عن الشيطان ونحن


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 8103 - 2024 / 9 / 17 - 20:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

سؤال من الاستاذ سعيد على :
و أنا أتدبر سورة الأنفال و في الاية ٤٨ : ( و إذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم من الناس … ) هنا و بوضوح نفهم أن الشيطان تكلم و تحدث مع الذين خرجوا من ديارهم بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله . لكن في سورة الأعراف الاية ٢٧ : ( انه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم انا جعلنا الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون ) . كيف نفهم : ظهور الشيطان و حديثه معهم ( الأنفال ) و ( من حيث لا ترونهم ) في الأعراف ؟
الإجابة :
أولا : بين إستحالة رؤية الشيطان وحديثه مع أوليائه وسيطرته عليهم :
1 ـ الثابت علمياً أن ذرات المادة الأرضية تدور بسرعة تتراوح بين 400 ألف مليون دورة إلى 750 ألف مليون دورة في الثانية الواحدة ، أما ذرات العالم العلوي الأثيري ( البرزخى ) فإنها أسرع دوراناً وبهذا تخرج عن المستوى الاهتزازي لعالمنا المادي ولا نستطيع أن نراها ، ومن العالم غير المرئي لنا الجن والشياطين والملائكة والنفس البشرية بعد الموت وفى حالة النوم .
2 ـ وقد دل علم الميكانيكية الموجية على أن الأساس في تداخل الأجساد أو عدم تداخلها راجع إلى اختلاف المستوى الاهتزازي لهذه الأجساد أو تطابقه . فإذا كان المستوى الاهتزازي واحداً لإنتمائهما إلى نفس العالم فإن تداخلها يكون مستحيلاً ، فالإنسان بجسده الأرضي لا يستطيع أن يخترق الجدران لأن مجال المستوى الاهتزازي بينها واحد . أما إذا أختلف المجالان فإن التداخل يكون طبيعياً ، وعلى ذلك فإن وجود جسمين " أحدهما أرضى والآخر برزخى " متداخلين وشاغلين مكاناً واحداً في آن واحد يعتبر ظاهرة طبيعية يؤيدها العلم . ينطبق هذا أيضا على الأشعة ذات الاهتزازات الأعلى من المخلوقات المادية . وجهاز الراديو أبرز مثال لذلك ، فالكون ممتلىء بموجات لاسلكية تخترق الجدران وهى في نفس الوقت متداخلة لا يحس بعضها ببعض ولا يؤثر بعضها على بعض ، وكلها يتخلل جهاز الراديو ، فإذا استقر مفتاح الراديو على موجة معينة ألتقطها دون أن يعوقه وجود موجة أخرى في نفس المكان ذات اهتزاز أو ذبذبة مخالفة . الإنسان إذاً يعيش في عالمين متداخلين ولكل منهما مستوى اهتزازي يغاير الآخر . ويتداخل الجسمان " الجسد الأرضي والنفس البرزخية " ، والموت هو انفصال النفس نهائياً عن ذلك الجسد المادي وكل عوالم المادة التي نراها الآن بعيوننا .
والعين البشرية لا ترى كل شيء يقع في مجال الرؤية أمامها ، يقول سبحانه وتعالى : ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)" الحافة 38 : 39 ). نحن لا نرى بعض الأشعة التى تنتمى الى عالمنا المادى ، فكيف بعوالم البرزخ من الملائكة ومنها التى تقترن بنا تكتب أعمالنا .
2 ـ بالنسبة للشيطان نتدبر قوله جل وعلا لنا : ( يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) الاعراف ). المستفاد إن الشيطان ومن هم على شاكلته يروننا من حيث لا نراهم . ( من حيث ) هنا مكانية ، أى إنهم فى مستوى يستحيل علينا رؤيتهم فيه . وفى نفس الوقت فالشيطان وذريته يضلُّون أولئاءهم من بنى آدم ـ وهم أغلبية البشر ـ بحيث يجعلهم يرتكبون الفواحش ويجعلون هذا دينا يزعمون إن الله جل وعلا أمرهم بهذا ، وأن هذا ما وجدوا عليه آباءهم . هذا بالضبط حال أصحاب الديانات الأرضية الشيطانية من محمديين ومسيحيين وبوذيين وهندوسيين ..الخ .
3 ـ لهذا فالنبى محمد عليه السلام نفسه ـ وبالتالى نحن ـ مأمورون بأن نستعيذ بالله جل وعلا من الشيطان وذريته . نتدبر قوله جل وعلا :
3 / 1 : ( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)المؤمنون )
3 / 2 : ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) النحل ).
4 ـ الآية التالية غاية فى الأهمية عن الشيطان : ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) النحل ). أى إن الشيطان يوسوس للجميع ، ولكن المؤمنين ـ الذين يتقون ـ دائما يستعيذون بالله جل وعلا ، أو كما قال سبحانه وتعالى عن نوعى البشر: ( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) الأعراف ).
5 ـ الذين يُمدُّهم الشيطان فى الغىّ ، والذين للشيطان عليهم سلطان هم أيضا نوعان :
5 / 1 : نوع أسوأ وأضلُّ سبيلا ، تتحول وسوسته اليهم الى ( وحى ) ، وبهذا الوحى يكون الافتراء على الله جل وعلا بالأحاديث الشيطانية ، وهؤلاء هم ( شياطين الانس والجن ) أعداء الأنبياء ، والذين قال فيهم رب العزة جل وعلا :
5 / 1 / 1 :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) الانعام )
5 / 1 / 2 :( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) الأنعام )
5 / 2 : النوع الثانى : هم الأتباع الذين يُعرضون عن نور القرآن الكريم فيتوظف بهم قرناء من الشياطين يضلُّونهم عن الهدى ويجعلونهم مقتنعين إنهم على الهدى وغيرهم على الضلال . ويظل هذا الشيطان مقترنا بصاحبه لا يراه صاحبه البشرى إلا فى الاخرة . نقرأ قوله جل وعلا عن القرين الشيطانى :
5 / 2 / 1 : ( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) الزخرف )
5 / 2 / 2 :( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) فصلت ).
5 / 2 / 3 :( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) ق ).
6 ـ بهذا نفهم حديث الشيطان لأوليائه . قال جل وعلا :
6 / 1 : ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) الحشر ).
6 / 2 : ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) الأنفال ).
أخيرا :
ويظل الشيطان وذريته يمارسون نفس الإضلال ، وفى النهاية سيقول جل وعلا يوم القيامة : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (64) يس .)
سبحان من هذا كلامه ، جل وعلا .!!
تعليق
سعيد على
حفظكم الله جل و علا كم نحن مقصرون في حقك و كم أنت كامل الوفاء و الرُقي و الحب هنا مدرسة الفكر و الحب
سألت الدكتور أحمد هذا السؤال الذي جال في بالي منذ فجر اليوم و جاء رده سريعا و رغم معرفتنا جميعا بظروفه الصحية و انشغاله الدائم بتدبر كتاب الله و مقولته الشهيرة : نحن مازلنا على ساحل القران الكريم و لم نلج بحره و لم نغوص في أعماقه ( بعض الكلمات زيادة مني لتقريب المعنى ) ..
كم هي مؤثرة للغاية جملة : سبحان من هذا كلامه ، جل و علا . عطفا على الايات ٦٠ - ٦٤ من سورة يس .