نظرية الردع الستراتيجي
محمد علي مقلد
الحوار المتمدن
-
العدد: 8087 - 2024 / 9 / 1 - 22:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بالاستناد إلى النص الأكاديمي الرصين الذي كتبه الدكتور سليم صايغ حاولنا تطبيق المفاهيم الواردة فيه على وضعنا الحالي وتوصلنا إلى الخلاصة التالية: مفهوم الردع الستراتيجي اكتسب معناه الكامل بعد أن توصلت بعض دول العالم إلى امتلاك السلاح النووي. حينها بدأ التسابق على عدد الرؤوس النووية وعلى قوة الصواريخ التي تحملها وعلى مداها. لذلك يمكن القول أن ما دون السلاح النووي يصنف في خانة التوازن الستراتيجي لا الردع الستراتيجي.
شاع استخدام التوازن بدل الردع في خطاب النظام السوري الذي كان يفضل تأجيل المواجهة بذريعة سعيه، ولم يبذل أي مسعى، للوصول إلى تحقيق توازن استراتيجي مع العدو الصهيوني، لأن معركته ستكون، في نظره، خاسرة في غياب هذا التوازن، ولأن تمسك حزب البعث بالسلطة أهم عنده من المواجهة مع إسرائيل، ولأن التوازن في نظره يقتصر على حسابات عددية للأسلحة المستخدمة في الحروب الحديثة من طائرات ومدرعات ومدفعية، ولأن الاستغراق في البحث عن السلاح يعفيه من البحث عن المقومات السياسية للتوازن ومن بينها الوحدة الوطنية وهي أمضى الأسلحة وأقدرها على تأمين المناعة الداخلية في حالتي الدفاع أو الهجوم.
مفهوم التوازن الستراتيجي لم يكن قابلاً للتحقق في أنظمة المواجهة، أي في ما كان يسمى دول الطوق أو جبهة الصمود والتصدي، لأن الأولوية لدى الأنظمة السياسية السائدة فيها هي للسلطة لا للدولة، لذلك كانت تركز اهتمامها على أجهزة المخابرات الداخلية أكثر من أي شيء آخر. أما إسرائيل فقادرة على تأمين حاجتها من السلاح، إما بتصنيع محلي إما من الولايات المتحدة الأميركية.
انقضّت أنظمة الانقلابات العسكرية على السلطة، وبات العدو الداخلي لا الخارجي هو الذي يشكل الخطر الرئيسي عليها، وهو ما أدى إلى انفجار الأوضاع فيها، للمطالبة بالحرية والديمقراطية وتداول السلطة، وبسن الدساتير وإلغاء الأحكام العرفية، ما يعني أن الآليات الديمقراطية في أي نظام تشكل ضمانة أساسية لتأمين الاستقرار السياسي والتفرغ لمعالجة القضايا المتعلقة بسيادة الدولة على حدودها أو داخل أراضيها، وهو ما لم يكن وارداً في أنظمة التوازن الستراتيجي، حيث السيادة للسلطة لا للدولة.
منظمة التحرير الفلسطينية اعتمدت آليات الحرب "الأنصارية"، أي المجموعات الصغيرة المسلحة في مواجهة أهداف مدنية أو عسكرية لدى العدو، وأساليب قتالية تختلف عن تلك المعتمدة بين الجيوش، ولذلك لم تبحث لا عن توازن استراتيجي ولا عن ردع استراتيجي، وصار تنظيم نشاط المقاومين ومواقعهم القتالية يقوم على السرية والسرعة في التخفي ونقل المواقع.
حين انتهكت منظمة التحرير هذه الآليات، واستعادت القواعد القتالية للجيوش وباتت مجموعاتها ومواقعها مكشوفة، تعرضت لهجمات عسكرية اسرائيلية كان أبرزها معركة الكرامة في الأردن والاجتياحات المتكررة للجنوب اللبناني واغتيال قادة المقاومة وتدمير الطائرات في مطار بيروت وصولاً إلى الاحتلال الإسرائيلي للبنان في صيف 1982.
