إدوارد سعيد وهشام جعيط


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 8145 - 2024 / 10 / 29 - 07:22
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

المصادفة وحدها قضت بأن أقرأ خلال أيام كتابين حواريين مع الراحلين هشام جعيط وإدوارد سعيد، يوفران مقطعين طولانيين في عمل مفكرين كبيرين، عبر تغطية مساريهما الكتابيين وجوانب من السيرة الشخصية طوال عقود. ولد الرجلان في العام نفسه، 1935، جعيط في تونس لأب من رجال الدين المسلمين وسليل أسرة دينية، وسعيد في القدس لأسرة مسيحية فلسطينية كانت تعيش بين فلسطين ومصر ولبنان. رحل إدوارد سعيد الذي قضى معظم حياته في الولايات المتحدة في نيويورك عام 2003 بعد صراع طويل مع سرطان الدم، فيما رحل جعيط عام 2021 في مسقط رأسه، تونس العاصمة.
الكتابان الحواريان هما: هشام جعيط، حوار في الفكر والتاريخ والسياسة، أجراه بالعربية كارم يحيى في تونس مع المفكر والمؤرخ التونسي بين شباط وأيار 2018 (يحيى صحفي وباحث وكاتب مصري، بحسب ما جرى التعريف به على الغلاف الأخير من الكتاب الذي يقع في نحو 200 صفحة، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في صيف هذا العام، 2024)؛ ثم: إدوارد سعيد، السلطة والسياسة والثقافة، وهو مكون من 29 حواراً أجراها بالإنكليزية مع المفكر والناشط الفلسطيني الأميركي محاورون مختلفون بين 1976 و2000، وكتب لها سعيد نفسه مدخلاً تعريفياً قصير عام 2001، فيما قدمت لها غاوري فيزواناثان، وهي طالبة سابقة له، قامت كذلك بتنسيق الحوارات التي تقع في نحو 500 صفحة، وأجرت هي واحداً منها. صدرت هذه الحوارات عن دار الآداب في بيروت، عام 2008 أول مرة، وترجمتها الدكتورة نائلة قلقيلي حجازي، وللأسف الترجمة غير موفقة أحياناً. فقد ترجمت ال subaltern بالمرؤوس، والترجمة الشائعة والمعتمدة هي التابع، وترجمت activism بمذهب الفاعلية، وهو كلام يحتاج إلى ترجمة ليُفهَم، وكان أجدى القول النشاط السياسي، ومثل ذلك غير قليل.
لكن ما المشترك بين سعيد وجعيط؟ وما الذي يسوغ الجمع بينهما غير ولادتهما في العام نفسه، وقراءة كاتب هذه السطور لكتابيهما الحواريين في الفترة نفسها؟ قبل كل شيء إعجاب شخصي بهما وتقدير كبير لهما، بحيوية تفكيرهما وغناه وتنوع ميادينه، مضافاً إليه انشغالهما بنهوض وتحرر قومهما. ثم ليس أقل من ذلك عيشهما الفكري بين عالمين وثقافتين، واضطلاعهما بتحديات وفرص هذا العيش البيني حتى النهاية. عالما جعيط هما تونس والمجال العربي في عمومه، ثم فرنسا التي درس فيها وألف بلغتها، وإن يكن كتب بالعربية كذلك؛ أما عالما سعيد فهما فلسطين والمجال العربي كذلك، ثم الولايات المتحدة التي عاش فيها معظم حياته منذ سن المراهقة حتى الرحيل وألف كتبه بالإنكليزية، لكنه كتب مقالات بالعربية كذلك.
كان مما صدم الرجلين كليهما هزيمة العرب المشينة عام 1967، وقد شكلت منعطفاً في حياتيهما معاً. ازداد اهتمام جعيط بالمشرق والرابطة العربية إثر ذلك الحدث الذي شهده في فرنسا واستفزته، بحسب تعبيره، "مظاهر الفرح بهزيمة العرب". أما سعيد فقد استرجع فلسطينيته بأثر تلك الكارثة وصار ناشطاً سياسياً بعد أن كان مهتماً بصورة حصرية بالحياة الأكاديمية.
