس العسكري لا يريد للثورة أم تمتد ولا للشعب أن يصرخ بأكثر من قدرته علي استيعاب الموقف الشعبي الغاضب، فكان حريصا علي ألا تتمدد الثورة لعمال المصانع أو للمحيط الجغرافي خارج ميادين التحرير في كل مدينة، لذلك تسرع وبذل جهدا في عدم وصول الجماهير الي قصر الرئاسة لحصاره، ولعب دورا في اخراج المشهد بهذه الصورة" تنحي الرئيس " ، لقد ظل يضع عينا علي إزاحة مبارك بأقل الخسائر وعين أخري علي طموحات الإسلام السياسي مع مزيد من الرسائل والتطمينات للخارج..
.. وتنحي مبارك وتسلم المجلس العسكري السلطة في مخالفة صريحة للدستور الذي كان قد سقط بفعل حركة الجماهير، ودخلت مصر في مرحلة جديدة من أهم ملامحها سؤال: من يأكل الكعكة ؟ من يستحوذ علي السلطة ؟. كان أمام المجلس العسكري عدة تحديات أهمها الإسلام السياسي الذي بدا وكأنه يدرك جوهرية اللحظة، ثم الشعب المصري الذي قد يستمر في التظاهر والوقوف حتي يحقق أهداف ثورته، ثم القوي الوطنية الديمقراطية وتلك كان أمرها أكثر سهولة من غيرها، فهناك دائما إمكانية للتوافق معها أو علي الأقل تحديها والتغلب عليها لضعف قدراتها وإمكانياتها البشرية.. فلم يكن أمام المجلس العسكري سوي التحالف المؤقت مع الإسلام السياسي، وكان من ثمار هذا التحالف استفتاء 19 مارس 2011 الذي كان أول معول في هدم الحراك الثوري وتبريد الروح الثورية وتفتيت الصف الوطني.
.. كانت نتائج الاستفتاء موحية بدرجة كبيرة حيث صوّت أكثر من 4 مليون مصري ضد الإسلام السياسي والمجلس العسكري، أي قالوا "لا" للتعديلات، فيما أقر 18 مليون مصري تحت دعاوي الاستقرار بـ "نعم" للتعديلات، ومن النتيجة تلك بدأت الثورة المضادة برنامجها العملي بانتخابات مجلسي الشعب والشورى الذي افرز أغلبية إسلامية،ومنها تم اختيار لجنة كتابة الدستور، التي أنتجت دستورا معقولا إلي حد ما، ولكن القضية ليست هنا، وإنما كانت الثورة في محمد محمود تروي قصة أخري، وفي أثناء انعقاد جلسات مجلس الشعب كان الثوار يستكملون ثورتهم – بالطريقة التي يفهمون به الصراع - وكان الإخوان يعتقدون أن الثورة قد انتهت
لعب طرفا الثورة المضادة بأسلحتهم المتنوعة في تناغم وتوافق غريب، فامتدح عصام العريان المجلس العسكري، وتحدث مرسي نفسه عن القوات المسلحة بصورة توحي بأنه شديد الفخر بها، فيما كان ممثل المجلس العسكري في لجنة كتابة الدستور يصلي صلاة الجماعة خلف ياسر برهامي.. وتفاصيل لجنة كتابة الدستور تحتاج إلي حديث منفصل..حيث القوي المشاركة في الحكم ما بعد الثورة تحاول أن تؤمن لنفسها صلاحيات محددة، وكأن الثورة جاءت لتأمين مراكز القوي وليس لتحقيق مطالب جماهير الشعب. وانتهت معركة الانتخابات البرلمانية وكتابة الدستور لندخل في المعركة الأخطر وهي رئاسة الدولة.