بعد أن تحولت منظمة التحرير إلى سلطة في فلسطين، انتقلت شعلة الكفاح المسلح إلى تنظيمات الإسلام السياسي وبقايا منظمات يسارية متحدرة من الأممية الثالثة ومن تجربة المقاومة المسلحة للاحتلال النازي خصوصاً والاستعماري عموماً، مقتدية تجارب مهمة في حركات التحرر الوطني في العالم، في فرنسا واليونان وروسيا وفيتنام والجزائر وغيرها.
مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار التجربة الاشتراكية احتلت منظمات الإسلام السياسي خشبة مسرح المقاومة. كانت البداية في أفغانستان ثم في تنظيم القاعدة ثم في تنظيم داعش. بعد أن تلقت هذه التنظيمات ضربات موجعة تركز النشاط المسلح في تنظيمات فلسطينية ولبنانية متحدرة من تجربة منظمة التحرير، حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله اللبناني، تعتمد في تمويلها وتسليحها على النظام الإيراني وتشكل معه جبهة واحدة تحمل عنوان قوى المحور، أو تحت شعار وحدة الساحات.
التبس على هذه التنظيمات أمر العلاقة مع نظام الملالي. إيران بلد يبلغ تعداد سكانه ما يفوق ثمانين مليون نسمة أي ما يوازي عدد سكان تركيا أو فرنسا أو أسبانيا، ومن الطبيعي أن تتوهم السلطات الحاكمة فيها القدرة على مجاراة الدول الكبرى في مسألة التوازن أو الردع الستراتيجي، ولاسيما بعد أن قطعت شوطاً بعيداً في نشاطها النووي، يتيح لها توسيع مجال نفوذها السياسي والإيديولوجي، على غرار ما فعلته الدول الكبرى الرأسمالية في انتشارها الاستعماري، أو الشيوعية في تصديرها الثورة والإيديولوجيا.
اقتدت إيران بالرأسمالية بعد انهيار الاستعمار، وبالشيوعية بعد انهيار تجربة التوتاليتاريا، وبات من المحتم أن تصطدم بعائق التاريخ الذي اختار مساراً لولبياً ذا اتجاه صاعد غير قابل للعودة إلى الوراء. وأخذت عن النظامين أسوأ ما عند كل منهما، سباق التسلح والنزعة الاستعمارية وغياب الحرية. مع ذلك، تبقى إيران قادرة على متابعة تجربتها استناداً إلى ما تملكه من إمكانات، فهي دولة نفطية طامحة إلى أن تكون نووية.
أما وكلاؤها فلا يملكون من المقومات ما يجعلهم يجارونها في سياسة الردع الستراتيجي. فالتنظيمات الإسلامية لا تؤمن كلها بعودة صاحب العصر والزمان، المهدي المنتظر، ولا هي قادرة على ممارسة السلطة إلا على مساحة مقتطعة من الدولة وعلى حساب الدولة، مثلما هي الحال في غزة المقتطعة بعد انشقاق عن الدولة الفلسطينية، أو في لبنان بعد سيطرة على مناطق تسكنها غالبية سكانية من الشيعة.
حقق حزب الله نجاحاً باهراً في معركته مع الجيش الإسرائيلي عام 2006 عندما باغت العدو بسلاحين لم يكونا في الحسبان، شبكة الأنفاق وشبكة الهاتف الأرضي. شكل هذان السلاحان نوعاً من الردع الستراتيجي جعل إسرائيل تخشى تكرار تجربة الاجتياح بآلياتها وجنودها المشاة، وهو ما وظفه حزب الله إعلامياً، إذ رسخ في وعي جمهوره قدرته على ردع إسرائيل، أي على منعها من القيام مجدداً بأي عدوان على لبنان، كما وظفه عملياً في تعميم تجربته على قطاع غزة، الذي تدير شؤونه منظمة حماس وتتوافر فيه شبكة من الأنفاق أقامتها إسرائيل خلال الاحتلال، وطورتها منظمة حماس بعد تحرير القطاع.
