متاهة الضائعين لأمين معلوف(3) الاتحاد السوفياتي
محمد علي مقلد
الحوار المتمدن
-
العدد: 8285 - 2025 / 3 / 18 - 00:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يقول أمين معلوف، مع الاتحاد السوفياتي، "لم يعد الأبيض ولا الأوروبي، كما مع الشرق الياباني أو الصيني، هو العدو، بل إن الرأسمالي الذي كان يضطهد السود والصفر وعدداً غفيراً من البيض أنفسهم هو العدو". ذلك أن الأيديولوجية الماركسية المهيمنة لدى "ثورَويّي" العالم، بحسب تعبيره، كانت ترى أن الصراع الطبقي لا الانتماء العرقي هو محرك التاريخ.
هزيمة روسيا أمام اليابان أفرزت ثورة 1905 الفاشلة، ومشاركتها في الحرب العالمية الأولى أطلقت الشرارة لثورة 1917 بقيادة لينين. وفي عام 1919 انطلق مشروع "الأممية الثالثة" أو الكومنترن. توقع زينوفييف أن تضحي أوروبا كلها شيوعية في غضون عام أو عامين، وأطلق أمام الحاضرين في "مؤتمر شعوب الشرق" المنعقد عام 1920 في مدينة باكو، شعار" يا عمال العالم ويا شعوبه المضطهدة، اتحدوا" وأناط بهم مهمة "إشعال نار الحرب المقدسة ضد الرأسماليين البريطانيين والفرنسيين".
من أبطال الرواية ميخائيل بورودين. عمل كمفوض سام من قبل الكومنترن لدى سن يا تسن، الأب الروحي للجمهورية الصينية، صاحب النظرية القائلة بتوليفة بين الشيوعية والكونفوشية، فأضحى "الذراع اليمنى للرئيس الصيني ومستشاره الموثوق. كما أنه ساهم في قيام الحزب الاشتراكي العمالي في المكسيك والحزب الشيوعي الهندي، شاركه في عمله في الصين، كمترجم، رفيق دربه في النضال وفي الدراسة في فرنسا، هو شي منه.
جوزف برجيه، اسم مستعار لبطل آخر في الرواية. من مواليد كراكوف، ارتحل إلى فلسطين وأسس مع "حفنة من الرفاق"، الحزب الشيوعي الفلسطيني، وأصبح أمينه العام وهو في سن السابعة عشرة، وراح بتكليف من زينوفييف يجوب الشرق الأوسط باسم الكومنترن بهدف تأسيس أحزاب شقيقة. زار بيروت واجتمع بيوسف ابراهيم يزبك، في منزل جده في ضاحية بيروت، وفؤاد الشمالي، مؤسس نقابة عمال التبغ، وبعض أعضاء النقابة، وأسسوا حزباً شيوعياً باسم حزب الشعب اللبناني في 24 تشرين الأول عام 1924.
في كل بلد من بلدان العالم بطل "كومنترني" وحزب ناطق باسم الطبقة العاملة يناضل ضد الرأسمالية والإمبريالية، أعلى مراحلها بحسب تعبير لينين. تمكن الاتحاد السوفياتي، خلال ثلاثة عقود، من تقديم صورة إيجابية عن تجربته. عصفت بالرأسمالية أزمة كبرى عام 1929، ما دعم السردية الاشتراكية عن توحش النموذج الرأسمالي ونهبه تعب الشعوب. ثم جاءت نتائج الحرب العالمية الثانية لتؤكد تفوق النموذج الاشتراكي عسكرياً بعد أن احتل كل أوروبا الشرقية وفرض على الولايات المتحدة الأميركية القيام بإنزال عسكري في منطقة النورماندي في فرنسا بهدف الحؤول دون انتصار ستالين منفرداً وحرمانه من كسب شرف تحرير أوروبا وحده من النازية والفاشية.
انتظم الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية على "قواعد اشتباك" جديدة، لاسيما بعد امتلاك الاتحاد السوفياتي قنبلة نووية عام 1949، السنة التي تأسست فيها الصين الشعبية بزعامة ماو تسي تونغ وصدرت فيها رواية 1984 للإنكليزي جورج أورويل. أوروبا الشرقية كانت المكافأة التي نالها ستالين. في المقابل حل الكومنترن. كأنه بذلك أراد أن يطمئن الغرب إلى عدم تصدير الثورة.
من العبارات التي وردت في رواية أورويل، "من يتحكم بالماضي يتحكم بالمستقبل"، "لا يؤسس المرء دكتاتورية ليحمي الثورة، بل يقوم بثورة ليؤسس دكتاتورية"، "لا أحد يستحوذ على السلطة مع نية التخلي عنها". هذه الأخيرة تذكر بعبارة معاكسة رددها رفيق الحريري وكتبها على أحد جدران القصر الحكومي، "لو دامت لغيرك ما آلت إليك". الاتحاد السوفياتي كان يصوب على وحشية الاقتصاد الحر واستغلال الانسان للإنسان في الرأسمالية فيما كان الغرب يصوب على ما سماه أورويل"شرطة الأفكار" في الأنظمة الشمولية.
الحرية والعدالة هما القضيتان اللتان ناضلت البشرية تحت سقفهما منذ بداية التاريخ المكتوب. الرأسمالية أخذت جانب الحرية التي أفضت إلى فائض في إنتاج الخيرات، ثم أفرغتها من مضمونها حتى كادت تقضي على مشتقاتها السياسية أي الديمقراطية، فيما الأولوية للعدالة لدى الاشتراكية التي قدمت أفضل نموذج لتوزيع الثروة مع شح في الانتاج تغيب عنه الحوافز الديمقراطية.
عن هذا الصراع قلت في كتابي، أحزاب الله، أن الرأسمالية خاضت حروبها ولم توقف مسيرتها الدموية إلا بعد حربين عالميتين مدمرتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من الضحايا.. قد يكون أكثر جدوى وأكثر عقلانية النظر إلى العنف المرافق لقيام الرأسمالية بوصفه ثمناً فرض على البشرية أن تدفعه لكي تنتقل من الحضارة السابقة على الرأسمالية إلى الحضارة الرأسمالية، والنظر إليه، بالتالي، لا بعين "التحرر الوطني" من الاستعمار، بل بعين التحرر من التخلف. باستثناء فلسطين، القضية الوحيدة المتبقية من تركة الاستعمار القديم.
الحكومات الرأسمالية انتهكت القيم التي تولت السلطة على أساسها. أما التجربة الاشتراكية، فلم يعد يذكر الناس إنجازاتها بل طفا على سطح تاريخها السياسي عداؤها للحريات وللديمقراطية.
هل يمكن إذن أن ينشأ في العالم نظام جديد يعيد الاعتبار للقيم الجميلة في الاشتراكية وفي الرأسمالية ويعيد التوازن بين النضال من أجل العدالة والنضال من أجل الحرية؟ قد تكون دولة القانون والمؤسسات مرحلة طويلة لا بد منها لقيام مثل هذا النظام.