3- الصيد الثمين
ـــــــــــــــــــــــ
.. بعد إعلان الإخوان علي لسان محمد مرسي في ندوة له بجامعة الزقازيق يوم 5 ديسمبر 2011 أن الإخوان لن يخوضوا انتخابات الرئاسة وأنهم دعاة مشاركة لا مغالبة، نجدهم ولحسابات كثيرة لديهم قرروا خوض الانتخابات الرئاسية بمرشح رئيسي واثنين احتياطي، وفي انتخابات الإعادة بين مرسي وشفيق قدم بعض المصريين قبلة الحياة الثانية للإسلام السياسي بعد القبلة الأولي التي حصلوا عليها في استفتاء مارس 2011 من المجلس العسكري. جاءت القبلة هذه المرة من 8 مليون مصري منحوا أصواتهم لمحمد مرسي في انتخابات الإعادة رغم دعوات مصريين وطنيين كثيرة بالذهاب لإبطال الصوت، 8 مليون مصري أضيفوا إلي 5 مليون حصيلة أصوات مرسي في الجولة الأولي وأصبح الرقم 13 مليون مصري انتخبوا الإسلام السياسي، وحكم مرسي مصر !! في نتائج ظل شفيق يشكك فيها، واعترف احدهم أنهم أعلنوا النتيجة لصالح مرسي خوفا علي انفجار الأوضاع واحتمال إعادة سيناريو الثورة.
أدي الصراع الثنائي بين طرفي الثورة المضادة علي السلطة وضد الثورة علي مزيد من الدماء التي أدت في النهاية إلي تشويه صورة العمل الثوري لدي المواطن العادي، وأصبح الخيار أمامه إما القبول بأي صيغة من صيغ الحكم أو الفوضى، وصار الحديث عن الحريات والحقوق عملية غير مطروحة من أحد، لقد نجح طرفا الثورة المضادة في إخماد الروح الثورة والدعم الثورة لدي قطاعات كبيرة من جماهير الشعب المصري.وتحولت المعادلة من ثوري ومحافظ إلي وطني وغير وطني يدعم تفكيك الدولة، وفي اعتقادي أن هذا التحول هو أفضل انجاز حققته الثورة المضادة، ولم يزل مفعوله ساريا حتي اللحظة؟
هنا نحن أمام انتصار مرحلي ومؤقت لأحد أطراف الثورة المضادة، فما الذي حدث بعد ذلك ..؟؟؟ كانت مشكلة الإخوان أنهم تعاملوا بمبدأ تصفية الحسابات من أول لحظة دون الاهتمام بظروف الثورة وما الذي يجب فعله، فقاموا بالعديد من الإجراءات التي تبدو خاصة جدا رغم أنهم قدموا مبررات بأنها قضايا عامة ولها الأولوية مثل حصار المحكمة الدستورية وإقالة النائب العام وتعيين نائب آخر مصدر ثقة لهم، رغم أنه كان من المفترض بداية إعادة النظر في ترسانة القوانين المقيدة للحريات وتحقيق تمثيل أكبر للقوي الثورية ( اصدر مرسي قانونا في يناير 2013 يمنح فيه القوات المسلحة حق حماية المنشئات الحيوية ، فكان أنصاره من ضحاياه بعد تظاهرهم أمام مقر الحرس الجمهوري للمطالبة بالإفراج عنه بعد اعتقاله علي إثر مظاهرات 30 يونيو.) . ثم اصدر مرسي الإعلان الدستوري المقيد للحريات والذي يوحي بأن الجماعة في طريقها لبناء مجتمع ديكتاتوري بامتياز، وتتضمن مثلا ان القوانين التي يصدرها رئيس الدولة مرسي تصبح نافذة بدون تصديق البرلمان عليها ولا يجب الطعن عليها، مما اغضب المصريين ودفعهم للتظاهر أمام الاتحادية وهناك سالت الكثير من الدماء لفض التظاهرات ( وهو ما دفع احد زعماء السلفيين– يونس مخيون رئيس حزب النور السلفي – بأن يصدر تصريحا واضحا بأنهم سيقفون ضد أخونة الدولة، فالسلفيون كانوا يريدون أسلمة الدولة وليس أخونتها ) ودخل مؤسسة الرئاسة ثمانية من قيادات الجماعة يعملون بشكل رسمي..