معركة طوفان الأقصى أثبتت مجموعة من الحقائق. الأولى أن سلاح الأنفاق يشكل ضمانة لحماية المقاومين وقياداتهم لا لحماية السكان والمواطنين. الثانية أن حجم الدمار والخسائر البشرية الفلسطينية أثبت تفوق إسرائيل بامتلاكها سلاحاً تقليدياً هو الطيران الحربي، فضلاً عن امتلاكها سلاحاً استراتيجياً، كما الدول الكبرى، هو السلاح النووي.
الثالثة أن السلاح الستراتيجي الأمضى هو الحماية الداخلية بالوحدة الوطنية والحماية الخارجية بتأمين الدعم المادي والمعنوي، وليس سراً أن حماس خاضت معركة الطوفان في ظل انقسام فلسطيني عملت الصين على رأب صدعه، وفي ظل إجماع عربي رسمي على التضامن مع القضية الفلسطينية لا مع حماس، وفي ظل موقف رسمي دولي يكتفي إعلامياً بإدانة العنف ويقدم الدعم اللوجستي عملياً لعمليات الإبادة في غزة وفي كل أنحاء فلسطين.
الاستنتاجات ذاتها عن الأنفاق وحجم الدمار والخسائر البشرية وغياب الوحدة الوطنية يمكن أن تقال عن معركة الإسناد التي خاضها حزب الله في لبنان من ضمن ما سمي "قواعد الاشتباك". يضاف إلى ذلك ما يظنه حزب الله سلاحاً استراتيجياً، أي الصواريخ والمسيرات.
لقد بات من الثابت أن إسرائيل لم تتجرأ على الدخول عبر قوات المشاة إلى داخل الأراضي اللبنانية، لكن طيرانها الحربي وطائرات الرصد لم تغب عن سماء لبنان وسوريا منذ الثامن من تشرين، وأنها، على ما أفادت تقارير صحافية، استخدمت تقنيات الرصد المتعددة المصادر لمعرفة خريطة الأنفاق الخاصة بحزب الله ومخازن أسلحته، وتعلمت من تجربتها في عدوان تموز 2006 كيف تتفادى المواجهة المباشرة مع المقاومين، واكتشفت أن محاربة المجموعات الفدائية، الأنصارية، لا تحتاج إلى استراتيجيا بل إلى تكتيك قتالي مختلف عن المعارك بين الجيوش، فاستخدمت أحدث ما توصل إليه العلم من تقنيات لتتعقب تشكيلات المقاومين، وتمكنت من رصد تحركاتهم عن طريق الهواتف الذكية والمراصد الجوية، بالطيران أو الأقمار الاصطناعية وبمساعدة من أجهزة مخابرات عالمية.
الرابعة هي أن إسرائيل التي تنفق على البحث العلمي عشرات أضعاف من تنفقه الدول العربية مجتمعة، والتي تنتج أربعين بالمئة من تقنيات وسائل الاتصال في العالم، تعتبر حليفاً وشريكاً أساسياً لمجموعة الدول المهتمة بالتطور العلمي والتقني، فيما يغرق خصومها من العرب والمسلمين في غياهب الأوهام والأساطير الدينية والفكر الغيبي، وفي أفضل الحالات يتخلى لهم العالم المتقدم عن الأجيال القديمة من الصناعات أو عن الصناعات التجميعية، بما في ذلك الحربية منها.
الخامسة أن إسرائيل التي تمارس أبشع أنواع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني تعتمد، في تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، على الديمقراطية واستقلال السلطة القضائية، فيخضع الجميع فيها، حكاماً ومحكومين إلى سلطة القانون، فيما تعاني بلداننا من تسلط أنظمة الاستبداد وأحزاب الاستبداد فتكون النتيجة عدم جدوى الردع لا التكتيكي ولا الستراتيجي إذا كانت الوحدة الوطنية مهددة.
وأخيراً لا تصح التكهنات حول الردع الستراتيجي ولا الصبر الستراتيجي في بلد تعم فيه العتمة الشاملة وتنهار فيه الدولة.