الذكاء الاصطناعي والبديل الاشتراكي رؤية من منظور اليسار الإلكتروني
محمد علي مقلد
الحوار المتمدن
-
العدد: 8293 - 2025 / 3 / 26 - 08:22
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
نشر الصديق رزكار عقراوي كتابه عن الذكاء الاصطناعي، وأتيحت لي فرصة الاطلاع على نسخته الإلكترونية. هو يعرف عن نفسه بأنه يساري مستقل يهتم باليسار والثورة التكنولوجية ويعمل كخبير في تطوير الأنظمة والحوكمة الإلكترونية. سبق لي أن تعرفت عليه في خريف 2003 في كوبنهاغن يوم دعاني إلى إلقاء محاضرة عن الأصوليات في المركز الثقافي الإسلامي. وعرفت حينها أنه يرئس تحرير موقع إلكتروني يساري ينشر فيه آلاف المقالات سنوياً بكلفة لا تتجاوز آلاف الدولارات، لأن المعنيين مناضلون متطوعون من عدة بلدان عربية يصدرون نشرة تحمل إسم الحوار المتمدن.
كنت قد سافرت إلى السويد من برلين، بالقطار ثم بالباخرة إلى مالمو، حيث استقبلني هناك الرفيق عارف منصور ونظم لي ندوة في المدينة التي يسكن فيها، ثم نقلني في اليوم التالي بسيارته إلى كوبنهاغن عبر طريق يصل السويد بالدنمارك، هو عبارة عن جسر فوق مياه البحر وبعضه نفق تحت المياه.
في برلين كنت قد تعرفت على الدكتور جون نسطة، السوري خريج الجامعات الألمانية، وعضو جمعية عربية ثقافية تحمل إسم "إبن رشد". بعد عودتي من تلك الرحلة إلى لبنان سألني الدكتور نسطة عن الموقع الإلكتروني الذي ينشر بالعربية والذي يمكن أن أرشحه لنيل جائزة إبن رشد، فلم أتردد بترشيح موقع الحوار المتمدن.
ناقشت الجمعية الاقتراح ووافقت على تسليم الجائزة لمن يمثل الموقع، فتكرّم رزكار عقراوي وبعث إلي بالكلمة التي سيلقيها عند استلامه الجائزة. لأول مرة أقرأ نصاً تستخدم فيه عبارة "اليسار الإلكتروني". صاحب المصطلح هو رزكار عقراوي ذاته.
بناء على هذه المقدمة لن أجيز لنفسي أن أناقش الجانب العلمي من الكتاب، أي المتعلق بالذكاء الاصطناعي، فالكاتب هو أستاذنا في هذا المجال ومنه نتعلم. وسأكتفي بعرض أفكار هي أقرب إلى الانطباعات منها إلى النقد. بدا لي من قراءة سريعة أن العدو الذي علينا مواجهته هو "العلم" الذي كان للحضارة الرأسمالية الفضل في إطلاق نسخته الحديثة ضداً على علوم الغيب الدينية، في حين وضع ماركس أمامنا مهمة مواجهة الجانب الوحشي من هذه الحضارة، ولاسيما استغلال الإنسان للإنسان.
يمكن للعلوم أن تستخدم بصورة وحشية، كما هي الحال مع علوم الذرة أو الكيمياء عموماً(براميل النترات في سورياً نموذجاً). هذه العلوم بالذات استخدمت في بدايات تصنيع النسيج واعتبر ذلك ثورة. كما أن المنظومة الاشتراكية السابقة تمكنت من المنافسة، وكانت سباقة في استخدام العلم بل رائدة في غزو الفضاء. الاتحاد السوفياتي هو الأول في إرسال السفينة الفضائية إلى القمر. اليوم أيضاً يبدو أن الصين تمكنت من إحداث اختراقات في المنظومة السيبرانية للولايات المتحدة الأميركية( معلوماتي عن الموضوع لا تتعدى ما ينشر في وسائل الإعلام)، ولا شك في أن الكاتب أقدر مني على تقديم الأدلة.