لكن صدمة المثقفيْن بالهزيمة والاحتفاء بها في الغرب لم تدفعهما إلى رد فعل انكفائي، ستأخذ علائمه وممثلوه الثقافيون بالظهور بعد ذلك بسنوات. جعيط وسعيد ثابرا على توسيع معرفتهما بالفلسفة والفكر الغربي الحديث والمعاصر، وبالقدر نفسه على احترام جذورهما والاعتناء بقضايا العالم الذي ينحدران منه ويعاينان أحواله المتردية. يعبران عن السخط أحياناً وعن الإحباط، سعيد في ذلك أكثر من جعيط، لكنهما عاملا نهوض واستنارة، ويحملان هماً أخلاقياً.
فهما من هذه الوجهة مثالان للمثقف في مجالنا من حيث الجمع بين المعرفة الواسعة الغنية وبين الالتزام التحرري والموقف الأخلاقي واستقلال الضمير. جعيط اشتغل أكثر على الشأن الإسلامي، إن من حيث تكونه وظهوره في التاريخ، أو من حيث وضعه وتفاعلاته في عالم اليوم. أما سعيد فقد اشتغل على قضية فلسطين أساساً، حتى أنه كان عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني وصاغ بالانكليزية خطاب ياسر عرفات أمام المتحدة عام 1974، كما ساهم، إلى جانب محمود درويش وشفيق الحوت، في صوغ إعلان الجزائر 1988 الذي يجمع بين استقلال فلسطين والاعتراف بإسرائيل وفقا لقرار الأمم المتحدة 242. ولعله لذلك، أعني بفعل انخراطه السياسي مع منظمة التحرير الفلسطينية، كان مريراً جداً وغاضباً بعد اتفاق أوسلو الذي أدخل القضية الفلسطينية نفقاً لم تخرج منه خلال عشر سنوات من حياته بعد الاتفاق، وإلى اليوم بعد رحيله بواحد وعشرين عاماً. ورغم هدوء نبرته وحذره المعرفي، فإن أحوال الإسلام تثير سخط هشام جعيط، بقدر لا يقل عن سخط سعيد بخصوص قضية فلسطين. حتى أنه يبلغ حد القول إن الإسلام "انتهى" بفعل اتخاذه "المنحى السياسي، وبالجري وراء الحكم وبالعنف العشوائي"، وكذلك ما يشخصه في موقع آخر من غلبة السياسة على الدين و"ضعف الإيمان الحقيقي" بأثر ذلك. لكن ثلاثيته في السيرة النبوية (في الوحي والتاريخ والنبوة 1999، تاريخية الدعوة المحمدية في مكة 2007، مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام 2015)، وقد كانت آخر أعماله، وهي كذلك أهمها بحسب حكمه هو، تدل على انشغال دائم بمصائر الإسلام التاريخية. وكان في شبابه اختار دراسة التاريخ رغم أنه كان "مغرماً" بالفلسفة أكثر لأن التاريخ يبعده عن "إشكالات علاقة الدين بالفلسفة"، وهو الذي ذهب إلى باريس متديناً، وعانى من "أزمات داخلية" حين قرأ "في مجال الفلسفة والعلوم الصحيحة". بصورة ما لم تنحل أزمة جعيط، يشعر المرء بهذا التوتر في أعماله كلها. لكن قد نؤول مجمل عمله الكتابي بأنه الحل الذي يجده المفكر لأزمة انشداده الدائم بين عالمين، ليس حصراً بين عالم الغرب وعالم العرب، بل كذلك بين عالم دنيوي في أزمة فرط نشاط وعالم ديني في أزمة ركود أو عنف ركودي (كثير من العنف وقليل من الأفكار الجديدة). لقد فكر هشام جعيط بحرية، ليس من داخل الدين وإن ليس من خارج غريب كذلك، لكنه أراد أن يكون عوناً لقومه المحتاجين بالفعل للعون. لقد التزم في أبحاثه في الشأن الإسلام بمنهج تفهمي، لا يقتضي الإيمان الديني، ولا يحكم بالمقابل بالسلب على تدين الناس وتمثيلهم لدينهم. ودعا في نشاطه العام إلى علمانية غير معادية للدين بحسب تعبيره.
سعيد لم يعان من مشكلة في هذا الشأن. في سنوات يفاعه لم يكن سعيداً بأنه من أقلية، بل من أقلية إنجيلية ضمن أقلية مسيحية في مصر. لكن منبته الديني والجنسية الأميركية لوالده سهلا له الحياة في أميركا، وما واجهه من أزمات لاحقة، وصلت إلى محاولة اغتياله وحملات مثابرة لتشويه سمعته (أطلقت عليه مجلة كومنتري اليهودي الأميركية لقب "فيلسوف الإرهاب") تتصل بكونه ناشطاً فلسطينياً في أميركا، وبخاصة بعد كتابه الشهير: الاستشراق، ثم أكثر بعد كتابه مسألة فلسطين.
