عن : أثر التصوف في الشعر في العصر المملوكي : فى الإنكار ( الهجوم على الصوفية )


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 8025 - 2024 / 7 / 1 - 18:30
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب : أثر التصوف المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الثانى :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )

انكار الفقهاء والشعراء على الصوفية :
1 ـ إنحلال الصوفية الدينى العقيدى والسلوكى أثار عليهم عاصفة من الاحتجاج أو ( الانكار ) بتعبير العصر المملوكى . وانعكس هذا على الشعر المملوكى .
2 ـ الطريف ان شعر الفقهاء الهجومى يتضح من خلال قراءته، بسبب غلبة الاسلوب الفقهى عليه كما يظهر من شعر الزركشى فى الرد على ابن الصاحب فى موضوع الحشيش. على أن كثيرا منهم لم يعلن نسبة القصيدة لنفسه ، ربما خوفا من نفوذ الصوفية ، ومع ذلك فنبرة الفقه والوعظ سمة واضحة..
3 ـ والشعر ــ فى الإنكار على الصوفية ـ قد ركز على مظاهر التصوف المملوكي وتعرض لها بالسخرية ــ وذلك يوجد لدى أكثر الشعراء الأصليين ــ واما بالتفنيد والرد ــ وذلك واضح في شعر الفقهاء خاصة . ومع ذلك فان هناك فارقا ملحوظا بين الفقهاء والشعراء ، فالشعراء المملوكيون تأثروا بعصرهم وانحلاله وظهر ذلك في شعرهم الساخر ، أما الفقهاء فقد ارتقوا بالشعر والفاظه ومعانيه حتى في معرض السخرية . ونعطى بعض التفاصيل :
انكار الفقهاء على الصوفية :
وقد أثار الفقهاء انحرافات الصوفية ، وقد سبقت الاشارة الى رد الزركشي على ذلك الصوفى الذي نادى بحل الحشيش . وحفل شعر الفقهاء بالإنكار على السماع الصوفي بما فيه من غناء ورقص وطعام ومآدب وإعراض مع ذلك عن القرآن الكريم..
1 ـ يقول فقيه مجهول :
متى سمع الناس في دينهم بأن الغُنا سُنّة تتبــــــــــع
وأن يأكل المرء اكل البعير ويرقص في الجمع حتى يقع
ولو كان طاوى الحشا جائعا لما دار من طرب واستمع
وقالوا سكرنا بحب الاله وما أسكر القوم إلا القصع
كذلك البهائم إن أُشبعت يرقّصُها ريُّها والشبع
الى ان يقول
ويُسكره الناى ثم الغُنا و"يس " لو تُليت ما إنصدع
فيا للعقول ويا للنُهى ألا مُنكر منكم للبدع
تُهان المساجد بالسماع وتُكرّمُ عن مثل ذاك البيع
2 ـ وقال فقيه آخر ، وقد روى السخاوى هذا الشعر على انه (لأحد السادة الأوائل)(التبر المسبوك 220 : 221 ) وواضح انه فقيه حنبلى :
الضرب بالطار والتشبيب بالقصب شيئان قد عرفا باللهو والطرب
انى لأعجب من قوم وطيشهم وان أمرهم من اعجب العجب
إن نقروا الطار أمسوا يرقصون له شبه القرود ألا سحقا لمرتكب
صوفية أحدثوا فى ديننا لعبا وخالفوا الحق دين المصطفى العرب
من اقتدى بهم قد ضل مثلهم سحقا لمذهبهم لو كان من ذهب
اهل المراقص لا تأخذ بمذهبهم فقد تمادوا على التمويه والكذب
اُنكر عليهم إذا ما كنت مقتدرا واضرب ظهورهم بالسوط والخشب
3 ـ ويقارن فقيه آخر، يبّن حالهم حين سماع القرآن وحين الغناء فيقول :
تُلى الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه أطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله ما رقصوا لأجل الله
دفُّ ومزمار ونغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهى
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامر ونواهى
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن شهواتها يا ويحها المتناهى
وأتى السماع موافقا أغراضها فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
ويقارن السماع بالخمر فيقول
ان لم يكن خمر الجسوم فانه خمر العقول مماثل ومضاهى
فانظر الى النشوان عند شرابه وانظر الى النشوان عند ملاهى
وانظر الى تمزيق ذا أثوابه من بعد تمزيق الفؤاد اللاهى
واحكم فأى الخمرين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله ؟
4 ـ وقال فقيه آخر يائسا ساخرا :
برئنا الى الله من معشر بهم مرض من سماع الغُنا
وكم قلت يا قوم أنتم على شفا جرف ما به من بنا
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر منهم الى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا الى الله فى أمرنا
فعشنا على سُنّة المصطفى وماتوا على ( تنتنا تنتنا ) ( أى نغمة الموسيقى )
5 ـ ويردد فقيه آخر يأسه منهم فيقول :
فدع صاحب المزمار والدف والغنا وما اختاره عن طاعة الله مذهبا
ودعه يعش فى غيّه وضلاله على ( تنتنا ) يحيا ويبعث أشيبا
وفى ( تنتنا ) يوم المعاد نجاته الى الجنة الحمراء يدعى مقربا
6 ـ وقد أورد ابن القيم الجوزية فى كتابه ( إغاثة اللهفان ) قصيدة طويلة يهجو الانحرافات الصوفية فى عصره ـ ولا ينسبها لنفسه ، وواضح انه صاحبها ، ومنها :
لبسوا الدلوق مرقعا وتقشفوا كتقشف الأقطاب والأبدال
عمروا ظواهرهم بأثواب التقى وحشوا بواطنهم من الأدغام
ويقول عن طريقهم الصوفى
إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتعالى
ويقول قلبى قال لى عن سره عن سرّ سرّى عن صفا أحوالى
عن حضرتى عن فكرتى عن خلوتى عن شاهدى عن واردى عن حالى
عن صفو وقتى عن حقيقة مشهدى عن سرّ ذاتى عن صفات فعالى
دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفّقت بمحال
جعلوا المرا فتحا وألفاظ الخنا شطحا وصالوا صولة الادلال
إنكار الشعراء على الصوفية :
1 ـ ولا ريب أن الانكار الفقهى الشعرى على الصوفية قد حفز الشعراء الآخرين فكانت لهم لمحات شعرية متفرقة فى الانكار على الصوفية وبعض مظاهر التصوف ، لا ينبغى إغفالها .
