-نظام بلا سلطة-، تعليق نقدي


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 8049 - 2024 / 7 / 25 - 17:45
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

إذا كان معيار الكتاب الجيد هو أن يقول أشياء جديدة، مختلفة، أن يحفز على التفكير، أي أن يكون "مُلهِماً"، فإن كتاب "نظام بلا سلطة، المفهوم الأناركي للنظام الاجتماعي"، يحقق هذا المعيار بتميز. مؤلف الكتاب الدكتور محمد بامية، أكاديمي وناشط فلسطيني، يدرس علم الاجتماع في جامعة بتسبرغ الأميركية. وهو واحد من قلة من الأناركيين العرب، يؤلف وينشط ويدعو للفكرة اللاسلطوية التي شاعت ترجمتها بالفوضوية. يعترض بامية على ذلك، ويرى أن الأناركية تعني بالأحرى النظام، لكن دون سلطة يتراتب الناس فيها عمودياً، يعلو بعضهم بعضاً.
في مقدمته للطبعة العربية التي ترجمها عن الإنكليزية كرستينا كغدو وشكري الريان (جسور للترجمة والنشر، 2024)، يرى بامية أن "وجود السلطة هو ما يؤدي إلى صراع على السلطة، وكلما ازداد حجم السلطة ازدادت ضراوة الصراع عليها". ويميز بين لا سلطوية واعية هي المذهب الذي أخذ بالظهور في القرن التاسع عشر على يد أمثال برودون وباكونين وكروبوتكين وغيرهم، وبين لا سلطوية غير واعية يراها متجسدة في الثقافة الشعبية في كل مكان، بما في ذاك تقاليدنا الموروثة، وفي انفصال عن الدولة. فاللاسلطوية ليست دعوة جديدة تَجُبُّ غيرها وما قبلها، وإنما هي تنشيط لخبرات الثقة والتضامن الحية.
في مقدمة الكتاب يثني المؤلف على الثورات العربية من حيث هي تتعرض للنقد من قبل علماء اجتماع وسياسة آخرين، مثل آصف بيات في كتابيه "ثورات بلا ثوار، فهم الربيع العربي"، أعني من حيث أنها "جمعت الملايين وفقاً لما بدا أنه أسلوب أناركي غير معتاد للحراك"، وأنه "لم يكن لأي من تلك الثورات زعيم، لم ينتج أي منها قادة لتمثيلهم ككل، ولم يقم أي حزب سياسي أو منظمة بتوجيه الثورات" التي، بالعكس من ذلك، "تميزت جميعها- خاصة في مراحلها الأولى- بفن الحركة العفوي، الخفيف والمبهج". ربما يقال لهذا فشلت الثورات. لكن نعلم كذلك أن النموذج اللينيني للحزب الثوري المركزي المسلح بـ"نظرية علمية" ناجزة اقترن بضروب من السلطوية تغربت عنها الجماهيرـ فلم تدافع عنها أو حتى ثارت عليها وأسهمت في إسقاطها. هل من منهج بديل؟ لعل هذا هو سؤال السياسة التحررية اليوم ولسنوات طويلة قادمة.