إضافة إلي تعيين أكثر من نصف المحافظين من الإخوان حتي قبل 30 يونيو اصدر مرسي قرارا بتعيين سبعة محافظين من الإخوان دفعة واحدة.( بينهم عادل الخياط عضو حزب البناء والتنمية الجناح السياسي للجماعة الإسلامية محافظا للأقصر، وتلك الجماعة وجهت لها تهمة قتل سائحين في الأقصر عام 1997). وفي 2014 كشفت جريدة الشرق الأوسط أن بديع كان يترأس اجتماعات داخل القصر الرئاسي جالسا علي مقعد الرئيس، وثمة محاولات قام بها خيرت الشاطر ومحمد البلتاجي أيضا للتدخل في الأمن القومي المصري ، وأعلن عاصم عبد الماجد زعيم من زعماء الجماعة الإسلامية أنهم بصدد تشكيل حرس ثوري من الإخوة..وجلس عبود الزمر في منصة إستاد القاهرة أثناء احتفالات أكتوبر في تحدي غريب وموجع لقيمة النصر الوطني، وأعلن محمد عبد المقصود ان الذين سيخرجون في مظاهرات 30 يونيو كفار وأعداء الدين وبالتالي فدمائهم مستباحة. لم يدرك الإخوان طبيعة المرحلة وخطورتها ومطالب الثورة والثوار، وتجاهلوا كل هذا واكتفوا بالتحالف أولا مع المجلس العسكري ثم ثانيا مع بعض القوي المدنية" عاصروا الليمون " .. إضافة إلي ما قدموه من أوهام فيما سمي بمشروع النهضة الذي سيحول مصر ألي سنغافورة جديدة في الشرق الأوسط ولم يكن البرنامج الانتخابي هذا سوي مجموعة من الأوهام. فرغم الإرث السياسي والاقتصادي الضخم الذي ورثه مرسي وجماعته والذي كان يفرض عليهم مسارات اقتصادية وسياسية مختلفة إلي حد كبير إلا أنه قدم خطابا شعبويا ينتصر فيه لجماعته ويلتزم بتعليماتها.
وعلي الجانب الاقتصادي سنجد أن الأمور لم تختلف كثيرا عن العهد السابق، فقد طرح مجلس الشوري ما يسمي بالصكوك الإسلامية الذي تسمح بامتلاك أجزاء من ممتلكات الدولة وبالتالي إمكانية بيعها لآخرين مصريين أو أجانب بعد ذلك. علي صعيد أخر فإنهم رغم رفضهم طوال فترة معارضتهم لصندوق النقد الدولي إلا انهم بعد الوصول للسلطة طالبوا بقروض دولية ، فقد رفض البرلمان بأغلبيته الاخوانية أي قرض يقوم به المجلس العسكري من الخارج حتي لا يثقل الميزانية بديون جديدة، ولكنهم بعد تولي مرسي غيروا موقفهم إلي النقيض، إضافة إلي تراجع السياحة وخروب استثمارات كثيرة بعد 30 يونيو 2013 فترة حكم مرسي، وتخفيض التصنيف الائتماني لمصر بسبب غياب خطة لمعالجة عجز الموازنة، وكذلك فشل مرسي فيما تعهد به في المائة يوم الأولي ، ولاشك أن الدولة العميقة لعبت دورا كبيرا في هذا الفشل، بيد أن اللوم يجب أن يقع علي الإخوان أيضا لأنهم تصورا أن بإمكانهم إدارة شئون البلاد في ظل حالة إقصاء كاملة للجميع. شهدت مصر أيضا أزمات عديد في الوقود والسلع والكهرباء وانخفاض الاستثمارات الأجنبية من 13 مليار دولار في 2009 إلي مليار دولار في 2013.
