الهزيمة ليست عيباً العيب ألا نتعلم من الهزيمة


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 8235 - 2025 / 1 / 27 - 20:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في كل حروب التاريخ هناك رابح وخاسر. المنافسة الوحيدة التي يربح فيها الجميع هي برنامج الهواة التلفزيوني للأطفال. ليس في الحروب الأهلية سوى الخسائر، بالجملة وبالتفصيل، الرابح الوحيد هو قوة التدخل الخارجي. في الحروب الكبرى هتلر خسر وانتحر. عبد الناصر اعترف بالهزيمة واستقال. ياسر عرفات كان يرفع علامة النصر فوق الأنقاض، لكنه الوحيد الذي انتصر حين حقق شعار العودة وبناء الدولة ولو منقوصة السيادة.
وطأة الهزيمة تقع على عاتق المعتدي إذا اعتدى. شارل ديغول هدد بالوقوف ضد البادئ في حرب حزيران 1967 بين العرب وإسرائيل. لا يلام صدام حسين على خسارته الحرب في مواجهة أميركا، بل على شنه حرباً غير مقنعة على الكويت وعلى إيران. يلام حافظ الأسد على استسلام مبكر تجسد بنهجه القائم في منزلة بين منزلتي الحرب والسلم، وبحروبه حتى آخر الأصدقاء. إنه نهج الممانعة وشارات النصر المرفوعة فيها أياً تكن نتائج الحروب.
بالمعايير الغريبة هذه كان يقيم نظام "الأسد إلى الأبد" احتفالاً سنوياً بانتصاره في حرب تشرين 1973، مع أن سوريا خسرت في تلك الحرب بضعة وثلاثين قرية ومزرعة، إضافة إلى ما كانت قد خسرته في حزيران "النكسة". يومذاك عرفنا المعيار. سلامة النظام وسلامة القيادة. معيار تعلمه بالتلقين أو بالسليقة طلاب الممانعة ومريدوها، وتعلموا معه كيف يعوّضون خسائرهم مع عدو الخارج بالنيل من خصوم الداخل والانقلاب على رفاق الدرب.
حافظ الأسد كان أكثر رأفة بجنوده. دعاهم إلى الانسحاب من القنيطرة قبل سقوطها، وأعفاهم من مهمة المقاومة وأوكلها إلى سواهم فلم يسفك دماً سورياً على الحدود مع فلسطين واكتفى بتصدير أدوات الحرب سلاحاً ومسلحين إلى لبنان. حين بدأت الأحزاب اليسارية والقومية في لبنان تعصى أوامره وتتمايز عن نهجه، سلّم الراية للشيعية السياسية فأبلت بلاء بزت به أسلافها ضد أعداء الخارج كما ضد خصوم الداخل.
مقاومو لبنان كما مجاهدوه كانوا أوفياء للقضية. مضوا في تضحياتهم حتى النهاية. حرروا التراب الوطني من الاحتلال الصهيوني، فانفضحت مآرب النظام السوري الذي أزعجه التحرير وأزعجته الدعوة إلى دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب. مشاغلة واستنزاف، لا هي حرب ولا هي سلم، في مثل هذه الحالة تبقى القيادة السورية في مأمن.
للمرة الثالثة تتبنى الشيعية السياسية موقف النظام السوري من دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب. المرة الأولى حين رفضت، في تسعينات القرن الماضي، انسحاباً اسرائيلياً جزئياً حسبته فخاً وعارضت حلول قوات منه إلى منطقة جزين. الثانية في عام التحرير، الثالثة بعد القرار 1701الأممي الأول عام 2006. كل ذلك استناداً إلى معايير النصر والهزيمة المعتمدة لدى الممانعة.
مشروع الممانعة الأصلي سقط في مسقط رأسه. أفلا ينبغي على الفرع أن يقوم بمراجعة؟ أليس عليه أن ينتبه إلى أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين؟ وأن أساليب المواجهات القديمة باتت بالية ومفضوحة. هل ما زال يصدق معزوفة "الأهالي" الذين كانوا يعترضون دوريات القوات الدولية بأمر، ويتظاهرون بأمر، ويطوفون شوارع العاصمة بأمر، ويلبسون القمصان السود بأمر؟ ألهذا الحد باتت الشيعية السياسية تصدق نفسها فتنظم مسيرة للأهالي لمواجهة وحش الاحتلال؟ وهل نسي "الأهالي" احتضان الشعب اللبناني لهم في نزوحهم فامتطوا موتوسيكلاتهم في جميزة العاصمة بيروت وفي مغدوشة الجنوب؟ ضد من ومن أجل ماذا؟
حتى المراقب الساذج بات يرى أن الثنائي يرتد إلى الداخل كلما طالب بدفع فاتورة حروبه مع العدو، نصراً كانت نتائجها أم هزيمة. لكن "الجرة لا تسلم كل مرة"، فلا هو قادر اليوم على محاصرة السرايا الحكومية بخيم ممانعة تمتد من ساحة رياض الصلح حتى الدوحة، ولا إسرائيل ستسامح بعد الطوفان من لا يصدق وحشها الضاري. إذن بات على الثنائي أن "يخيّط بمسلة أخرى"، وأن يعود إلى شعبه ليتقاسم معه الغرم والغنم، ولا غنم.
الهزيمة هذه المرة ليست كسابقاتها وبات تمويهها خدعة بصرية مكشوفة، بعد أن بات مشروع الشيعية السياسية عارياً من أي دعم ممانع. هي نفسها ختمت بالشمع الأحمر وبالقرار 1701 باب التضامن الشعبي المحلي وباب المساعدات العربية وباب الدعم اللوجستي السوري، بعد أن كانت قد أغلقت بالتحرير باب الاعتراف الدولي بالمقاومة كحق مشروع لتحرير الأرض.
حقيقة واحدة هذه المرة، وكل ما عداها زائف ومتخيل. إنها بطولة"الكاميكاز"من حزب الله. انتحاريون أو استشهاديون رووا بدمائهم الأرض ودافعوا عن كرامة الوطن لا عن حدوده فحسب. آن للشيعية السياسية أن تعترف لجمهورها بالهزيمة وألا ترمي به في تهلكة الأوهام. عناوين الهزيمة كثيرة. الموافقة على القرار 1701 إذعان واستسلام، بعده انتخاب الرئيس جوزف عون والرئيس المكلف نواف سلام ودخول الجيش إلى الجنوب. الهزيمة الكبرى لمشروعها تمثل بالاحتضان الشعبي اللبناني للنازحين. الشعب اللبناني هزم مشروع التطرف الشيعي وقبله التطرف اليساري القومي وقبله التطرف الماروني، ونادى بالدولة سبيلاً وحيداً لبناء وطن يعيش شعبه تحت خيمتها وخيمة القانون.
موازين القوى هي التي تصنع الانتصارات والهزائم. قديماً كانت العزيمة والإيمان والطير الأبابيل وحجارة من سجيل، واليوم هي الاستثمار في العلم. من الغباء، بحسب أينشتاين، انتظار نتيجة مغايرة من المعطيات ذاتها. هذا يعني أن الهزيمة ليست عيباً، العيب كل العيب ألا نستخلص من الهزيمة دروساً مفيدة.