يسوع الأناجيل وانتحال النبوءات


كمال غبريال
الحوار المتمدن - العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 04:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

تعد مسألة "النبوات المسيانية" (Messianic Prophecies) حجر الزاوية في لاهوت الأناجيل الأربعة، حيث سعى متى ومرقس ولوقا ويوحنا جاهدين لإثبات أن يسوع الناصري هو "المسيا" المنتظر عبر ربط أحداث حياته بنصوص من العهد القديم.
وهذا عرض لأهم هذه النبوات، متبوعاً بالتحليل النقدي والعقلاني الذي يطرحه دارسو الكتاب المقدس المعاصرون (المدرسة النقدية التاريخية):

أولاً: أبرز النبوات المذكورة في الأناجيل
استخدم كتاب الأناجيل، وخاصة متى (الذي وجه خطابه لليهود)، صيغة "لكي يتم ما قيل بالأنبياء".

1. الميلاد من عذراء
• في الأناجيل: ذكر إنجيل متى أن يسوع وُلد من مريم العذراء دون تدخل بشر.
• النص المقتبس: استند متى إلى ما ورد في سفر إشعياء 7:14: "ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل".
• الرؤية النقدية: يشير النقاد إلى أن الكلمة العبرية الأصلية هي "Almah" (فتاة شابة)، بينما استخدم كاتب الإنجيل الترجمة السبعينية اليونانية التي نقلتها إلى "Parthenos" (عذراء) لتناسب العقيدة الناشئة.
2. مكان الميلاد (بيت لحم)
• في الأناجيل: يروي متى ولوقا أن يسوع وُلد في بيت لحم اليهودية رغم أن عائلته من الناصرة.
• النص المقتبس: استندوا إلى نبوة ميخا 5:2: "أما أنت يا بيت لحم أفراتة.. فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل".
• الرؤية النقدية: يرى الباحثون أن كُتّاب الأناجيل اضطروا لابتكار قصص (مثل الاكتتاب أو النجم) لنقل يسوع من موطنه الأصلي "الناصرة" إلى "بيت لحم" لكي يطابقوا جغرافيا حياته مع التوقعات المسيانية القديمة.
3. الدخول المتواضع إلى أورشليم (القدس)
• في الأناجيل: تذكر الأناجيل أن يسوع دخل القدس راكباً على جحش (ابن أتان) وسط تهليل الجموع.
• النص المقتبس: استشهاداً بنص سفر زكريا 9:9: "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون.. هوذا ملكك يأتي إليك.. عادلاً ومنصوراً وديعاً وراكباً على حمار وعلى جحش ابن أتان".
• الرؤية النقدية: يلاحظ النقاد أن متى، من شدة حرصه على حرفية النص، جعل يسوع يركب حيوانين في وقت واحد (أتان وجحش) نتيجة سوء فهم لأسلوب التكرار الشعري في اللغة العبرية.
4. الآلام والصلب
• في الأناجيل: وصفت الأناجيل تفاصيل الصلب، مثل اقتسام الثياب، وثقب اليدين والقدمين، وتقديم الخل ليشربه.
• النص المقتبس: اعتمد الكُتّاب بشكل رئيسي على المزمور 22:18 ("يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون")، وإشعياء 53 عن العبد المتألم.
• الرؤية النقدية: يرى دارسو المدرسة العقلانية أن رواية الصلب "صيغت أدبياً" لتشابه المزامير؛ أي أن كاتب الإنجيل استخدم نصوص المزامير ليرسم بها تفاصيل الحادثة، مما يجعل الرواية "تفسيراً لنص" أكثر من كونها "تقريرًا لحدث تاريخي" محايد.

