متاهة الضائعين لأمين معلوف(4) هل العرب استثناء؟
محمد علي مقلد
الحوار المتمدن
-
العدد: 8288 - 2025 / 3 / 21 - 02:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كنت قد اكتفيت بما كتبته عن متاهة الضائعين لأمين معلوف، (ثلاث مقالات في الحوار المتمدن)، لكنن رغبت، في هذه المقالة الإضافية، أن أشارك الدكتورة زهيدة درويش في البحث عن جواب على سؤال طرحته في عنوان مقالتها عن الكتاب ذاته، هل العرب استثناء؟(المدن، 25-3-2025).
تقول زهيدة درويش أننا "ما زلنا، في مشرقنا العربي خصوصاً، أسرى السؤال الذي يعيد نفسه منذ عصر النهضة: لماذا تقدم الغرب وتخلّفنا نحن؟ وتقول في جوابها، "صحيح أن جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على الأنظمة الاستبدادية التي تذرعت بضرورة المقاومة وإزالة الاحتلال عن أرض فلسطين لتعفي نفسها من واجب التنمية، لكن المشكلة تكمن أيضاً في ثقافة الشعوب العربية التي ما زالت خاضعة لتقديس الموروث، والديني منه بشكل خاص".
يحكي كتاب أمين معلوف عن كيفية تفاعل كل من اليابان والصين وروسيا وأميركا(الولايات المتحدة) مع الحضارة التي نشأت في الغرب الأوروبي وحاولت الدول الرأسمالية الكبرى تعميمها، بالتفاعل السلمي أو عن طريق القوة، على معظم بلدان العالم. فهل شكل العالم العربي حالة استثنائية؟
لقد ناقشت هذا السؤال باستفاضة في كتابي، أحزاب الله، وتوصلت إلى استنتاج آخر، هو أن بلدان العالم كلها تعاملت مع الحضارة الجديدة بحذر وريبة، فحاربتها أو أوصدت الابواب، كلها أو بعضها، لمنعها من اختراق القيم السابقة عليها التي مثلتها حضارة الخراج(سمير أمين) الإقطاعية.
أول الحروب التي خاضتها الرأسمالية، أو التي خاضها الآخرون ضدها اندلعت في بلاد المنشأ واستمرت حتى هزيمة بونابارت في واترلو أمام جيوش أوروبا كلها. بونابرت حاول تعميم تجربة الثورة الفرنسية بالقوة، لكن دول القارة وافقت على فتح بابين اثنين، الاقتصاد والثقافة، وأوصدت الباب السياسي وعنوانه انتقال المجتمع من الاستبداد إلى الديمقراطية.
الحربان العالميتان نشبتا بين الدول الرأسمالية الواقعة كلها في "الغرب"الأوروبي. لم تكن حرباً بين الشرق والغرب أو بين المسيحيين والمسلمين أو بين الشمال والجنوب، بل تنافساً على السيطرة والنفوذ داخل أوروبا وتسابقاً على الغزو خارجها. بهذا المعنى، اليابان هي الاستثناء. هي الوحيدة، من بين الدول التي عُرض عليها الدخول في الرأسمالية من دون حروب، التي وافقت(بعد زيارة الأميرال الأميركي ماتيو بيري، عام 1853) وفتحت الأبواب الثلاث، ولاسيما السياسي منها، فاستبدلت النظام الإقطاعي القديم، الأمبراطوري، بآخر جديد دستوري على الطريقة الإنكليزية.
العالم العربي كان في تلك المرحلة بلا رأي. السلطنة العثمانية هي صاحبة القرار وهي التي رفضت الدخول في الحضارة الجديدة، وخاضت ضد بدايات التوسع الرأسمالي بقيادة إسبانيا حروباً ضارية على ساحة البحر الأبيض المتوسط وانتهت بهزيمتها في معركة ليبّانت في البحر الأيوني عام 1571 أمام تحالف جيوش أوروبا.
