إبن خلدون .. والعسكر


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 8114 - 2024 / 9 / 28 - 00:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

مقدمة
1 ـ منشور لنا هنا فى حلقات كتاب عن مقدمة إبن خلدون فى دراسة أصولية تحليلية .
2 ـ من أجل مصر ـ التى أحملها جُرحا نازفا ـ أكتب هذا المقال موجزا من مقدمة ابن خلدون لبعض المظاهر التى تدمّر مصر ، ولا تزال . واضع لها العناوين.
أولا :
تتم تنمية موارد الدولة بالضرائب العادلة
1 ـ نظر ابن خلدون في تاريخ السابقين واستخلص منه أن الدولة في بدايتها قد تكون قائمة علي أساس ديني أو علي أساس من العصبية القبلية ، وفي الحالتين فإن الدولة في بدايتها لا تلجأ إلي فرض الضرائب الكثيرة ولا إلي التدخل في الاقتصاد بصورة تؤدي إلي الفساد والانكماش. ويعلل ذلك بأن الدولة في بدايتها تلتزم بالموارد الشرعية من الصدقات والخراج والجزية وتلتزم بتحصيلها وتوزيعها وفق النسب المقررة ، والدولة البدوية القبلية في بدايتها لا تلجأ هي الأخرى إلي فرض الضرائب لأنها تميل للتقشف والمسامحة والكرم . ويصل ابن خلدون إلي نتيجة مهمة ، وهي أنه إذا قل عدد موظفي الدولة وعدد التشريعات الظالمة أدي ذلك إلي نهوض الناس للعمل والتعمير ، وكلما قلت الضرائب تشجع الناس علي زيادة الموارد واستنباط موارد جديدة تؤدي إلي سرعة دورة رأس المال ، وهذا في النهاية يعود بالفائدة علي ازدياد دخل الدولة في الضرائب العادلة دون حاجة إلي زيادتها وإرهاق الناس بها .
2 ـ ثم يصل ابن خلدون إلي المرحلة التالية من مراحل الدولة حين يصيبها داء التبذير تتكاثر الوظائف وسبل التنعم والرفاهية بين أفراد الطبقة الحاكمة ، ويحتاجون إلي زيادة موارد الدولة ويلجأ ون إلي فرض ضرائب جديدة وزيادة الضرائب القديمة مما يؤدي في النهاية لتوقف الحركة الاقتصادية ، ويقول إن الدولة تتدرج في الضرائب شيئا فشيئا حتي يصبح فرض الضرائب والرسوم عادة عند أهل الحكم ، مما يطيح بآمال الناس في العمل والاستثمار لانعدام المكسب المرتجي ، وبالتالي يؤدي ذلك الركود الاقتصادي إلي نقصان في موارد الدولة فتلجأ إلي فرض ضرائب جديدة لتغطي مصاريفها فيزداد الحال سوءا إلي أن تنهار .
3 ـ ويصل ابن خلدون إلي نتيجة مهمة وهي أن الرخاء يعتمد علي تقليل حجم الوظائف والضرائب الباهظة ، وقد أشاد الرئيس الأمريكي السابق ريجان في إحدى خطبه بآراء ابن خلدون السابقة وأشار إلي أنه يسير علي هداها في إصلاح الاقتصاد الأمريكي.
الحاكم والتجــارة
1 ـ يري ابن خلدون أن قيام الحاكم بالتجارة والتكسب يضر بالدولة والناس ، ويشرح الخطوات التي تجعل الحاكم يلجأ لذلك فيقول إن الدولة التي تلجا للترف والتبذير تحتاج إلي فرض المزيد من الضرائب والمكوس إلي درجة تكون بها شريكا لكل صاحب عمل ، وقد تصادر أموال بعض المغضوب عليهم من كبار الموظفين لتسد عجز الموارد ، وفي النهاية يلجأ السلطان وأعوانه إلي ممارسة التجارة بحجة زيادة الموارد وإصلاح الأحوال . ويري ابن خلدون أن ذلك خطا فادح يقضي علي الحركة التجارية والاقتصادية ولا يصلحها ، لأن الناس في السوق يتنافسون وهم متكافئون في الامكانات وفي المكانة ، فإذا نزل السلطان أو الدولة لينافس الأفراد في السوق أضاع تكافؤ الفرص واستغل نفوذ الدولة في منافساته مع الأفراد وفرض أن يشتري السلع منهم بما يريد وأن يبيعها لهم بما يريد ، وإذا تحكم بهذا في السوق توقفت حركة البيع والشراء ، وانتشر الكساد والركود وتقاعس الناس عن العمل في الزراعة والصناعة والتجارة ، لأن خير مسعاهم سيذهب للسلطان دونهم ، وإذا قعد الناس عن العمل ذاب رصيدهم من الأموال وضاع في الاستهلاك وتدبير أمور المعاش . وفي هذه الأحوال الاقتصادية المتردية لا بد أن يتأثر إيراد الدولة من الضرائب .
