أثر دين التصوف فى الاعتقاد فى التفاؤل والتشاؤم


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 8040 - 2024 / 7 / 16 - 19:58
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

أثر دين التصوف فى المعتقدات الاجتماعية: عن (الاعتقاد فى التفاؤل والتشاؤم )
كتاب : أثر التصوف الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثالث : أثرالتصوف فى الحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية
عن الاعتقاد فى التفاؤل والتشاؤم
1 ــ التفاؤل والتشاؤم ظاهرة إنسانية توجد لدى بعض الأفراد ، وفى كل الشعوب . ولكن تحكم التصوف فى العصر المملوكى حوّل هذه الظاهرة العادية من ( تفاؤل ) بمعنى الشعور بالفرح والتشاؤم بمعنى الشعور بالانقباض الى الاعتقاد فى جدوى التفاؤل والتشاؤم فى التوقع بحدوث شىء مفرح أوشىء مكروه . وبسبب قسوة الحكم المملوكى وبطشه وكثرة الفتن العسكرية فيه والتنازع المستمر بين المماليك كان توقع السوء هو السائد ، فقلّ الشعور بالتفاؤل ، وساد الشعور بالتشاؤم ، وأصبح الحدث العادى منذرا بشرّ قادم . وعمّ هذا فى أواخر العصر المملوكى الى درجة انهم تشاءموا من لفظ التشاؤم نفسه، فعبروا عنه بلفظ التفاؤل ، فأضحى لفظ (تفاءل) معبرا عن المعنيين المتناقضين، ويُفهم المعنى بالقرينة .
2 ـ والواقع ان جدوى الاعتقاد فى التفاؤل والتشاؤم ينبع من نشر التصوف الاعتقاد فى الكشف ، أو العلم بالغيب الذى جعله التصوف مُباحا لكل من هبّ ودب ، كاشهر مجال للكرامات . ولهذا فقد سار الاعتقاد فى التفاؤل والتشاؤم فى ركاب التصوف فى العصر المملوكي ، وإزدهر بإزدياد سطوة التصوف طرديا .
ومقارنة سريعة بين كتابات المقريزي وابن اياس تظهر تأثر ابن إياس أكثر من سابقه بالاعتقاد فى التفاؤل والتشاؤم . فالمقريزي مثلا يعلق على حدث جلل ، وهو وباء الفئران الذي أهلك المحاصيل سنة 842 بقوله (وعندي ان هذا منذر بحادث ينتظر ...) ..أما في أواخر العصر فقد عمت هذه الظاهرة إلى درجة أن المصريين في نهاية العصر كانوا (يتفاءلون) بأي شيء ، أى يتشاءمون من أى شىء ، ويتوقعون الشّر من أى شىء . وابن إياس اكبر من يعبر عن هذه الحقيقة حتى في الحوادث العادية ، مثل سقوط رداء الخطيب على الأرض وتوجه السلطان للمقياس، وزغردة النساء له في موكبه . ..
3 ــ مظاهر التفاؤل والتشاؤم عديدة في العصر المملوكى، أبرزها ما كان متصلا بالسلاطين والأمراء حيث كان المستقبل السياسي غامضا في حكم عسكري يحكم فيه الأقوى عدة والأكثر دهاءا ومكرا . فإذا صكّ السلطان عملة نقدية وجعل اسمه بها في دائرة ( تفاءل الناس بأنه ستدور عليه الدوائر ويسجن) هذا ما كتبه المقريزى ، وأسهب ابن اياس في التعليق على هذه الحادثة بما يعبر عن عقليته وعصره مع انه لم يشهدها بنفسه وإنما نقلها عن المقريزي وكتبها في تاريخه . وخسوف القمر ظاهرة عادية ، ولكن لحقها التشاؤم ، ولما خسف القمر يقول ابن إياس أنه ( "تفاءل " الناس بزوال السلطان لا سيما أن كان مريضا ) . و(تفاءل ) هنا بمعنى ( تشاءم ). وعندما سقطت منارة جامع السلطان حسن( لهجت العامة بزوال الدولة ) . ووقع السلطان شعبان من على فرسه فتطير الناس وقالوا: لا يقيم إلا قليلا ) ولاحقوا السلطان بالتطير حتى اذا ثبت اقدامه وقضى على منافسيه اعتبروا ان عهده قد انتهى ..( تاريخ ابن اياس : 2 / 179 ، 409 ، 365 ).
4 ــ على أن أشهر مظهر للتشاؤم بالنسبة للسلطان هو إقامة خطبتين للعيد والجمعة في يوم واحد حين يكون العيد يوم جمعة .. ولتلافي ذلك تقرب القضاة للسلاطين بمنع شهادة من يرى الهلال اذا كان يعنى مجىء العيد فى يوم جمعة فيرمون الشاهد بالتزوير ...