ثانياً: التقييم العقلاني والنقدي لمصداقية هذه النبوات
يرى الباحثون العقلانيون (مثل بارت إيرمان، ودارسي مدرسة النقد العالي) أن هناك إشكاليات منهجية وتاريخية في هذا الربط:

1. إشكالية السياق الأصلي (Contextual Mismatch)
يرى النقاد أن معظم النصوص التي استشهد بها كُتّاب الأناجيل لم تكن "نبوات مستقبلية" في سياقها الأصلي، بل كانت تشير إلى أحداث تاريخية معاصرة لكتبة العهد القديم.
مثال (إشعياء 7:14): كلمة "عذراء" في العبرية هي "Almah" وتعني "فتاة شابة"، بينما استخدمت الترجمة السبعينية اليونانية كلمة "Parthenos" (عذراء).
السياق الأصلي يتحدث عن علامة للملك آحاز في زمنه، وليس عن ميلاد إعجازي بعد 700 عام.

2. إشكالية "صناعة الحدث" ليناسب النص
يقترح النقاد أن كتاب الأناجيل (خاصة متى ولوقا) كانوا يعرفون نصوص العهد القديم جيداً، فقاموا بصياغة رواياتهم التاريخية لتتطابق مع تلك النصوص وليس العكس.
• مثال (رحلة بيت لحم): يرى بعض المؤرخين أن يسوع ولد غالباً في الناصرة، ولكن بما أن النبوة (ميخا 5:2) تتحدث عن بيت لحم، فقد "اخترع" لوقا قصة الاكتتاب الروماني، و"اخترع" متى قصة الهروب لمصر لكي يبرروا وجوده في تلك الأماكن.

3. الاقتباس الانتقائي (Proof-texting)
يؤخذ على كُتّاب الأناجيل أنهم انتزعوا جملًا من سياقاتها الطويلة وصبغوا عليها صبغة مسيانية.
• مثال (متى 2:15): "من مصر دعوت ابني". في سفر هوشع 11:1، النص يشير بوضوح إلى خروج بني إسرائيل (شعب إسرائيل كابن لله) من عبودية فرعون في الماضي، وليس عن طفل سيهرب لمصر في المستقبل.

4. إشكالية "العبد المتألم" في إشعياء 53
بينما يراها المسيحيون نبوة صريحة عن صلب يسوع، يرى المفسرون اليهود والعديد من النقاد العقلانيين أن "العبد" في إشعياء هو رمز لشعب إسرائيل الذي عانى في السبي، وليس شخصاً محدداً، بدليل أن السفر يخاطب إسرائيل مراراً بلقب "عبدي".

ثالثاً: الخلاصة من وجهة نظر عقلانية محضة
من منظور تاريخي-نقدي، لا تُعتبر هذه النصوص "تنبؤات غيبية" بقدر ما هي "إعادة تفسير لاهوتي".

التفسير العقلاني: المسيحيون الأوائل آمنوا بيسوع أولاً، ثم عادوا إلى النصوص القديمة بحثاً عن مسوغات شرعية (Apologetics) لإثبات هويته أمام اليهود.

• النتيجة: المصداقية التاريخية للربط بين العهدين ضعيفة عند الباحثين الذين لا يؤمنون بالوحي، حيث يرون أن الأناجيل كُتبت بـ "أثر رجعي" لتوافق التوقعات الدينية السائدة في ذلك العصر.

من أكثر الإشكاليات إثارة للجدل بين الفكر اللاهوتي والفكر النقدي العقلاني، هي إشكالية الترجمة السبعينية (Septuagint) وكيف أثرت في صياغة النبوات، خاصة نبوة "الميلاد من عذراء".

الفجوة اللغوية: من العبرية إلى اليونانية:
في القرن الثالث قبل الميلاد، تُرجم العهد القديم من العبرية إلى اليونانية (الترجمة السبعينية). هنا حدث تحول جوهري في المفردات:
• النص العبري (إشعياء 7:14): استخدم كلمة "ألما" (Almah). في العبرية، تعني هذه الكلمة "فتاة شابة في سن الزواج"، ولا تشير بالضرورة إلى حالتها البيولوجية (سواء كانت عذراء أم لا).
• الترجمة اليونانية: اختار المترجمون كلمة "بارثينوس" (Parthenos)، وهي كلمة تعني في اليونانية "عذراء" بمعناها الحصري.
• التحليل العقلاني: يرى النقاد أن كاتب إنجيل متى، الذي كان يقرأ النسخة اليونانية، وجد في كلمة "عذراء" فرصة ذهبية لإثبات لاهوت يسوع، فبنى قصة الميلاد الإعجازي بناءً على "خطأ ترجمة" أو "توسع في المعنى" لم يكن موجوداً في الأصل العبري.