المثقف الذي بدأ مساره بأزمة، طور لنفسه أسلوباً هادئاً، وإن شعر القارئ باحتدام مستمر تحت السطح، بينما المثقف الذي بدأ انخراطه السياسي بعد 1967، طور أسلوباً وفكراً متلاطمين، تتزاحم فيهما نظريات وأفكار ومفكرين لا يُعدون، يناقش أفكارهم وأعمالهم طوال الوقت.
وبلغة أقرب إلى سعيد منها إلى جعيط قد يمكن القول إنهما هما الاثنين عاشا منفيين، حين المنفى يعني حياة بين عالمين أو عوالم، أو حين يعني مسافة من "الوطن" حتى حين يعيش فيه المرء (وقد عاش جعيط معظم حياته في وطنه)، أو حياة "بين ثقافتين"، وهو عنوان أحد حوارات سعيد، يصلح عنواناً للكتاب ككل، ولمجمل عمله في واقع الأمر؛ وبصورة ما عنواناً للحوار مع جعيط. يقول مؤلف كتاب الفتنة: "فشخصيتي منفصمة، فهي عربية إسلامية وفي الآن نفسه غربية تماماً". يضيف "أردت"، دون وعي ربما، "أن أوحد شخصيتي. أوحد الأنا". وينسب إلى الكتابة فيما يخصه فاعلية تحليلية نفسية، تمزج بين وعي الفصام وتوحيد الأنا. في مكان آخر يتكلم على "انتماء مزدوج"، "انتماء إلى ثقافتين"، ويقر بأن هذا "يؤدي إلى نوع من الحيرة والتوتر الداخلي". سعيد كذلك يقول إنه عاش "حياة فصامية جداً" لوقت طويل، وإن تمثل فصامه في تدريسه الرواية الإنكليزية بعيداً عن اهتمامه الفكري الحقيقي الذي سيظهر في أشهر كتبه، أعني العمل على تفكيك الخطابات الاستعمارية. وفي مكان آخر يتكلم سعيد على حياتين منفصلتين: حياته كـ"عالم وناقد وأستاذ في مجال الأدب"، وحياته الأخرى التي تحيل إلى خلفيته الشرق أوسطية ونشاطه السياسي. ويقول عن هذه الحياة الأخيرة بأنها "موجودة في صندوق مختلف تماماً" عن ذاك الذي يحيل إلى عمله كناقد أدبي وبروفيسور في مجال الأدب الإنكليزي.
جعيط وسعيد بهذا المعنى صورتان للمثقف في مجالنا العربي من حيث "المنفى"، والجمع بين معرفة عالمين ونقدهما معاً، فضلاً عن بعد سياسي عملي أو "هم إصلاحي"، بلغة عبدالله العروي، لا يغيب عن نتاجهما ونتاج من ساروا على نهجهما، أي كلنا بصور مختلفة. وهما بعد ذلك صورتان مُثْلَيان للمثقف من حيث ما يسم عملهما من حب للفكر والمعرفة، من تجول عارف في حقول معرفية متعددة وتمكن من تيارات وفلسفات وآداب. على أنه يبدو أن معرفة سعيد بالثقافة العربية المعاصرة، والتراث القديم، ليست واسعة بقدر إحاطته بالفكر والثقافة الغربية. معرفة جعيط أكثر توازناً في هذا الشأن.
وبصفة عامة، يمكن القول إن توتر عمل سعيد سياسي، فيما هو توتر ثقافي في عمل جعيط. ما يعادل فلسطين في عمل جعيط هو الإسلام، أو ربما مركب عربي إسلامي، كان تناوله في أول كتبه: الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي.
