ما يقع هو المستحيل، ماذا حدث للممكن؟
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن
-
العدد: 7881 - 2024 / 2 / 8 - 17:17
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
قراءة تقرير جنوب أفريقيا المقدم إلى محكمة العدل الدولية حول احتمال ارتكاب إسرائيل لجريمة الجينوسايد يعطي الانطباع بأن ما يحدث في غزة هو المستحيل، ما يتجاوز حدود الممكن، وما يبدو استثناءً عن سير الأمور حتى عن سيرها الاستثنائي غالباً في فلسطين منذ قيام الكيان الإسرائيلي. تتكرر في التقرير عبارات عن "وضع قيامي"، عن "رعب مفرط وعميق"، "جحيم حي"، "حرب تنطبق عليها كل أسماء التفضيل، وكل شيء فيها غير مسبوق"، "غير معقول"، "يتجاوز حدود التصديق"، مزيج من "الموت والدمار واليأس" في "مناطق موت"، ومشاهد "حمام دم"، فضلاً عن تفاصيل كثيرة تثير في النفس مزيجاً من الذهول والغضب. منها مثلاً أن عدد الصحفيين الذين قتلوا في غزة خلال شهرين ونصف من حملة الإبادة الإسرائيلية يفوق ما قتل من صحفيين طوال الحرب العالمية الثانية، ومنها الشروط التي لا تطاق لعمل الكوادر الطبية في القليل المتبقي من مشاف فلسطينية (عمليات بتر بدون تخدير، استئصال أرحام نساء شابات لإنقاذ حياتهن من نزف رحمي، تعفن أجنة في أسرة مشفى بعد إجبار المشفى على الإخلاء...)، ومنها قصة بالغة القسوة عن ولد من شمال غزة، مبتور أحد الساقين بفعل القصف، قضى أربعة أيام يحاول الوصول إلى جنوب غزة، تؤخره عن الوصول الحواجز الإسرائيلية.... جسده تخترقه الشظايا، ورائحة تعفن في أجزاء منه، ويبدو أنه أعمى، وتغطي الحروق فوق 50% من جسده"، وهي في مجموعها تبدو "مشاهد من فيلم رعب".
أنقل هذه القصة المؤلمة فقط لإعطاء حس بالاستثنائية والاستحالة لما يجري من فظاعة موصولة ومكفولة دولياً، على نحو يثير تساؤلاً عما إذا كنا في عالم اليوم في نظام للواقع يقوم على أن الاستثناء هو القاعدة، والمستحيل هو الواقع، والفظيع هو المعتاد.
وما يدفع للتفكير في هذا الاتجاه هو أنه سبق لنا أن رأينا معظم ما يراه الناس في غزة اليوم، وما يغطيه تقرير جنوب أفريقيا، في سورية، ولكن بإيقاع أبطأ. المستحيل هو الواقع في سورية من أوجه عديدة، لا تنحصر في ضروب القتل والتدمير الرهيبة التي تثير هي الأخرى سؤال الجينوسايد، ولا في انقسام البلد إلى أربع سوريات ونيف، ولا في وجود خمس قوى احتلال والعديد من تنظيمات ما دون الدولة المسلحة العاملة في كنفها قادمة من بلدان مجاورة وغير مجاوره، ولا في لجوء ما لا يقل مع 30% من السوريين إلى بلدان قريبة وبعيدة، وهذا كله مع بقاء النظام الوراثي المسؤول عن هذا الكارثة محصناً ومحمياً على أنقاض بلد فقد شكله ويبدو مستحيلاً أن يعود إلى ما كان.
ومنذ سنوات، يجري البحث عن حلول الوضع السوري المستحيل في نطاق ما يسمح به المستحيل من ممكنات، وهذا خلل في المنطق والتصور لم يثمر ولن يثمر، مثلما لن يثمر أي كلام على القانون الدولي وحل الدولتين بخصوص فلسطين، هذا إلا بعد نزع الاستثنائية الإسرائيلية التي يشير إليها تقرير جنوب أفريقيا. والاستثناء قاعدة سورية قديمة، ليس من حيث كون البلد عاش "حالة استثناء" مستمرة منذ اللحظات الأولى للحكم البعثي فقط، وإنما لأنه الاستثناء العربي الأكبر من حيث توريث الجمهورية سلالياً، فلا هو مثل السلالات في الخليج والأردن والمغرب، ولا هو مثل الجمهوريات التسلطية التي نجت من التوريث بفعل الثورات. وفي المثالين الإسرائيلي والأسدي لا يتحقق الاستثناء كقاعدة مستقرة دون عنف مهول، أو لنقل دون تطبيع الفظاعة. في سورية أيضاً، لا حل دون نزع نظام الاستثناء الدائم.
ويبدو أن الأمر يتجاوز بكثير فلسطين سورية، وأن سمة العصر الذي نعيشه اليوم هي تحقق المستحيل، أو تقارب المستحيل والواقع، مع هامشية متزايدة للممكن، أي المعقول الذي يتوقع حدوثه ويرتب أكثر الناس حياتهم على أساس ترجيح حدوثه. ما يحدث أكثر وأكثر هو غير الممكن، الاستثناء، خرق القاعدة، مما يعصف بعوالم أكثرية الناس، وتزدهر في ظله أقليات منهم فحسب.