2. سياق "عمانوئيل" التاريخي (الآية المفقودة):
عند قراءة النص كاملاً في سفر إشعياء، يظهر تحليل عقلاني آخر يهدم فكرة "التنبؤ المستقبلي البعيد":
• السياق: كان الملك "آحاز" خائفاً من غزو ملكي أرام وإسرائيل. إشعياء النبي طمأنه وأعطاه "علامة": أن هناك شابة (موجودة بالفعل في القصر أو قريبة منه) ستلد ابناً، وقبل أن يعرف هذا الطفل كيف يرفض الشر ويختار الخير (أي في غضون سنوات قليلة)، سيُهزم أعداء الملك آحاز.
• الاستنتاج العقلاني: النبوة كانت تتعلق بحدث سياسي وشيك في القرن الثامن قبل الميلاد. تحويلها إلى نبوة عن يسوع بعد 700 عام يُعتبر من وجهة نظر نقادية "إخراجاً للنص عن سياقه التاريخي" (Contextual Displacement).

3. إشكالية "الجحش والأتان" في زكريا 9:9
هذا المثال يوضح كيف يمكن للفهم الحرفي للنص أن يخلق مفارقات تاريخية:
• النص في زكريا: "راكباً على حمار، وعلى جحش ابن أتان".
• الأسلوب العبري: اللغة العبرية تستخدم "التوازي الشعري" (Parallelism)، أي تكرار المعنى بكلمات مختلفة (الحمار هو نفسه الجحش).
• رواية متى (21: 2-7): ذكر متى أن التلاميذ أحضروا "الأتان والجحش" ووضعوا ثيابهم عليهما، فجلس يسوع عليهما (أي على الحيوانين معاً).
التحليل العقلاني: يرى النقاد أن كاتب الإنجيل، في محاولته لإثبات أن يسوع أتم النبوة "بالحرف الواحد"، أساء فهم البلاغة العبرية فصوّر مشهداً غير منطقي عقلانياً، مما يشير إلى أن النص الإنجيلي صِيغ ليطابق النبوة حرفياً حتى لو تعارض ذلك مع الواقع.

خلاصة الرؤية العقلانية
يرى الباحثون العقلانيون أن العلاقة بين العهد القديم والأناجيل ليست علاقة "تنبؤ وتحقيق" (Prediction and Fulfillment)، بل هي عملية "إسقاط لاهوتي" (Midrashic Interpretation).
بمعنى أن المسيحيين الأوائل:

1. آمنوا بيسوع كقائد روحي أو مخلص.

2. بحثوا في تراثهم (العهد القديم) عن أي نصوص يمكن تأويلها لتدعم هذا الإيمان.

3. أعادوا صياغة تفاصيل حياة يسوع (خاصة طفولته ونهايته) لتتطابق مع تلك التأويلات.

كيفية تفكيك الفلاسفة العقلانيين (خاصة في عصر التنوير وما بعده) لمسألة النبوات، حيث انتقل النقد من مجرد نقد "لغوي" إلى نقد "منطقي وفلسفي" شامل:

1. باروخ سبينوزا (المنهج التاريخي النقدي)
يعتبر سبينوزا في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" أن النبوات ليست حقائق موضوعية، بل هي نتاج "خيال" الأنبياء.
• رؤيته: الأنبياء لم يكونوا فلاسفة أو علماء، بل أشخاصاً يمتلكون خيالاً خصبًا. لذلك، فإن محاولة "مطابقة" نصوصهم مع أحداث تاريخية لاحقة (مثل حياة يسوع) هي محاولة تعسفية.
• النقد: يرى سبينوزا أن كُتّاب العهد الجديد استخدموا "طريقة التكيف" (Accommodation)، أي أنهم كيّفوا النصوص القديمة لتناسب جمهورهم من اليهود لإقناعهم بالدين الجديد، وليس لأن النص يتنبأ بيسوع فعلياً.