المعضلة التي يواجهها اليسار العالمي، بصيغته الإلكترونية أو بأي صيغة من الأمميات، ليست في البحث عن علوم بديلة ولا عن سبل للحد من الاستخدام الوحشي للعلم، بل في تقديم نموذج بديل عن الجانب الوحشي من الرأسمالية، وهو ما حاولت الاشتراكية أن تفعله في التجربة اللينينية في الاتحاد السوفياتي والأممية الثالثة وصمدت ثلاثة أرباع القرن، وتمكنت خلال هذه الفترة من خوض منافسة ناجحة جزئياً مع معسكر الرأسمالية، فقدمت نموذجاً في توزيع الإنتاج هو الأكثر عدالة في التاريخين القديم والحديث، ما بعد المشاعية البدائية، لكنها قدمت نموذجاً سيئاً في الانتاج و نموذجاً هو الأكثر سوءاً في الحوكمة.
المعضلة إذن تكمن في البديل الاشتراكي الذي انهارت تجربته المحققة وبات على المؤمنين بهذا البديل أن ينفضوا الغبار عن الاكتشاف العبقري الماركسي الذي اكتمل في التحليل الاقتصادي بما يمكن اختصاره بعبارة "السلعة صنم"(الذكاء الاصطناعي هو سلعةٌ صنمٌ) ، ولم يكتمل في السياسة بالقول، بحسب تعبير سمير أمين" السلطة صنم"
تمكنت الاشتراكية من مواجهة علم الذرة الرأسمالي، لا بإلغائه بل باستخدام علم ذرة اشتراكي وبات توازن الرعب هو الرادع لأي استخدام وحشي للعلم. هل يمكن أن يحصل ذلك في موضوع الذكاء الاصطناعي؟ أميل إلى الظن في أن أية مواجهة مع هذا العلم الخطير، وكل علم خطير قياساً على جهل سابق عليه، لن تكون ناجحة إلا في ظل ميزان قوى راجح لصالح يسار جديد في العالم قادر على التعلم من نجاحات اليسار السابقة ومن إخفاقاته على حد سواء.
لا تكمن المعضلة إذن في هوية الذكاء الاصطناعي أو في هوية أي علم آخر، ولا في هوية الجهة التي تستخدمه، رأسمالية كانت أم اشتراكية، بل في احتكار استخدامه من جانب الأقوى، وهذا من أعراض غياب الديمقراطية في الرأسمالية أو في تجارب الاشتراكية المحققة.
يتصارع البشر منذ بداية وجودهم على هذه الأرض من أجل مسألتين، الحرية والعدالة. الثورة الرأسمالية انحازت للحرية والثورة الاشتراكية للعدالة. يبدو لي أن المعركة الناجحة مع الرأسمالية اليوم، بما في ذلك على حلبة الذكاء الاصطناعي، هي التي ينبغي خوضها من أجل الحرية وحقوق الإنسان ومن أجل الديمقراطية في النظام السياسي، أي من أجل الدفاع عن إنجازين سياسيين صنعتهما الحضارة الرأسمالية بنفسها وهي التي ما لبثت أن فرطت بهما.
ربما كان علينا، نحن أبناء الاشتراكية والمؤمنين بها، أن نعمل على إعادة الاعتبار للفكر الاشتراكي، وذلك بتجديده وإعادة الاعتبار لقيمه بصيغة صالحة للمنافسة على حلبة الصراع مع الرأسمالية. وفي ظني أن الاشتراكية المحققة انهارت لنقص في الديمقراطية لا لنقص في العدالة. فإلى أي حد تبقى صحيحة عبارة قرأتها في كتاب لكمال جنبلاط، لا أعرف من هو قائلها: ما نفع الخبز من غير الحرية.
كانت حجتنا، نحن الاشتراكيين، قوية في مواجهة الرأسمالية حين كانت الاشتراكية قوية. بعد انهيار التجربة المحققة بات علينا أن نؤسس للبديل الاشتراكي الذي يحمي صراعنا مع الرأسمالية في مجال الذكاء الاصطناعي كما في سواه، وأظن أن حلبة الصراع ضد الرأسمالية وضد نواقص التجربة الاشتراكية المحققة هو الحرية والديمقراطية.