لقد كان رعب يناير يخيم علي الإخوان، إضافة إلي رعبهم أبضا من الدولة العميقة، ولذلك مارسوا السلطة بقدر من التوتر والشعور بالاضطهاد حتي وهم علي مقعد الرئاسة، فلم يرتكب الإخوان أثناء وقبل وبعد فترة حكمهم أخطاء في حق السلطات المصرية فقط، ولكنهم مارسوا صورا من القهر علي المصريين أخطرها هو الاستحواذ علي السلطة،( تعيين صلاح عبد المقصود وزيرا للإعلام لتحويل دفة الإعلام لصالح الإخوان وليس لصالح القوي الثورية والسياسية والمجتمع بشكل عام) ، وكان الاستقطاب يتم بين طرفي الثورة المضادة، وعلي الجميع أن يختار بين الدفاع عن الوطن أو الدفاع عن الإسلام، أما الثورة فكانت بمثابة حصان طروادة الذي اخفي بداخله كل أعداء الثورة ليفرضوا هيمنتهم علي شعب خرج من أجل حريته ليكتشف أن خرج من معتقل إلي أخر، ومن نار إلي جحيم. لقد وقف الإخوان محلك سر ليس بمقدورهم الاستقواء بقوي الثورة ولا في استطاعتهم العودة من جديد في تحالف مع المجلس العسكري، ولذلك قدموا شهادة أخيرة لانتحارهم السياسي نتيجة خيانتهم مرة للثورة ومرة أخري لحليفهم في الثورة المضادة.
4- اللعب علي التناقض
ــــــــــــــــــــــــــــــ
استغل المجلس العسكري، الذي ظل يطارد الإخوان في كل موقع – لم يكن موقف المجلس من الإخوان سلبيا طوال الوقت فالخلاف بدأ مع نتائج انتخابات الرئاسة، حيث خالف الإخوان اتفاق منا الأمراء ومنكم الخلفاء ) استغل حالة الارتباك التي يدير بها الإخوان الدولة وأخطائهم القاتلة، وبدأ في محاول استعادة الدولة – كما يقول – ( هنا لا أحد منهما يتحدث عن الثورة بالمعني الحقيقي، فقط ظلت الثورة بالنسبة للإخوان تتلخص في حكم مرسي، وبالنسبة للمجلس العسكري إزاحة مبارك ، وكلاهما يري انها حققت أهدافها وفقا لمنظوره) وبدا في استدعاء جماهير الشعب المصري مرة أخري، هنا خرج الشعب ليس لاستكمال الثورة بل لاستعادة الوطن !!! هذا الوطن الذي تم تسليمه للإخوان تحت إشراف المجلس العسكري ومباركته – حتي ولو مضطر – وكانت 30 يونيو حدثا جماهيريا غير مسبوق، ويحمل العديد من الدلالات وصفتها في مقال لي بأنه الحدث ذو الألف وجه، وانتهي الامر بعودة الشعب الي ثكناته وعودة المجلس العسكري الي الحكم عبر مرحلة انتقالية يقودها المستشار عدلي منصور ثم انتخابات رئاسية أدت الي وصول السيسي للحكم ، وقام بعد عدة سنوات بتعديلات دستورية تسمح له بالبقاء لمدة طويلة في الحكم. وما يهمنا هنا أيضا ان نرصد كيف عبرت فترة حكم السيسي عن الرعب من يناير من خلال رصد بعض الملاحظات.. كما رصدنا تجربة الإخوان كطرف ثانوي وتابع وثاني في الوقت نفسه في الثورة المضادة
5- الاستقرار في القاع
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
شهدت فترة حكم عدلي منصور المؤقتة إصدار العديد من القوانين المقيدة للحريات، وتم استكمال منظومة القوانين تلك في فترة حكم السياسي سنرصد هنا بعضها:
- في نوفمبر 2013 صدر القانون 107 لسنة 13 الخاص بتنظيم الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية:
- في يناير 2014 صدر القانون رقم 15 لسنة 2014 الخاص بتعديل قانون الجامعات ، وفيه استجدت مادة حق رئيس الجامعة في فصل أي طالب يمارس اعملا تخريبية دون تعريف واضح لمعني وحدود تلك الأعمال التخريبية
- في 2014 أيضا صدر قانون رقم 45 لسنة 2014 خاص بمباشرة الحقوق السياسية، وفيه تحديد قاسي للأفراد الذي لهم حق الترشح للرئاسة مع حرمان أشخاص كثيرين من التصويت بموجب القانون، ومصادرة الأموال باتهامات غير محسومة قضائيا، وكذلك تتضمن القانون بعض المواد التي تحد من حرية الصحافة.