2. توماس باين (نقد التناقض المنطقي)
في كتابه الشهير "عصر العقل" (The Age of Reason)، كان باين هجومياً وصريحاً في تحليل النبوات:
• الحجة: يقول باين إن كلمة "نبوة" في العهد القديم كانت تعني أحياناً "موسيقى" أو "شعر"، ولم تكن تعني دائماً الإنباء بالمستقبل.
• مثال (نبوة عمانوئيل): سخر باين من فكرة أن تكون آية إشعياء 7:14 نبوة عن يسوع، مؤكداً أن السياق يتحدث عن طفل سيولد "كعلامة" لملك معاصر، وتساءل: "كيف تكون علامة لملك مات منذ قرون؟ العلامة يجب أن يراها صاحب الشأن (الملك آحاز) لكي يصدق، وليست حدثاً يقع بعد 700 عام".

3. ديفيد ستراوس (نظرية الأسطورة)
في كتابه الصادم "حياة يسوع" (1835)، قدم ستراوس منهجاً عقلانياً جديداً:
• المفهوم: لم يقل ستراوس أن كُتّاب الأناجيل كاذبون، بل قال إنهم "صنّاع أساطير".
• الآلية: العقل الجمعي للمسيحيين الأوائل كان "مشحوناً" بانتظار مسيا يكرر معجزات موسى وإيليا. فعندما آمنوا بيسوع، "ألبسوه" ثياب هؤلاء الأنبياء بشكل لا واعي، فصاغوا قصصاً (مثل تكثير الخبز أو المشي على الماء) لتطابق "النماذج" الموجودة في العهد القديم.

4. نقد "برهان النبوة" ككل
يرى العقلانيون أن الاستدلال بالنبوات يعاني من "الدور المنطقي" (Circular Reasoning):

1. نحن نصدق أن يسوع هو المسيا لأن الأناجيل تقول إنه أتم النبوات.

2. ونحن نصدق أن هذه النصوص في العهد القديم هي نبوات لأن الأناجيل استشهدت بها.

• الرد العقلاني: إذا جردنا الأناجيل من "الصبغة اللاهوتية"، ستبقى لدينا شخصية تاريخية ليهودي من الناصرة، لا تنطبق عليه شروط "المسيا اليهودي" (الذي كان يُفترض أن يكون ملكاً سياسياً يحرر الأرض ويبني الهيكل).

النتيجة العقلانية النهائية:
النبوات في الأناجيل ليست "توقعات مستقبلية" ثبتت صحتها، بل هي "بناء أدبي ولاهوتي" قام به كُتّاب الأناجيل لربط ديانتهم الجديدة بجذورها اليهودية العريقة، مستخدمين تقنيات التفسير "الميدراشي" التي كانت شائعة في ذلك الزمان.

لماذا رفض اليهود اعتبار يسوع هو المسيا المنتظر:

لفهم سبب رفض اليهود (عقلياً ومنطقياً) لكون يسوع هو المسيا، يجب أولاً إدراك أن مفهوم "المسيا" في العهد القديم والفكر اليهودي كان مفهوماً دنيوياً، سياسياً، وقومياً، ولم يكن مفهوماً "لاهوتياً" أو "خلاصياً" بالمعنى المسيحي.