فابن النقيب إعترض شعرا على إستخدام الصوفية الكيمياء للتحايل : فقال :
يا طالب الكيمياء مجتهدا أو ما تملُّ السؤال والطلبا
دع ابن حيان والشذور وما أُلغز فيها ودونك العتبا
( عيون التواريخ : مخطوط 2 / 384 ).
2 ـ وللصوفية تعبيراتهم الخاصة فى عقائدهم فى الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ، ولهم مصطلحاتهم ، وهم يقولونها بإعتبارها دينا ، ولكن الشاعر المصرى المملوكى ـ الظريف خفيف الظل ـ البهاء زهير يحاكيهم ساخرا ـ يقول ، وما أروعه :
رفعت رايتي على العشاق واقتدى بى جميع تلك الرفاق
وتنحى اهل الهوى عن طريقي وانثنى عزم من يروم لحاقي
سرتُ في الحب سيرة لم يسرها عاشق في الورى على الاطلاق
ودعانى أجول فى كل ارض وطبولى يضربن فى الآفاق
مثُل العاشقون فوق بساطى فى مقام الهوى وتحت رواقى
ضربت سكّة المحبة باسمى و دعت لى منابر العشاق
كان للقوم في الزجاجة باق انا وحدى شربت ذاك الباقي
شربة لا أزال اسكر منها ليت شعري ماذا سقاني الساقي
أنا فى الحب ألطف الناس معنى دمث الخلق ذو حواش رقاق
........... الخ .... وهي طويلة )
3 ـ ويبدو انه تأثر بأمين الدين الديسرى ت 680 الذي تهكم بأصحاب الاتحاد فأجاد :
متُّ في عشقي معشوقا انا ففؤادي من فراقي في عنـــا
غبت عني فمتى يجمعني انا من وجدى منى في فنـــا
أيها السامع تدرى ما الذي قلت ؟ والله فــما أدرى انـــــــا )
4 ـ وسادة العصر المملوكى كانوا المماليك والصوفية .
4 / 1 : لذا يقول شهاب الدين المالكى ينصح من يريد السعادة من أهل عصره بتقليد المماليك أو الانخراط فى التصوف :
إذا شئت أن تحيا حياة سعيدة ويُستحسنُ الأقوام منك المُقبحا
تزيا بزى التُّرك واحفظ لسانهم وإلا فجانبهم وكن متصولحا
( إنباء الغمر لابن حجر : 2 / 210 )
4 / 2 : والبوصيري كان شاعرا صوفيا ولكن اضطر لهجاء بعض الصوفية من الكتاب والقضاء فيقول )
تنسّك معشر منهم وعُدّوا من الزهاد والمتورعينا
وقيل لهم دعاء مستجاب وقد ملأوا من السحت البطونا
وما أخشى على اموال مصر سوى من معشر يتأولونا
وما أروع البيت الأخير الذى ينطبق على مصر فى كل عصر.
4 / 3 : وفى واقعة الأمير المملوكى يلبغا السالمى مع صوفية خانقاة سعيد السعداء وقد إكتشف إنحرافاتهم وفضحهم وعاقبهم ، يقول شاعر :
يا أهل خانقاة الصلاح أراكم ما بين شاك للزمان وشاتم
يكفيكموا ما قد أكلتم باطلا من وقفها وقد خرجتم بالسالمى
( خطط المقريزى 4 / 274 ، تاريخ ابن الفرات 9 / 2 / 406 )
4 / 4 : وكان النُصيبى شاعرا ظريفا ، وقد إجتمع فى مجلس مع الشيخ الصوفى الحريرى الذى حكى كرامة له انه رأى هرّة تقرأ سورة يس ، فقال النصيبى متهكما : وكان غراب يقرأ سورة السجدة فإذا جاء عند آية السجدة ّسجد وقال: سجد لك سوادى وإطمأن بك فؤادى.( الوافى بالوفيات 1 / 164 ، الطالع السعيد فى أخبار الصعيد للأدفوى : 354 )
5 ـ وقد أدخل بعضهم المذاهب الصوفية في الشعر .
فالحقيقة المحمودية أدخلت في شعر المديح ، وأدخلوا عقائد الحلول والاتحاد في شعر ابن الفارض وغيره ، حيث عبر بعضهم عن الحب الإلهي بتعبير حسى حتى لتحسبه من شعراء التغزل فى المرأة .
ويقول أحدهم
لما رأيتك مشرقا في ذاتي بدلت من حالى ذميم صفاتي
وكان الشرنوبي ( ينظم الموشحات الغريبة في معالم الطريق الصوفى ..