- سبتمبر 2014 اصدر الرئيس السيسي في غياب البرلمان القانون رقم 128 لسنة 2014 بتعديل المادة 78 من قانون العقوبات وهي وان كانت تدين وتعاقب كل من يقبل دعم خارجي من أي نوع إلا أنها جعلت تفسير تلك المادة فضفاض إلي حد كبير مما يجعل مجال تطبيقها واسعا إلي حد مخيف.
- القانون 130 لسنة 2014 بإحالة مجندي الشرطة "المدنية " إلي القضاء العسكري، بدلا من القضاء الطبيعي، وغالبا لا يحدث ذلك مع الضباط او صف ضباط الذين يرتكبون جرائم في حق ثورا أو مدنيين من عامة الشعب.
- القانون 136 لسنة 2014 بوضع المنشئات العامة تحت حماية القوات المسلحة، وخطورة هذا القانون انه توسع في مفهوم المنشئات العامة والعسكرية لدرجة ان محطة بنزين تعتبر في بعض الأحيان منشأة عسكرية.
- القانون 3 لسنة 2015 بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم الجامعات وفيه الدعوة لفصل الطلاب الذين يشاركون في أعمال الشغب،، وهي عبارة مطاطة ولا تحكمها معايير سوي شهادات الأمن الجامعي.
- القانون رقم 8 لسنة 2015 بتنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين، واخطر ما في هذا القانون هو التعبيرات المطاطة التي قد تنطبق علي نصف الشعب المصري ويطلق للسلطة التنفيذية مهمة تحديد أي من الأعمال تسمي إرهابا..وهو ما يضع الشعب المصر كله في قفص الاتهام القانوني إذا ما اعترض مثلا علي حجم رغيف العيش أو مباراة كرة قدم.ويتم تعديله بعد ذلك بقانون أخر 14 لسنة 2020
- القانون 94 لسنة 2015 لمكافحة الإرهاب .. وفيه أيضا عبارات مطاطة مثل النظام العام وسلامة المجتمع ومصالح المجتمع...الخ ويستخدم الإعدام والمؤبد في أحكامه وتقييد بعض أنشطة الأحزاب والمنظمات الطلابية والعمالية ..الخ ومنصات التواصل الاجتماعي بتهمة الأخبار الكاذبة وهي التهمة التي وجهت لكافة المعتقلين المدنيين الآن.وتقييد حرية الصحافة وإغلاق مئات المواقع الإعلامية وحظر عشرات المواقع التي تصدر من الخارج
- القانون 106 لسنة 2015 بتعديلات علي قانون تنظيم السجون، وفيه بنود خطيرة مثل حق مدير السجن في الاعتقال الفردي لمدة لا تزيد عن 15 يوما بعد أن كانت أسبوعا،
- القانون 92 لسنة 2016 بشان التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام، بموجبه تأسس المجلس الاعلي للصحافة والإعلام الذي يقوم بدور الرقيب علي المجتمع وعلي حرية التعبير بكافة صورها وحماية الأخلاق العامة ومراجعة المحتوي الإعلامي ، واعتبار كل من يوجه نقدا سياسيا للنظام يهدد الأمن القومي
- القانون رقم 11 لسنة 2017 بموجبه تم منح النائب العام سلطة مطلقة في التوسع في دائرة الاشتباه والاستدعاءات والاعتقالات
- القانون 12 لسنة 2017 في تعديل بعض أحكام الطوارئ بموجبه يحق للشرطة احتجاز المواطنين دون عرضهم علي النيابة لمدة قد تصل إلي سبعة أيام، وفي الواقع تصل إلي أكثر من ذلك بكثير جدا.مما فتح الباب لشرعية الاختفاء القسري.