ترى ماذ حدث للممكن؟ هذا الذي ربما يتجسد في "القانون الدولي"، في مؤسسات الأمم المتحدة، في أصوات عقلانية وإنسانية في بلداننا وغيرها من بلدان العالم، في فكرة الديمقراطية، في أكثرية البشر من "الناس العاديين"؟ يبدو أن عالم الممكن يتهاوى كلما كان صناع العالم هم الأقوياء، مالكو السلطة والثروة والسلاح والمعلومات الأهم، مما هو الحال في عالم اليوم في كل مكان. بتفاوت دون شك، الميل العالمي العام هو باتجاه حكم الأقوياء، عل مستوى العالم ككل وعلى مستوى البلدان المفردة. هذا ليس عالم الكدح والطبقات الأدنى أو من يحاولون التكلم باسمها، ولا هو عالم طبقات وسطى متصلة بالعمل والتنظيم والثقافة والسياسة، بل هو عالم أرستقراطيات ممتازة، تجد في قواعد مطردة وقيم جامعة ومعايير عامة وقوانين دولية، أي كل ما يميز عالم الممكن، ما يقيدها ويشل حركتها. قانون الأرسقراطية ليس الحق بل الامتياز. حين يقال إن من حق إسرائيل الدفاع نفسها، فإن القائلين يكذبون بوعي أو بدونه. فالحق لا يكون حقاً إن لم يكن عاماً، أي إن لم يكن مكفولاً للفلسطينيين، وهو ما لا يقوله أحد من داعمي إسرائيل. وفي واقع العالم اليوم، الدفاع عن النفس امتياز للقلة القادرة على المستوى العالمي وعلى المستويات المحلية. أكثرية بلدان العالم وأكثريات السكان في جميع بلدان العالم تقريباً قلما تملك القدرة على الدفاع عن النفس.
وخلافاً لما هو الحال في عالم المستحيل والاستثناء، ليس كل شيء ممكناً في عالم الممكن. يقول ديفيد روسيه إن "لا يعرف الأسوياء من الناس أن كل شي ممكن"، وفي خلفية ما يكتب النازية التي جعلت كل شيء ممكناً، وحكمت بمعسكرات الاعتقال حيث القانون هو أنه ليس هناك لماذا (وهو ما عرفناه جيداً في سجن تدمر الأسدي). ليس خبراً طيباً لعموم الناس أن يكون كل شيء ممكناً، وهو بحسب حنه آرنت مبدأ تقوم عليه التوتاليتارية. فقط في عالم المستحيل كل شيء ممكن، أما في عالم الممكن فهناك ما هو ممكن وما هو غير ممكن بالمعنيين الوجودي والقانوني للكلمة. فكرة القانون بالذات تقوم على الممكن، وعلى حماية الحياة من المستحيل ومن الاستثناء الدائم. وعلى الحق كحد: لا يحق لك أن تفعل كذا.
ما يطيح بمبدأ حقوق الإنسان أكثر وأكثر في العقود الأخيرة هو قيام عالم اليوم على الامتياز وحكم القوة، حيث كل شيء ممكن لمن يشغلون المراتب العليا من النظام، فيما لا يمكن للمحكومين أن يسألوهم لماذا. وأكثر ما يظهر تداعي عالم الممكن ورفض عالم الامتيازات لقواعد عامة تجمعه بغيره، بما في ذلك "القانون الدولي"، هو تطرف وسوقية مواقف القوى الغربية في دعمها لحرب إسرائيل على غزة. الجماعة لا يبذلون جهداً للإقناع بأن دعمهم المفرط هذا يصدر عن قاعدة عامة، ومع ذلك يريدون من الجميع قبول منطقهم. الصادم بعد غزة هو انتقال أوضاع الامتياز إلى مستوى الخطاب بعد أن كانت واقعاً صامتاً، يترك الهيمنة لخطاب الحقوق والمساواة العالمي. حين ينتقل الامتياز إلى الخطاب لا يستطيع أن يظهر إلا فظاً سفيهاً سوقياً.
خارج نطلق القانون والحياة الاجتماعية، يمكن لفكرة المستحيل أن تكون ملهمة في الفن الذي يقوم جوهرياً على عدم الانضباط بقواعد عامة مستقرة، أو مغذية لنزعة المغامرة عند بعض الأفراد، بل يمكنها كذلك أن تعمل مصلحة العموم في الثورات، لكن لذلك بالذات الثورات أوضاع استثناء حقيقية بحسب فالتر بنيامين، تقابل تحول الاستثنائي إلى قاعدة مثل أحوال اليوم (وأحوال أيام بنيامين)، ولأن الثورات استثناءات حقيقية فإنها لا يمكن أن تكون دائمة.
نظام الاستحالة والاستثناء القائم اليوم ليس من هذا الصنف الثوري، هو بالعكس ضد ثوري بامتياز، نظام الأقليات الممتازة الدائم.