حزب الله: قصة ضلال عام


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 8119 - 2024 / 10 / 3 - 19:47
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

تعمل هذه العجالة على الإجابة على سؤال طرح في مقالة سابقة للكاتب بخصوص حزب الله اللبناني- الإيراني الذي هو قوة احتلال في سورية: "كيف أمكن لقوة جزئية خاصة، مجاهرة بالطائفية، مجاهرة بالتبعية لدولية أجنبية، مسلحة وناشرة للكراهية، مسؤولة دون ريب عن اغتيالات كثيرة في لبنان، كيف أمكن لها أن تظهر في صورة قوة عامة، تحمل قضية عامة جامعة..."؟ بداية ليس هناك جدال جدي في أي الأوصاف السابقة: الطائفية، التبعية لإيران (عقدية ومالية وعسكرية وسياسية)، نشر الكراهية واتهامات الخيانة، والاغتيالات. وتكفي الأوليان، الطائفية والتبعية لإيران، لنفي مضاعف للصفة الوطنية عن التنظيم الإسلامي المسلح. فالوطني بطبيعة الحال ليس تابعاً لقوة أجنبية، وهو كذلك ليس قوة استقطاب عنيف وخلخلة للنسيج الاجتماعي في بلده، وفي الجوار. ثم إن التخوين ونشر الكراهية والاغتيالات تؤكد بصورة مضاعفة أننا حيال قوة حرب أهلية، في لبنان وفي الإقليم، قوة تحتكر الحرب الأهلية في لبنان لتفوق سلاحها القادم من راعيها الإيراني على أي قوى أهلية أخرى في البلد، وعلى الجيش اللبناني ذاته.
ترى، كيف أمكن لقوة حرب أهلية غير وطنية أن ينظر إليها على نطاق واسع عربياً، وهنا وهناك في أوساط يسار غربي معاد للامبريالية (الغربية)، كقوة عامة تحررية؟ يلزم للإجابة النظر في حقل القوى التي يتحرك ضمنها حزب الله ويعرف نفسها بالتمايز عنها أو التضاد معها، وبخاصة في إطار الاستراتيجية الإيرانية للسيطرة الإقليمية والنفوذ الدولي. المجال الطبيعي للتمدد الإيراني عبر حزب الله هو المجال العربي الذي يعاني من ضغط سلبي جالب للتدخلات الخارجية بفعل انقساماته، وافتقاره -خلافاً لإيران ومعسكر القوى التابعة لها- إلى مركز نشط أو مشروع جامع. وهو بعد ذلك في أغلبيته عالم سني، أو "يزيدي" بلغة مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي، ما يجعل منه الآخر المعرف لإيران ذات الهوية الإسلامية الشيعية المعلنة والمقاتلة. في بضع العقود الماضية، ركن الإسلام السني العربي إلى واحد من اتجاهين متناقضين، لكن تدميريين على حد سواء. أولهما ضرب من التبعية النشطة لقوة السيطرة الدولية، الأميركيين بصورة خاصة، وفي سنوات أقرب إلينا إسرائيل التي عمل "السلم الإبراهيمي" على جمعها بقوى عربية غنية وميسورة. المشروع متهافت ليس لأنه يسقط القضية الفلسطينية فقط، وإنما كذلك لأنه يعمل على تطبيع غير الطبيعي: إسرائيل، القوة النووية، العنصرية، المحتلة، التي تحظى برعاية أميركية وغربية غير طبيعية على ما أظهر 11 شهراً ونيف من حرب الإبادة في غزة، والتي يكفل القانون الأميركي تفوقها العسكري النوعي على البدان العربية مجتمعة. الاتجاه الثاني هو العدمية النشطة التي استبدت بتفكير وتكوين الإسلام السني الحركي المعارض، وقد رأينا أمثلته في سورية تعرض منازع عدمية اجتماعياً ووطنياً فوق نفيها الإرهابي للعالم. لدينا من جهة تسليم بالعالم، لقواه الأكثر امتيازاً وعدوانية، وعداء مسعور للديمقراطية والحركات السياسية المستقلة، بما فيها الإسلامية؛ ومن جهة ثانية رفض أهوج مطلق للعالم وإرادة مختبرة بالفعل لتدميره، وبطبيعة الحال عداء للديمقراطية وللسياسة بحد ذاتها. وهذا ترك العالم العربي السني بلا رأس من أي نوع، بلا قيادة، وبلا مشروع. إيران ليست كذلك. إنها مركز، رأس يبحث عن جسم أكبر، ويجد في الجسم العربي المقطوع الرأس ما يكبر جسمه هو.