2 ـ ويؤكد ابن خلدون علي أن تنمية موارد الدولة لا تكون إلا بالضرائب العادلة والتشريعات التي تيسر المعاش وتشجع علي العمل ، وتكون الدولة هي المستفيد النهائي من تلك الحركة الاقتصادية النشطة ، أما اشتغال السلطان وأمرائه بالتكسب فهو ضرر أكيد وفرض للاحتكار واستغلال النفوذ وإفساد للذمم والضمائر واختلال أحوال الدولة والناس .
3 ـ ويقول إن بعض أعوان السلطان قد يغري بأن يشاركه في التجارة في نظير أن يكون له نصيب من الأرباح ، ويقول العلامة ابن خلدون : ( فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء ) .
الظلم يؤدي للخراب
1 ـ كتب ابن خلدون فصلا رائعا عنوانه " الظلم مؤذن بخراب العمران " قرر فيه إن مصادرة أموال الناس تحطم آمالهم في الإنتاج حين يرون أن مصير تعبهم ينهبه منهم الحاكم ، ويضع ابن خلدون قاعدة تقول إنه علي قدر ظلم الحاكم ومصادرته للأموال يكون قعود الناس عن العمل والإنتاج ، وأكد أن قعود الناس علي الإنتاج يؤدي في النهاية إلي الكساد والخراب للدولة والناس .
2 ـ ويذكر ابن خلدون أهم أنواع المظالم ، ولا يحصرها فقط في أخذ المال من صاحبه بدون تعويض ، وإنما يضيف إلي ذلك كلّ من أكل حق عامل أو من طالب شخصا بشيء مفروضا عليه أو فرض عليه حقا لم يفرضه عليه الشرع . ويجعل من أبشع أنواع الظلم السخرة ، لأن العمل اليدوي من أهم أسباب الرزق ، وهو العمل الاقتصادي الوحيد لأصحابه من العمال فإذا أجبرهم أحد علي العمل سخرة كان ذلك من أبشع الظلم.، ويضيف إلي أشد أنواع الظلم أكل أموال الناس بالباطل اعتمادا علي القوة والنفوذ ، بأن يتسلط السلطان علي الناس في البيع والشراء فيشتري ما معهم بأبخس الأثمان ويبيع لهم البضائع بأغلى الأسعار ويجبرهم علي ذلك، وهذا يؤدي إلي خراب السوق وانهيار الدولة .
3 ـ ويوضح ابن خلدون أن ترف الحاكم وأتباعه وتبذيرهم واعتمادهم علي الضرائب الباهظة في تغطية نفقاتهم كل ذلك يؤدي بهم إلي ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل ، وفي النهاية يعجل بخراب الدولة.
ثانيا :
1 ـ وفد ابن خلدون إلي مصر سنة 1382م وكان قد انتهي من تأليف تاريخه وبدأه بتلك المقدمة التي أنشأ بها علم الاجتماع ، وقد تولي القضاء والتدريس ورافق الحملة المملوكية التي قادها السلطان المملوكي فرج بن برقوق سنة 1401 وشارك في وفد الصلح ، وكلام ابن خلدون في مقدمته عن أثر الظلم استوحاه من حال المسلمين تحت ظلم حكامهم في ذلك الوقت قبل أن يأتى لمصر ، وقد شهد ابن خلدون أثر الظلم المملوكي في أواخر حياته بالقاهرة وكيف أدي ذلك إلي الانهيار الاقتصادي الذي أرخ له المقريزي أشهر مؤرخي مصر المملوكية وأشهر تلاميذ ابن خلدون .