بعد ليبّانت انكفأت السلطنة لتجمع الأتاوات مما تبقى من مناطق سيطرتها في جنوبي شرقي أوروبا وفي العالمين العربي والإسلامي، واستمرت تقاوم من دون حروب إغراءات الدخول في الرأسمالية، إلى أن أذعنت في البداية أمام محاولتين، الأولى في جبل لبنان المعنيين والشهابيين، والثانية في مصر محمد علي باشا، حيث كان لاحتكاكهما بالغرب الأوروبي الفضل في بداية دخول العالم العربي في عصر النهضة، والفضل في إدخال السلطنة من باب الإصلاحات الدستورية التي تمت في ثلاث محطات متباعدة(1837، 1856 ،1887)، إلى عصر الحضارة الجديدة.
شكل الاحتكاك بالغرب سبيلاً للدخول إلى عصر النهضة. لكن اللافت للنظر هو أن العالم العربي سبق اليابان إلى ولوج هذا الباب. محمد علي باشا حكم بعد رحيل جيوش بونابرت عن مصر في عام 1805 ووضع الأساس، كما الميجي الياباني بعده بخمسين عاماً، للنهضة من بابين اثنين. اقتصادياً بتوسيع المساحات الزراعية مستفيداً من مياه النيل وبإقامة مصانع الغزل والنسيج، وثقافياً بإرسال بعثة علمية إلى فرنسا بقيادة أحد مشايخ الأزهر رفاعة الطهطاوي.
محمد علي باشا لم يكتف بإبقاء الباب السياسي موصداً، بل هو بدأ إصلاحاته النهضوية بمجزرة قضى فيها مئات من المماليك، مكرساً بذلك نظاماً استبدادياً شبيهاً بالسلطنة بل منسوخاً عنها. وبعد وفاته نفي رائد الثقافة المصرية رفاعة الطهطاوي إلى السودان وأقفلت المدارس التي أسسها عند عودته مع البعثة من فرنسا. أما في جبل لبنان فقد استمرت المسيرة النهضوية حتى بعد أن توسعت جغرافية المتصرفية لتصير وطناً عندما ضُمّت الأقضية الأربعة وتأسست الجمهورية اللبنانية.
عندما نالت بلدان العالم العربي استقلالها ظنت أنها تحررت من الاستعمار. فيما الحقيقة الساطعة كانت تشير إلى أن البلدان الآسيوية من العالم العربي تحررت من السيطرة العثمانية لا من سيطرة البلدان الرأسمالية ولاسيما فرنسا وبريطانيا. فلسطين هي الاستثناء، لأنها البلد العربي الأسيوي الوحيد الذي مهدت بريطانيا، بعد الحرب الأولى، لاستعماره من قبل الصهيونية، وكرست ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، أي بعد أن كانت البلدان العربية الآسيوية قد تأسست كدول مستقلة.
في إفريقيا خضعت ثلاث دول عربية للاحتلال الرأسمالي الغربي، الفرنسي للجزائر عام 1830، ولتونس 1881، والإنكليزي لمصر عام 1882. أما المغرب وليبيا فلم تدخل القوات الغربية إليها إلا قبيل الحرب العالمية الأولى.
العائق الأول أمام النهضة هو استمرار الأنظمة السياسية القروسطية التي لا تعترف بالدساتير أو التي تعلق الدستور وتحكم بالأعراف كما في الجمهوريات الوراثية التي اهتزت عروش الحاكمين فيها مع ثورة الربيع العربي. بتعبير آخر العائق هو الاستبداد. هو غياب الحرية كحق فردي من حقوق الإنسان الفرد وغيابها كحق سياسي في ممارسة الديمقراطية. بهذا يصح استنتاج زهيدة درويش القائل "إن جزءاً من المسؤولية يقع على عاتق الأنظمة التي تذرعت بذريعة المقاومة وإزالة الاحتلال عن أرض فلسطين لتعفي نفسها من واجب التنمية، وعلى عاتق الموروث الديني الذي يقدس الماضي ويشكل الأداة الثقافية والإيديولوجية للاستبداد السياسي".
الصحيح أيضاً أن الأنظمة ليست وحدها، بل معها أحزاب الأمة كلها، كل أحزاب الأمة، الدينية والقومية واليسارية، التي تتساوى في منافستها الأنظمة على مجافاة الديمقراطية وفي الوقوف عائقاً أمام بناء الدولة الحديثة، دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية. استناداً إلى هذا المبرر أجزت لنفسي ضمها تحت إسم واحد في كتاب أحزاب الله؟