5 ــ وفى الفتن التى كانت تحتدم بين السلطان والأمراء الطموحين كان (للتفاؤل) مظاهر جمة مثل ( حرق مهام السلطنة ) إذ يعتبرونه (فألا) بالهزيمة ، أى تشاؤما بهزيمته وإرهاصا بها .. وحين زحف منطاش لحرب برقوق وقع من على فرسه ( فتفاءل الناس له بعدم النصرة ) ..أى تشاءموا من ذلك وتنبأوا بهزيمته . وحدث نفس الشيء للناصر فرج حين قتل بعض غلمانه . اما الثائرون عليه فقد رفع روحهم المعنوية ان قرأ لهم الامام في الصلاة آية ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ ).الأنفال : 26) . وفي فتنة السلطان قرقماس مع السلطان جقمق (تفاءلوا) له بالهزيمة لأنه (كشف رأسه وهتف بنصرة الحق ، وتأكدت الطيرة عليه بسقوط درقته عن كتفه إلى الأرض ) . ونفس الحال تقريبا للغوري حين تأهب لحرب العثمانيين فسقط هلال القبة الذي على رأسه وانكسر نصفين ) ..
6 ــ ومن الطريف أنه حين ذهب الغوري للشام للقاء السلطان سليم العثمانى في تلك الحرب التى انهزم فيها الغورى ولقى حتفه ـ توقف الغورى فى دمشق ، وذهب المؤرخ ابن طولون للقائه مع جماعة صوفية ، وأرادوا تحية الغورى فاصطحبوا معهم مجموعة من القُرّاء العميان ليقرأوا له القرآن تبركا ، يقول المؤرخ ابن طولون (... فلما وصلوا إلى قربه وجلس الأضراء ــ جمع ضرير ــ يقرأون القرآن له فأمر مماليكه فضربوهم بالعصي ، وقالوا لهم : عندنا ميت حتى تيجوا تقرون عليه ....) والذي لم يفهمه ابن طولون أن الغوري ومماليكه تشاءموا من قراءة الصوفية للقرآن له وهو في طريقه للحرب وإعتبروا ذلك ( تفاؤلا ) بموت الغورى , أى ( تفاءلوا بموت السلطان )، ولذا غضب الغورى وغضب أمراؤه. وهذا يدل على أن المصريين كانوا أكثر إحساسا من السوريين بالأعتقاد فى التفاؤل والتشاؤم ...
7ــ وفي الحياة اليومية كان للتفاؤل والتشاؤم مظاهر جمة .. فقد شاع في العصر مثلا أن ( البلاء موكل بالمنطق ) أي ان الإنسان ينطق في حديثه بكلمة او شعر أو غير ذلك فيتحقق وقوعه ويعتبر ذلك من الكشف الصوفي أبيح للأخرين .وعرف الناس أيام السعد وضدها فيوم رابع عشرين من الأيام السبعة المكروهة عند الناس في العصر المملوكي ، وظل هذا الى عصر محمد على وذكره كلوت بك .... وكان الناس يتركون تنظيف البيت وكنسه اذا سافر احدهم (ويقولون ان ذلك ان فُعل لا يرجع المسافر ) ..
7 ــ وكان اظهر مما تشاءم به العصر المملوكي هو خروج الميت يوم السبت او دخوله القاهرة من احد أبوابها يوم السبت ، ويعتقدون ان هذا يعنى موت شخص آخر أكبر من نفس البيت . يقول أبو المحاسن (وقد عهدت الناس يتشاءمون بدخول ميت من احد أبواب القاهرة ) . وقد دخلوا بنعش محمد بن جقمق من باب زويلة فتشاءم العوام بذلك ) . وبسبب هذا كان عزل ابن الديري كاتب السر ، لأن ربيبة السلطان ماتت واخرجت من القلعة يوم السبت ، فقال ابن الديري : (هذه الميتة قد خرجت من القلعة يوم السبت ولابد أن يعقبها أحد كبير واظنه السلطان ) فاغتاظ السلطان وقال له : ( يا قاضي في أي حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت اذا خرج من عند أحد يوم السبت يعقبه أحد كبير ) وعزله ..
5ــ وتعكس الأمثال الشعبية في العصر المملوكي هذا ، فتقول: (أي موضع راح الحزين يلقى جنازة) (اذا كان القطن أحمر والمغسل أعور والدكة مخلعة والنعش مكسر اعلم ان الميت من اهل سقر والوادي الأحمر ) (صباح الفوّال ولا صباح العطّار) ( صباحك يا أعور قال دي خناقة بايتة.! ) (فرحت حزينة خربت مدينة.! ) ..