مقدمة كتاب ( القرآن الكريم وعلم النحو العربى )


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 8052 - 2024 / 7 / 28 - 20:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

بعضهم ـ بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير ـ يسارع بإتّهام القرآن الكريم بأن فيه أخطاء نحوية ، يجعلون علم النحو البشرى المُخترع بعد القرآن الكريم حكما على القرآن الكريم . هذا مع إن القرآن الكريم فوق علم النحو هذا ، وأن علم النحو هذا فيه نواقص كانت ولا تزال . لهذا نضع النقاط فوق الحروف فى هذا الكتاب . وفى هذه المقدمة نعرض لآيات قرآنية ليس فيها الإلتزام بقواعد النحو . بعضها عرفها أولئك السطحيون ، وبقيتها من بحثنا القرآنى . كما نوجز السبب .
أولا : نماذج من آيات قرآنية تخالف قواعد النحو العربى :
يقول جل وعلا :
1 ـ ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ) ( البقرة 177 ) . على حسب القاعدة النحوية كان ينبغي أن تكون كلمة ( البر ) الأولى مرفوعة لأنها أسم ( ليس ) وهي من أخوات ( كان ) التي ترفع الاسم وتنصب الخبر .. وكلمة ( البر ) الثانية في قوله تعالى ( ولكن البر ) جاءت منصوبة على القاعدة . فهي اسم ( لكن ) وهي من أخوات ( إن ) التي تنصب الاسم وترفع الخبر . وجدير بالذكر أن نفس كلمة ( ليس البر) جاءت في موضع آخر متمشية مع القاعدة النحوية ، في قوله سبحانه وتعالى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ) ( البقرة 189 ) . فكلمة ( البرٌ ) هنا مرفوعة لأنها اسم ( ليس ) . أي جاءت كلمة ( البر) على حسب القاعدة النحوية ، وجاءت مخالفة لها أيضا .
2 ـ (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( المائدة 69 ) . كلمة ( الصابئون ) جاءت مرفوعة بالواو لأنها جمع مذكر سالم ،مع أنه حسب القاعدة النحوية ينبغي أن تكون منصوبة بالياء لأنها معطوفة على أسم ( إن ) وهو ( الذين آمنوا ) . وجدير بالذكر أن نفس الكلمة جاءت منصوبة على القاعدة في قوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( البقرة : 62 ) .
3 ـ ( فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ) ( الفجر : 25 – 26 ) . أي أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدا مثل ذلك العذاب ، ولا يوثق أحدا مثل ذلك الوثاق . وحسب القاعدة كان ينبغي أن يقال " فيومئذ لا يعذب عذابه أحداً ولا يوثق وثاقه أحدا " لأن كلمة " أحداً " موقعها في الجملة مفعول به منصوب ، ولكن جاء المفعول هنا مرفوعا .
4 ـ في قصة موسى وهارون ( قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الشعراء : 15 -16 ).فالله سبحانه وتعالى يتحدث عن اثنين هما موسى وهارون ، وبضمير المثنى " فاذهبا " " فقولا " . ومع ذلك استعمل ضمير الجمع للاثنين على خلاف القاعدة فقال " إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ " ولم يقل" أنا معكما " .. ثم عبر عن المثنى بالمفرد فقال : " إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ " ولم يقل " إنا رسولا رب العالمين " . وجدير بالذكر أنه في نفس القصة في سورة طه قال جل وعلا : (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ )( طه : 47 ) . أي جاءت على القاعدة .
5 ـ (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( النساء : 162 ) . ( وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ) معطوفة على ( الرَّاسِخُونَ )، أى حسب القاعدة النحوية تكون ( والمقيمون الصلاة ) . جدير بالذكر أن ما بعدها جاءت على القاعدة ، وهى ( وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ )
6 ـ ( وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) المسد ) . ( حَمَّالَةَ ) منصوبة بالفتحة . نحويا تكون مرفوعة بالضمة أنها وصف لما قبلها ( وَامْرَأَتُهُ )
7 ـ ( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ) (52) النمل ). ( خَاوِيَةً ) منصوبة بالفتحة . نحويا تكون مرفوعة بالضمّة لأنها خبر لمبتدأ هو ( فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ )
8 ـ ( قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى (63) طه ). ( هَذَانِ ) هنا مثنى مرفوع بالألف . نحويا هو إسم ( إنّ ) أى يكون منصوبا بالياء ( إن هذين ).
9 ـ ( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (31)الانسان ) . ( وَالظَّالِمِينَ ) هنا مبتدأ ، يعنى نحويا يكون مرفوعا بالواو لأنه جمع مذكر سالم . ولكنه قرآنيا جاء منصوبا بالياء .
10 ـ ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) الكهف ) . ( كَبُرَتْ كَلِمَةً ) كلمة هنا فاعل يعنى يكون نحويا مرفوعا بالضمة ، لكن قرآنيا جاءت منصوبة بالفتحة .