الأسباب العقلانية والمنطقية التي جعلت الفكر اليهودي يرفض انطباق النبوات على يسوع:

1. مفهوم المسيا (الملك وليس الإله المتجسد)
في العقلية اليهودية، "المسيا" (الماشيح) تعني "الممسوح بالزيت"، وهو لقب يُطلق على الملوك والكهنة.
• المسيا المنتظر: هو إنسان، ملك من نسل داود، وليس كائناً إلهياً أو ابناً لله.
• الاعتراض العقلاني: فكرة "تجسد الإله" أو "موته كفارة عن الخطايا" هي مفاهيم غريبة تماماً عن التوراة والنبوات اليهودية، وتُعتبر من منظورهم تأثراً بالفلسفات اليونانية والوثنية لاحقاً.

2. النبوات السياسية والواقعية التي لم تتحقق
يستند اليهود إلى قائمة من النبوات "الواضحة" التي يعتقدون أن يسوع لم يحقق منها شيئاً في حياته:
• بناء الهيكل الثالث: (حسب حزقيال 37:26-28).
• جمع شتات اليهود: إعادة جميع اليهود إلى أرض إسرائيل (إشعياء 11:12).
• عصر السلام العالمي: انتهاء الحروب تماماً، وهو ما لم يحدث (إشعياء 2:4).
• معرفة الله: "تمتلئ الأرض من معرفة الرب" (إشعياء 11:9).
• الرد العقلاني: عندما قال المسيحيون إن هذه النبوات ستتحقق في "المجيء الثاني"، اعتبر العقل اليهودي هذا "هروباً منطقياً"؛ فالمسيا يجب أن يتمم مهامه في حياته، ولا يوجد في التوراة نص يتحدث عن "مجيئين" للمسيا.

3. إشكالية النسب (نسل داود)
تصر الأناجيل على أن يسوع من نسل داود، لكنها من الناحية المنطقية تقع في مأزق:
• الأناجيل: تنسب يسوع إلى يوسف النجار (الذي هو من نسل داود).
• العقيدة: تقول إن يسوع ولد من عذراء، أي أن يوسف ليس والده البيولوجي.
• الاعتراض العقلاني: في الشريعة اليهودية، النسب ينتقل عبر الأب البيولوجي فقط. فإذا لم يكن يوسف والده، فليس ليسوع حق شرعي في عرش داود. أما إذا كان والده، سقطت عقيدة "الميلاد العذراوي".

4. تغيير مفهوم "الخلاص"
• في اليهودية: الخلاص هو خلاص مادي وقومي من العبودية والظلم (مثل خروج موسى من مصر).
• في المسيحية: تحول الخلاص إلى مفهوم روحي (الخلاص من الخطيئة الأصلية وجهنم).
• النقد العقلاني: يرى المفكرون اليهود أن المسيحية "أعادت تفسير" العهد القديم تفسيراً مجازياً (Allegorical) لأن يسوع فشل في تحقيق الخلاص المادي والسياسي الذي كانت تنتظره الأمة.

ملخص الموقف العقلاني اليهودي:

يرى اليهود أن يسوع كان واحداً من العديد من "المسحاء الكذبة" أو "المصلحين الطامحين" الذين ظهروا في فترة مضطربة من تاريخهم (تحت الاحتلال الروماني)، وأن موته على الصليب كان الدليل القاطع من وجهة نظرهم على أنه ليس المسيا، لأن المسيا "المنصور" لا يمكن أن يُهزم ويُقتل من قبل أعداء إسرائيل.

ملاحظة تاريخية: هذا الصدام هو ما أدى إلى ظهور "المناظرات الدينية" في العصور الوسطى، حيث كان الحاخامات يستخدمون المنطق اللغوي والتاريخي لإثبات أن نصوص العهد القديم لا تشير من قريب أو بعيد إلى شخصية يسوع.

للوصول إلى ختام هذه الرحلة التحليلية، لا بد من التمييز بين صورتين مختلفتين تماماً لنفس الشخصية، وهو التمييز الذي وضعه دارسو الكتاب المقدس العقلانيون منذ القرن التاسع عشر تحت مسمى "البحث عن يسوع التاريخي".