2 ـ والمقريزي في تاريخه " السلوك " أوضح كيف ساعد ظلم السلطان فرج بن برقوق في اتساع الغلاء وخراب مصر خصوصا في الصعيد ، يقول عنه " وأكثر وزرائه من رمي البضائع علي الناس بأغلى الأثمان ". ( رمى البضائع على الناس ) أى ألزم بشرائها التجار . ويقول عنه إنه كان " أشأم ملوك الإسلام فإنه خرب بسوء تدبيره جميع أراضي مصر وبلاد الشام ". وليس عجيبا أن يستطيع مفكر عبقري مثل ابن خلدون أن يستخلص من واقع المسلمين آراءه الاقتصادية التي تصلح لكل زمان ومكان.
أخيرا
1 ـ سبق إبن خلدون فى مقدمته عصره المملوكى . وكان قد كتبها قبل قدومه لمصر . ويكفى أن الرئيس رونالد ريجان ـ من أنجح الرؤساء الأمريكان ـ أشاد بمقدمة ابن خلدون ، وطبّق بعض آرائه . وآراؤه هى روشتة العلاج لاقتصاد مصر ، لو كان فيها نظام حكم وطنى رشيد يريد الاصلاح .
2 ـ . قلنا فى خاتمة الكتاب إنه عاش في مصر أربعة وعشرين عاما كانت أكثر سنين حياته نضجا واستقرارا وتفرغا للعمل والبحث ، ولكن حياته الأخيرة في مصر غائبة عن المقدمة وعن التاريخ الذي كتبه ، بل أن مصر وهي أم العمران غائبة عن مقدمته في علم العمران . ترك ابن خلدون التأليف وهو فى مصر ، وفى الظاهر إنهمك فى الوظائف وخدمة العسكر المملوكى . وفى الباطن كانت له خظّة كشفنا عنها الغطاء ، إذ حاول ـ بخبرته العريقة فى التآمر ـ تطبيق نظريته فى العصبية ـ والتى هى أساس كتاباته فى المقدمة ، بأن يسلطن أحد المصريين ـ من اصل قبطى . وفشل .!
3 ـ تجاهل إبن خلدون فساد العسكر المملوكى ، وأبرز مظاهره الإقطاع والاحتكار .
3 / 1 : بالاقطاع العسكرى قسّموا مصر إقطاعات ( 24 إقطاعا / أو قيراطا ) بين السلطان والأمراء حسب مراتبهم حتى الجنود . ويتوارثونها بينهم . وإسترقوا الفلاح المصرى فى الزراعة .
3 / 2 : كما مارسوا الاحتكار ، وخصوصا التجارة الشرقية بين الهند واوربا . مما أدى فى النهاية الى الكشوف الجغرافية وإكتشاف العالم الجديد ، فى محاولة للوصول للهند بعيدا عن الشرق الأوسط الذى تسيطر عليه الدولة المملوكية . وهذا ما شجبه ابن خلدون فى مقدمته . ولكن لم يرتفع صوته محتجّا عليه وهو فى مصر قريبا من الدوائر الحاكمة المملوكية .
4 ـ مهما بلغ فساد العسكر المملوكى وطغيانه فى العصور الوسطى فالأسوأ منه هو حكم العسكر المصرى فى عصرنا الراهن من عام 1952 وحتى الآن . يحكم مصر بالطغيان والفساد فى عصر الديمقراطية والشفافية وحقوق الانسان . على الأقل كانت مصر المملوكية إمبراطورية تمتد الى غرب العراق وجنوب تركيا وتشمل الحجاز . وهى التى أوقفت الزحف المغولى وإستأصلت الوجود الصليبى . لم تكن ثروات المماليك تتهرب للخارج ، بل كانوا يقيمون بها عمائر لا تزال تزين القاهرة وغيرها . مصر أعرق دولة أصبحت الآن تابعة لابن زايد فى الامارات وابن سلمان فى السعودية بالاضافة لاسرائيل وفوقهم أمريكا. الآن يقوم السيسى ـ الفرعونالضئيل ـ ببيعها قطعة قطعة ، ويهرّب ثرواتها لحسابه فى الخارج ، وقهر المصريين بالتعذيب والإذلال . كان هناك تعذيب فى العصر المملوكى . ولكن من واقع خبرتنا البحثية فى الدولة المملوكية لم يوجد فيها التعذيب بالاغتصاب كما يقوم نظام العسكر المصرى الخائن الخائب . لا توجد جريمة لم يرتكبها هذا السيسى . ولا يوجد فى التاريخ المصرى الذى استمر 70 قرنا من يماثل هذا السيسى فى حقارته ودناءته ووضاعته وجبنه وخيانته وطغيانه وخسّته .
5 ـ اللهم إجعله عبرة لمن يخشى .!