في فقه الهزيمة
محمد دوير
الحوار المتمدن
-
العدد: 6612 - 2020 / 7 / 7 - 15:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يقول فيلسوف العلم المجري إمري لاكاتوش في كتابه " برامج الأبحاث العلمية" أن المشاريع العلمية الفاشلة أكثر مئات المرات من تلك التي حققت نجاحا نظريا وامبيريقا، ولكن تلك المشاريع الفاشلة هي من قاد العلماء الي النجاح... ومقولة لاكاتوش هذه تصدق في العلم، وفي العمران البشري كذلك، فالثورات الاجتماعية منذ فجر التاريخ لم تنجح كلها، فمن المؤكد أن الفشل كان حليفا للثورات أكثر من النجاح..ولكن تلك المشاريع الثورية الفاشلة أو المهزومة هي التي قادت الشعوب إلي انجاز ثورات ناجحة لعبت دورا في التقدم الإنساني الذي نعيشه اليوم.
وأنا لست من هؤلاء الذين يكرهون الفشل، أو ينظرون إليه بوصفه شيء سلبي أو مخاض بلا ولادة، وإنما أراه دائما مشحون بالدروس – ربما أكثر كثيرا من النجاح – ودروس الهزيمة هي الحافز الأكبر للتفكير النقدي، ولمواصلة الطريق بمنهج مختلف، إن الفشل هو الدافع الأكبر للتعلم واكتساب الخبرات وتحصين الروح المعنوية بمزيد من مضادات الانسحاب والتراجع واليأس..والأهم أنه يجعل من الانتصار قيمة لا يجب التخلي عنها فور حدوثها..
وما أود التأكيد عليه هنا.. هو أن جيل يناير تعرض لنكسة ثورية كبري، أدت الي تراجعه كثيرا عن الصفوف الأمامية للنضال والتماس المباشر مع الأحداث، وكما يقول هوبزباوم بأن " خطوات التراجع الثوري تصب في مصلحة الثورة المضادة، فتزداد قوة وشراسة مع كل خطوة ثورية للخلف"، حتي تكاد الهزيمة تعلن عن نفسها في كل شيء تقريبا، بدءا من انتشار الأغاني الهابطة وتشعب مستويات الجريمة وحتي نقد الدولة والثورة والوجود الإنساني نفسه. هنا ليس علينا سوي أن نقبل بهزيمة لم ينتصر فيها أحد، حتي السلطة بمفهومها الشامل – وليس سلطة القصر الجمهوري فحسب – لم تحقق نجاحا أو انتصار أخلاقيا أو سياسيا أو شعبيا، هي فقط استطاعت أن تحتفظ بمقاليد الأمور بقوة السلاح، وبتصفية المعارضين، وبالعزف علي وتر الشعبوية الكاذبة التي لا تمثل أي قيمة في الصراع الاجتماعي الذي يطحن المصريين..وهذا الجيل الذي استقبل الهزيمة خنجرا في ظهره سيتعلم كيف ينتبه، وكيف يتحرك، وكيف يدير معاركه القادمة بقدر من الخبرة والحنكة والبرجماتية، سيتعلم وسينقل خبراته البسيطة والمركبة الي أجيال تالية قادرة علي تأسيس نزوع ثوري جديد ، وأنا علي ثقة من أن الفشل الثوري هو أحد دوافع وأسباب النجاح، وثقتي تلك تنطلق من فكرة – أراها صحيحة – أن الشعب المصري لم يرفض الحراك الثوري، وأنه يبحث عن سبل للخروج من أزماته الاقتصادية والاجتماعية، وأن السلطة الحالية والسابقة لم تستطع تلبية طموحات الشعب أو الوطن، ولن تستطيع ذلك أبدا لأن بنيتها ذاتها تمنعها من الاتجاه يسارا أو الاتجاه صوب مصالح الفقراء، وبالتالي فهزيمة الثورة لا تعني أبدا انتصار أعدائها، فهناك فارق بين النصر والغلبة، بين قوة الحق وحق القوة.
وبناء عليه .. لا اخجل من الاعتراف بهزيمة ثورة يناير، ولكنها هزيمة محدودة الغنائم لهؤلاء الذين سرقوا منها أحلام الشعب، ومحدودة الزمن، ومحدودة النتائج أيضا، في المقابل هي ليست هزيمة حرب، ولكنها هزيمة معركة، معركة بين الشعب ونظام الحكم، معركة بين الثورة والثورة المضادة، معركة بين الحق في الحياة وفق معايير إنسانية، والحق في السلطة بقوة السلاح والقبضة الأمنية.. معركة حول حق الشعب في اختيار من يحكمه وكيف يحكمه وحق السلطة في استخدام كل وسائل البطش من أجل السيطرة علي كل موارد الدولة وإدارتها بالطريقة التي تراها هي صحيحة بدون استدعاء الشعب للمشاركة في أي شيء حتي انتخابات البرلمان.
أخيرا.. لا تستوحشوا طريق الحق لقلة السالكين فيه..وتحصنوا بالصبر الثوري، واتركوا لتلك الموجة الارتدادية وقتها حتي تقضي علي نفسها..واعيدوا النظر في صور مختلفة للنضال – حتي لو علي صعيد تنمية الوعي والتثقيف – إلي أن ينضج الظرف الذاتي وتستعيد الثورة وجهها النضالي مرة أخري.