1. يسوع التاريخي (Historical Jesus)
هو الشخص الذي يمكن للمؤرخين (باستخدام المنهج العلمي) استنتاج وجوده وفعله:
• هويته: واعظ يهودي راديكالي من الجليل، تأثر بالتيارات "الأبوكاليبتية" (التي تؤمن بقرب نهاية العالم).
• رسالته: كانت تتمحور حول "ملكوت الله" (وهو مفهوم سياسي ديني يهودي)، وليس حول عبادة نفسه.
• نهايته: أعدمه الرومان بتهمة سياسية وهي "ادعاء ملك اليهود"، وهو ما كان يمثل تهديداً للسلم العام الروماني.
• العلاقة بالنبوات: من وجهة نظر تاريخية، يسوع لم يكن يسعى "لإتمام نبوات" بقدر ما كان يحاول إصلاح الفكر الديني اليهودي في عصره.

2. مسيح الإيمان (Christ of Faith)
هو الشخصية التي نراها في الأناجيل الأربعة، والتي تمت صياغتها بعد عقود من موته:
• هويته: كلمة الله المتجسد، المخطط لمجيئه منذ الأزل.
• رسالته: الكفارة عن خطايا البشرية وتحقيق "الخلاص الروحي".
• العلاقة بالنبوات: هو "المرآة" التي تعكس كل نصوص العهد القديم؛ فكل حدث في حياته (من مكان ولادته إلى تفاصيل صلبه) هو صدى لنص قديم.
المقارنة الختامية: الفجوة بين الواقع والنص

تفصيل للمقارنة بين يسوع التاريخي (كما يراه المؤرخون والنقاد) و مسيح الإيمان (كما تقدمه الأناجيل بناءً على النبوات):

1. مكان الميلاد والمنشأ
• يسوع التاريخي: تشير الأدلة التاريخية والنقدية إلى أنه ولد غالباً في الناصرة (موطن عائلته الأصلي) لأبوين بشريين، ولم يكن لمكان ميلاده في حياته أي دلالة سياسية.
• مسيح الإيمان: تصر روايات الأناجيل على وقوع الميلاد في بيت لحم. والهدف العقلاني من هذا الإصرار هو مطابقة الحدث مع نبوة ميخا، لإضفاء الشرعية عليه كملك من نسل داود.

2. طبيعة المعجزات
• يسوع التاريخي: يميل المؤرخون لتفسير قصص المعجزات كـ "أنواع أدبية" أو "تضخيم لاهوتي" يعكس محبة الأتباع، أو تأثرًا بقصص أنبياء العهد القديم مثل إيليا وأليشع.
• مسيح الإيمان: تُقدم المعجزات في الأناجيل كأدلة مادية وقاطعة على سلطانه الإلهي، وكتحقيق مباشر لنبوات إشعياء التي قالت إن "العمي يبصرون والعرج يمشون" عند مجيء المسيا.

3. فهم حدث الصلب
• يسوع التاريخي: من منظور تاريخي، كان الصلب هزيمة تراجيدية لثائر ديني أو سياسي أزعج السلطات الرومانية، وانتهت حياته فعلياً بصدور حكم الإعدام من بيلاطس البنطي.
• مسيح الإيمان: يتحول الصلب في الأناجيل من مجرد إعدام إلى نصر إلهي وتدبير مسبق. يتم تصوير كل تفصيل فيه (اقتسام الثياب، العطش، الكلمات الأخيرة) كجزء من سيناريو مكتوب سلفاً في المزامير والأنبياء.

4. الغاية من استخدام النبوات
• يسوع التاريخي: يرى النقاد أن النبوات كانت وسيلة إقناع استخدمها التلاميذ الأوائل لجذب اليهود، فقاموا بـ "إعادة قراءة" حياة يسوع في ضوء النصوص القديمة.
• مسيح الإيمان: تُعتبر النبوات حقيقة موضوعية وبرهاناً إلهياً يربط العهدين القديم والجديد، ويؤكد أن يسوع هو محور التاريخ المخطط له منذ الأزل.