والقضية العامة التي تتيح لإيران وأتباعها اختراق المجال العربي هي قضية فلسطين التي وجدتها إيران مرمية على الأرض، التبعيون أسقطوها من الحساب، والعدميون لم يدخلوها في الحساب إلا بلاغياً، مثلها مثل عشرات غيرها من قضايا "الأمة". فلسطين قضية عامة لأن تكوين العرب المعاصرين بالذات قام حول مركزيتها وعموميتها، ولأنهم يتعرفون في إسرائيل على استمرار من نوع خاص لتجربتهم مع الاستعمار، ولأن إسرائيل مثال للعنجهية والعنصرية والتمييز والطاقة الإبادية التي تعمل على إبقائهم ضعفاء متفرقين منقوضي السيادة. وحتى من وجهة نظر البلدان المفردة ككيانات سياسية "سيدة" لا شأن لها بغيرها، لا يتوافق الحد الأدنى من الأمن الوطني والتطور الوطني مع وجود إسرائيل نووية، عنصرية، عدوانية، على الحدود، ومع اختلال توازن هائل لمصلحة هذا الكيان المحارب. كانت أوربا في حروب لا تنتهي بفعل اختلالات التوازن بين دولها، حتى أمكن إيجاد توازن جديد بعد الحرب العالمية الثانية تحت المظلة الأمنية الأميركية والأطلسية. لا يمكن للأشياء أن تكون مختلفة هنا.
ثم لأنه لما كانت إسرائيل قضية غربية، وهو ما يظهر بقوة في الأزمنة المحتدمة مثل زمننا هذا، فقد صارت فلسطين قضية غربية، ومن يعارضون المؤسسات الرسمية في بلدان الغرب من مواقع يسارية وديمقراطية وإنسانية يجدون أنفسهم بقوة إلى جانب قضية فلسطين وداعميها، وإيران وأتباعها في حزب الله وغيره من هؤلاء الداعمين فيما يبدو.
وليس ما يبدو باطلاً تماماً، فإيران على احتكاك بإسرائيل فعلاً، وإن عبر أدواتها في لبنان أساساً، ثم في اليمن. والأمر كله محكوم باستراتيجية دولة قومية توسعية، تولي نفوذها الإقليمي والمجال الامبراطوري الذي نجحت في بنائه في السنوات والعقود الأخيرة أهمية قصوى، ولا تجازف بتعريضه للخطر، لا من أجل غزة ولا القدس ولا غيرهما. وهذا ظاهر في رد إيران على قصف سفارتها في دمشق في نيسان الماضي، وقد جرى إبلاغ الأميركيين به قبل وقت كاف. وهو ظاهر في عدم الرد على اغتيال إسماعيل هنية في طهران. ويحيل هذا السلوك بمجمله إلى حساب عقلاني لدولة قومية، تحرص على تطورها وتنامي قوتها. ليس في ذلك أي خطأ في عين مراقب يفكر وفق منطق الدولة القومية والواقعية السياسية. الخطأ، والخطيئة، هو أننا مجال توسع لهذه الدولة القومية، تستخدم مجالنا مثل أي قوة استعمارية، وتستتبع قوى من مجتمعاتنا عبر روابط عقدية ومالية وتسليحية، وتعامل حيواتنا كأشياء فائضة وقابلة للتصرف، مثلما تفعل إسرائيل بحياة الفلسطينيين.
المجال البنيوي للسيطرة الإيرانية هو المشرق والجزيرة العربية، فيما مواجهتها لإسرائيل عارضة. إسرائيل هي التي في مواجهة بنيوية مع إيران بحكم المفهوم الإسرائيلي للأمن المطلق وإرادتها السيطرة في الإقليم والقضاء على أي إمكانيات ردع فيه. مواجهة حزب الله لإسرائيل لم تكن عارضة مثل إيران، وهذا بخاصة حين كانت إسرائيل تحتل أراض لبنانية. لكن اليوم، ومنذ بدء مغامرته السورية، صارت مواجهته لإسرائيل أقرب على عارضة، فيما اندراجه في التخطيط الاستراتيجي الإيراني بنيوي.
حزب الله ظهر أنه رصيد استراتيجي إيراني لا مثيل له، جوهرة التاج الامبراطوري الإيراني. وهذا لأنه إيراني بقدر كاف كي ينضبط بالتخطيط الاستراتيجي الإيراني، وعربي ولبناني بقدر كاف كي يستثمر في قضية فلسطين، ولأنه جغرافياً في الموقع الأقرب (الحكم الأسدي معفى من مواجهة إسرائيل لأنه يخشى، وتخشى معه إيران وحزب الله على بقائه إن قاوم)، ثم لأنه عبر أكثر من أربعين عاماً من تاريخه طور بنية عسكرية وكفاءات قتالية مميزة، لا شيء يقاربها بقدر ما إلا حماس. وهو الأحرص بعد ذلك على إبقاء الكوريدور بين طهران والبحر المتوسط مفتوحاً، أي عبر السيطرة الإيرانية على العراق وسورية، ما يجعله حارسا لتبعية البلدين لإيران، فوق كونه قوة السيطرة المباشرة في لبنان.
حزب الله ليس رصيد قوة في استراتيجية تحرير وتحرر فلسطينية ولبنانية وعربية، أو حتى إسلامية، إلا بقدر ما تندرج في استراتيجية توسع وسيطرة إيرانية. والمرجع النهائي في كيفية تصرف التنظيم الشيعي المسلح ليس آلام الفلسطينيين ومحنتهم الرهيبة، ليس القدس والمسجد الأقصى، بل أمن إيران.
هل تغسل قضية فلسطين تبعية حزب الله لقوة امبريالية فرعية، لم تعرف عنها عاطفة إيجابية حيال العرب؟ ينبغي أن يكون عالمنا مريضاً جداً حتى تنتشر في أوساط منه هذه الفكرة. والحال أن عالمنا مريض جداً بالفعل. المشكلة كلها هنا.