- القانون 14 لسنة 2017 بشان تعديل قانون التظاهر، وهو يزيد من تحكمات السلطة في السماح بالتظاهر وهو كان احد أهم شعارات ودوافع يناير، بحيث أصبح القانون اشد تشددا من ما قبل يناير في ردة سياسة وحقوقية واضحة تكشف عن رعب السلطة من تكرار سيناريو يناير مرات قادمة.
- القانون 175 لسنة 2018 بشان جرائم تقنية المعلومات بموجبه يمكن ملاحقة مواقع التواصل الاجتماعي في نوع من تحدي وملاحقة كل صاحب رأي حتي لو كان مكتوبا في العالم الافتراضي
- وطبقا لقانون الطوارئ وعدد من القوانين الأخرى يمكن اعتقال أي مواطن وحبسه أية مدة دون تقديمه للمحاكمة ويمكن كذلك توجيه أي تهمة إليه
ولم تكن القضايا الاقتصادية والاجتماعية بأفضل حال من الحريات السياسية، فالدين الخارجي وصل إلي 123 مليار دولار،بزيادة 15 مليار عن العام الماضي، فيما تخطي الدين الداخلي 400 مليار جنيه..وزيادة الأعباء الاجتماعية والاقتصادية علي الشعب المصري، مع تزايد الهوة اتساعا بين الفقراء والأغنياء، وفي تقرير صادر عن بنك الائتمان والاستثمار المصرفي السويسري يشير إلي أرقام مفزعة حيث أشار إلي زيادة نصيب الـ10% الأغنى في مصر في إجمالي الثروة، فبعد أن كانوا يملكون 61% عام 2000، ارتفع لـ65.3% عام 2007، ووصل عام 2014 لـ73.3% من إجمالي الثروة في مصر.والآمر بالطبع في تزايد من 2014 وحتى الآن. بما يؤكد أن الثورة تم اختطافها اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا بجدارة.إلي حد أن وصفت جريدة الشرق الأوسط الوضع في مصر بأنها دولة حائرة بين أغنياء الساحل وفقراء الوادي.
6- ما تبقي من يناير ؟
ــــــــــــــــــــــــ
عن يناير التي ظلت تمثل رعبا لكل قوي الثورة المضادة في الداخل والخارج ، لم تخرج من حالة المظلومية هذه دون الوعي والتنظيم، وفي اعتقادي أنه رغم هذا الحصار الذي تعرضت له، ورغم ما قدمته من شهداء ومصابين ومعتقلين ومختفيين قسريا ومن مرضي نفسيين لم تحتمل أرواحهم الطاهرة هذا العنف ضد الثورة والثوار، رغم كل ذلك أرها قد حققت انتصارات عظمي. وأهم تلك الإنجازات أننا الآن أمام ما يسمي بـ " رعب يناير " لا أحد من السلطة ولا من أعوانها داخليا وخارجيا يريد لتلك اللحظة أن تعود ولتلك الذاكرة أن تتجدد، وهو ما يفسر هذا التضييق الأمني المرعبة علي رغبات المصريين في التعبير عن آرائهم، وما يقوم به الإعلام كل يوم لتحسين صورة النظام، والدعم الخارجي غير المسبوق للثورة المضادة بجناحيها الإسلامي كمعارض شكلي بدعم من تركيا وقطر وجناح في الإدارة الامريكية، والنظام الحالي بدعم من شرائح اجتماعية مستفيدة وقوي خارجية تخشي مصر الثورة، مصر الدولة الديمقراطية المدنية..
ما تبقي من يناير.. هو روحها.. إرثها.. تجربتها .. أجيالها .. شعاراتها.. كل ما حدث فيها حتي الأخطاء.. لأنها كانت أخطاء نبيلة..نبيلة إلي أقصي حدود النبل