خلاصة الرؤية العقلانية

يرى الفكر النقدي أن "مسيح الإيمان" هو بناء لاهوتي تطور بمرور الزمن؛ حيث قام كُتّاب الأناجيل بدمج شخصية "يسوع الواعظ" مع نصوص "العهد القديم" لإنتاج صورة المسيا الذي نراه اليوم. هذه العملية تسمى في النقد الحديث "الميدراش المسيحي"، أي إعادة تفسير النص القديم لخدمة واقع جديد.
يرى المفكرون العقلانيون أن "النبوات" في الأناجيل لم تكن إخباراً مسبقاً بما سيحدث، بل كانت تفسيراً لاحقاً لما حدث. لقد قام كُتّاب الأناجيل بعملية "توليف" (Synthesis) بين حياة يسوع الواقعية وبين نصوص التوراة، لإنتاج شخصية مقدسة تمتلك شرعية تاريخية في العقلية اليهودية واليونانية آنذاك.

المسيحية والنقد العقلاني
أدى الصدام بين "النقد العقلاني" و"الإيمان المسيحي التقليدي" إلى ظهور مدارس فكرية متنوعة في المسيحية الحديثة.
حيث لم يعد ممكناً لرجال الدين واللاهوتيين تجاهل المكتشفات التاريخية والعلمية.

وقد حاول الفكر الديني المعاصر أن يتصالح مع هذه الحقائق النقدية بعدة طرق:

1. المنهج الرمزي (Liberal Theology):

يرى أصحاب هذا الاتجاه (مثل رودولف بولتمان) أنه يجب عمل عملية "نزع الأسطورة" (Demythologization) من الأناجيل.

• رؤيتهم: ليس من المهم إذا كان يسوع قد ولد فعلياً في بيت لحم أو مشى على الماء حرفياً.

• الموقف من النبوات: النبوات ليست "تنبؤات سحرية" بالمستقبل، بل هي لغة شعرية استُخدمت للتعبير عن الأهمية الروحية لشخصية يسوع. الحقيقة تكمن في "الرسالة الأخلاقية" لا في "الدقة التاريخية".

2. لاهوت "الحدث والمعنى" (Neo-Orthodoxy):

يميز هذا التيار (مثل كارل بارت) بين نوعين من التاريخ:

• التاريخ الوقائعي (Historie): وهو ما يبحث فيه العلماء والمؤرخون، وهم محقون في القول بأن الأدلة المادية ضعيفة.

• التاريخ الخلاصي (Geschichte): وهو المعنى الذي يختبره المؤمن داخل مجتمعه الديني.

• الموقف العقلاني: هم يعترفون بأن الأناجيل كُتبت بـ "عين الإيمان"، وأن النبوات هي "تفسير لاهوتي" وليست "تاريخاً موضوعياً"، لكنهم يتمسكون بقيمتها كأداة للوحي.

3. مدرسة "النقد الذاتي" الكاثوليكية:

منذ المجمع الفاتيكاني الثاني، بدأ اللاهوت الكاثوليكي يتبنى رسمياً "المنهج التاريخي النقدي".

• التصالح: يقرون بأن كُتّاب الأناجيل كانوا بَشراً محكومين بثقافتهم وعصرهم، وأنهم استخدموا تقنيات أدبية (مثل الاقتباس من العهد القديم) لتعزيز رسالتهم.

• النتيجة: لم يعد يُنظر إلى التناقضات بين الأناجيل كـ "أخطاء"، بل كـ "وجهات نظر لاهوتية مختلفة" تعكس تنوع الكنيسة الأولى.

خلاصة المشهد المعاصر

لقد أجبرت "العقلانية المحضة" المؤسسات الدينية على الانتقال من "الإيمان الأعمى بالحرف" إلى "الإيمان الواعي بالمعنى".
أصبح يُنظر إلى النبوات اليوم في الدوائر الأكاديمية (حتى الدينية منها) على أنها:

1. أدوات أدبية للربط الثقافي بين اليهودية والمسيحية.

2. تعبيرات رمزية عن الهوية المسيحية وليست أدلة "مختبرية" على غيب مُسبق.