هناك شأن محدد تتعارض فيه مواقف الرجلين. جعيط ليس معادياً للاستشراق، ولا يكاد يكون سلبياً حياله. يثني بقوة على بعض المستشرقين، ويرى حكم سعيد مشتطاً. لا لزوم لتخفيف هذا التباين أو مصالحة موقفي المثقفين المرموقين. يلزم فقط تجنب أسوأ ضروب سوء التفاهم. سعيد نفسه تحفظ على ما قد يشتق من كتابه من سياسة مسوغة للإسلامية التي تندرج عنده فيما يسميه "النيتيفيزم" أو الأهلانية، وجعيط مخالف للعديد من المستشرقين مخالفة تتجاوز تحليلات جزئية، إلى منظورات ومواقع. يقول: "انتقدت المستشرقين لغياب ما أسميته "المعرفة الوجدانية""، وتكلم عن الحاجة إلى "نظرة علمية متعاطفة من داخل الحضارة الاٍسلامية". تصلح هذه العبارة تعريفاً لعالم جعيط الفكري: تركيب بين العلم والتعاطف. مفاهيم العلمانية والدنيوية عند سعيد تأتي من جذور مختلفة عما لدى جعيط، وعما في التداول الشائع في التفكير العربي المعاصر. تمد جذورها في تاريخية الإنسان وإنسانية التاريخ، أو في ما قاله في كتابه الأنسنية والنقد الديمقراطي من أن "العالم التاريخي من هو صنع بشر من رجال ونساء، لا من صنع رباني، وأنه يمكن اكتناهه عقلياً وفق المبدأ الذي صاغه فيكو في العلم الجديد إذ قال إننا ندرك فقط ما قد صنعناه".
قلت فوق شيئاً عن إعجابي بهما وتقديري لهما. يلزم فقط إضافة أن مثار الإعجاب والتقدير لم يعد الموجب مما يقولان، أو مضمون تفكيرهما وأهم أطروحاتهما. فخلافاً لما كان الحال في عمر أبكر، حين يتماهى المرء بنجومه الفكريين، فكراً وشخصية، ما يجتذبني اليوم في أعمال مفكرين وفلاسفة هو القدرة على التجدد، وعلى قبول التوتر واستيعاب التناقض، على التلاطم الذي هو صفة للأنواء والأمواج. أي هو تعذر التماهي أكثر من التماهي. احتدام جعيط عميق، رغم هدوء السطح، أما تلاطم سعيد فهو عميق وسطحي في آن. لقد تماهى بخسارات العرب على ما قال في أحد حواراته، وهو ما لا يترك المرء في راحة بال. مات سعيد في الثامنة والستين، ويمكن القول بثقة إن أنواءه ما كانت لتتغير لو عاش حتى السادسة الثمانين مثل جعيط.
وبهذا التكوين الفكري النفسي المزدوج، سعيد وجعيط نموذجان بنيويان أو مُعرِّفان للمثقف في مجالنا. فكلنا متشكلون بين ثقافتين مثلهما، الغربية والعربية، منفصمون بصور مختلفة مثلهما، ولعلنا نكتب كي "نوحد الأنا". لكن ليس كلنا على هذين المستويين الرفيعين من الإحاطة والإنتاجية. عبدالله العروي أبكر إنتاجاً من كليهما، وهو النموذج الأصل للمثقف العربي المعاصر في حكمي الشخصي. العروي حضر بإيجابية في عمليهما معاً، أكثر إيجابية في عمل جعيط الذي لا شك كذلك بأنه كان يعرفه أكثر، شخصاً وعملاً.
على مستوى أنماط الحياة، يقول جعيط إنه يلبس "بالسوري"، أي اللباس الأوربي الحديث، وهذا خلافاً لأبيه الذي كان شيخاً زيتونياً. ويبدو أن أصل هذه الصفة السورية الطريفة يتمثل في أن قدامى المترجمين عن الفرنسية إلى العربية في تونس في أواسط القرن 19 كان من سورية التي كانت تعني وقتها بلاد الشام، ويُذكَر تحديداً إلياس موصلي، مترجم الباي محمد الصادق. جعيط يقول إن الطعام في أسرته كان تونسياً، لكن يُتناول بالملعقة والشوكة والسكين وعلى الطاولة. ونعرف من حوارات سعيد أنه كان يحب لعب التنس والسكواش، "فنحن لسنا أدمغة مفصولة عن أجسادها أو آلات لتأليف الشعر"، ومعلوم فوق ذلك أنه كان عازف بيانو بارعاً. على مستوى نمط الحياة، الرجلان مثقفان من الطبقة الوسطى المعولمة، بدءاً من الغرب المعاصر.
جعيط وسعيد لم يلتقيا. كان يمكن للقاء الفكر المتوتر والفكر المتلاطم أن يكون تجربة مثمرة بقدر كبير. هذه المقالة محاولة للجمع بينهما بعد الرحيل.