11 ـ ( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) المزمل ). هنا شاهدان :
11 / 1 : ( أَنْ سَيَكُونُ ) نحويا يقال ( أن سيكون ) بالفتح لأن ( أن ) من أدوات النصب . ولكن قرآنيا جاء مرفوعة بالضّمّ .
11 / 2 : ( هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ). نحويا يقال ( هو خير وأعظم ). لأن ( هو ) مبتدا ، و( خير ) خبر ، وأعظم معطوف بالواو على الخبر المرفوع فيكون مرفوعا .
ومن قواعد النحو عندهم أن الضمير يرجع الى الأقرب ، بالتالى فقوله جل وعلا :( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ) ( 1 )( الفرقان ) يعنى أن الضمير المستتر فى الفعل ( ليكون ) يرجع على كلمة : ( عبده ) لأنه الأقرب . أى إن ( محمدا ) هو النذير للعالمين الى قيام الساعة . وهذا خطأ لأن محمدا بشر مقضىّ عليه بالموت ، وقال له ربه جل وعلا حين كان حيا : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) الزمر ) . الذى سيبقى الى قيام الساعة هو ( الفرقان / القرآن ).
هذا دليل ضمن أدلّة كثيرة على أنهم حين وضعوا قواعدهم النحوية لم يتدبروا القرآن الكريم ، وإتّخذوه مهجورا .!
ثانيا : السبب بإيجاز :
1 ـ من الإعجاز القرآنى التعبير عن كلام البشر ب ( اللسان ). سيأتى فيما بعد خطأ أن يقال ( لُغة ). يقول جل وعلا :
1 / 1 : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (4) ابراهيم ). أى كل رسول ينزل عليه كتاب ب ( لسان ) قومه ليبين لهم . لم يقل ب ( لُغة قومه ).
1 / 2 : وعن ( لسان ) القرآن الكريم قال جل وعلا :
1 / 2 / 1 : ( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ) (97) مريم )
1 / 2 / 2 : ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) الشعراء )
1 / 2 / 3 :( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ ) (58 ) الدخان )
1 / 2 / 4 : ( وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً )(12) الأحقاف )
2 ـ إن الله سبحانه وتعالى قد جعل من آياته خلق السماوات والأرض واختلاف السنة البشر فقال " وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ " ( الروم : 22 ) . والعالمون أو العلماء لابد أن يدركوا إن اختلاف الألسنة والألوان البشرية من سنة الله تعالى في البشر ، ونحن نرى تلك الآية فينا . ففي إطار اللسان الواحد ترى لهجات مختلفة متباينة ، وفي إطار الوطن الواحد ترى لهجات مختلفة ، وكل مدينة لها لهجتها ، بل كل قرية .. ومن الصعب مع وجود تلك الاختلافات أن ترى إجماعا على النطق في وطن من الأوطان وبالتالي فلا يمكن إخضاع أى لسان إلى قاعدة جامعة مانعة . ويظهر هذا فى الألسنة الأوربية وقواعدها واضحا جليا . وبالنسبة للجزيرة العربية قد كانت قبائلها تنطق العربية بلهجات مختلفة . ولذا فمن الخطأ أن تخضع كل القبائل وكل لهجاتها إلى قاعدة واحدة ، لأن ذلك يجافي منطق الطبيعة التي خلقها الله تعالى فينا .. إذ لابد أن تكون هناك أغلبية وأقلية في القواعد النحوية ، فلا يمنع أن يأتي الفاعل منصوبا في كلام فصيح ، وليس عيبا أن يكون أسم ( ليس ) منصوبا ، فذلك من المسموح به ، لأن القاعدة النحوية تسمح دائما بوجود الشواذ في النحو ،والقياس لا محل له هنا ، لأن البشر ليسوا جمادا وليسوا مواد ميتة يمكن وضعها في أنابيب الاختبار ، والكلمة المنطوقة هي في حقيقتها كائن حي تكتسب خلفية ثقافية واجتماعية ، وقد تندثر أو تختلف مدلولاتها حسب الزمان والمكان .. وكل ذلك يستعصي على القياس السرياني الذي افتتن به أهل العراق في العصر العباسي وقبل العصر العباسي ، وطبقوه على حتى على الفقه والمنطق . لذا كان القرآن الكريم هو الذي يعبر في الحقيقة عن اللسان العربي حين نزل به كما يستعمله العرب ، أي بدون ذلك الالتزام الصارم بالقواعد النحوية ، أو بذلك القياس السرياني الذي يريد أن تخضع له كل شاردة وواردة في كلام العرب رغم انف العرب . إن القرآن الكريم هو الأقرب لطبيعة اللسان العربي لأنه لم يلتزم تماما بالقواعد النحوية ، وجاء يمثله بأغلبيتها التي تتمشى مع قواعد النحو وبالأقلية فيها التي تعطي قواعد النحو ظهرها ، وهي مع ذلك فصيحة غاية في الفصاحة .
أخيرا :
وتأتى التفصيلات فى هذا الكتاب . والله جل وعلا هو المستعان .