ليس غرض هذه السطور عرض الكتاب وأفكاره الغنية المتنوعة، الجديرة بنظر متسائل. فمن حيث طريقة المؤلف في العرض والبرهنة، يبدو أن الأمر كان بحاجة إلى مقدمة في اللاتعلم unlearning، إزالة تعلم معين للعلوم الاجتماعية والإنسانية يقوم على التفسير السببي وقدر من الحتمية، ويبدو أنه يتوافق مع إعادة إنتاج الواقع القائم. نقد بامية للفاعل العقلاني الذي يقوم عليه علم الاجتماع الأكاديمي يبدو مقنعاً، لكن التعويل على إنسان ثلاثي الأبعاد، إرادته ليست أنانية فقط، لكنها إيجابية ومرتابة كذلك (لعله كان يلزم قدر من الشرح أكبر هنا)، وعلى الاقتناع، يبدو طوباوياً. ولا أقول ذلك استخفافاً بالطوباوية، ولكن لأن الكتاب لم يدافع عنها حق دفاعها، في أيامنا الدستوبية هذه بخاصة. في نقاش بامية أشياء مؤثرة تستفز الجانب العقلاني منا، حتى حين يوجد هذا الجانب في صورة تحررية، وليس في صورة فردانية ومحافظة، مثل قول المؤلف: "بخلاف النظرية المادية الماركسية، يتطلب نموذج الانتقال التاريخي إلى اللاسلطوية ظرفاً مادياً واحداً فقط: انتشار فكرة اللاسلطوية". وهذا لأن "فلسفة اللاسلطوية مترسخة في التوجهات المدنية للإنسانية". يبدو هذا تفاؤلاً ميز الفكر الاشتراكي في عمومه، وعوّل أعلامه مثلما يعول مؤلف "نظام بلا سلطة" على الإرادة وخيرية الإنسان. السؤال الذي لا يجده القارئ مطروحاً في كتاب بامية: ما العمل في مواجهة الجريمة؟ الاعتداء على ملكيات الغير وحقوقهم وحياتهم؟ الفكر الأناركي والاشتراكي بعامة تعثر بهذه المشكلة التي تبدو مدخلاً لسلطة قاسرة إلى العلاقات الاجتماعية. الانطلاق من خيرية جوهرية للإنسان تحول دون الانشغال بهذه المسألة.
ومع ذلك فإن من لم تمت قلوبهم منا ربما يجدون كتاب بامية مؤثراً وملهماً بالفعل. كلامه غير مرة على الروح، على الإرادة، على الأمل، غير مألوف في أدبيات العلوم الاجتماعية، لكنه جذاب ومستحق للعناية، ولعله ركيزة لا بد منها لنظرة مغايرة إلى العالم غير هذه السائدة منذ أربعة عقود على الأقل، وتقوم على تطبيع الرأسمالية والأنانية الفردية والجمعية، وهي اليوم تقود العالم إلى التدمير الذاتي.
الدين لا يظهر في كتاب بامية كعدو، ولا حتى كخصم. العدو هو السلطة المُركّزة، ومنها الامبراطورية. لقد خسرت ثورة المسيح الروحانية، بحسب مؤلف "نظام بلا سلطة"، نصف المعركة ضد الامبراطورية، عندما أجاب يسوع على سؤال: أعط لقيصر ما لقيصر. هذا يسير ضد تأويل شائع بأن التمييز بين ما لقيصر والله سهل من أمر العلمانية في أوربا، لكن العلمانية لا تأخذ حيزاً خاصاً في الكتاب المتمركز حول السلطة واللاسلطة، وليس حول مدى استنارة الاستبداد. العدو النوعي للفكرة اللا سلطوية هو السلطة، وبالتحديد السلطة المتراكمة الكبيرة، وليس حتى الرأسمالية، بخاصة حين تكون تنافسية. ومن هذا الباب رأى باكونين في ماركس الذي يتمركز عمله حول الرأسمالية متسلطاً، ولا ينشغل بقضية الحرية بقدر ما يلزم.
وفي مكان آخر يقول المؤلف إن "فكرة أن الواقعية اللاسلطوية متجهة نحو تجاوز الواقع بدلاً من السيطرة عليه مرتبطة بمبدأ أخلاقي قديم للحياة الحضارية المنظمة طوعاً، وهو "لا تحارب الشر بالشر"؛ هذا مبدأ موجود بصياغات مختلفة في جميع الأديان". ليس في الإسلام الذي يماثل، من هذه الناحية، الشيوعية اللينينية في مواجهة عنف الدولة بالعنف الثوري. في "أولاد حارتنا"، رواية نجيب محفوظ الرمزية، يحرص قاسم على أن يذكر أصحابه بأنهم يستخدمون "الفتوة" للتخلص من نظام الفتوات، أي يواجهون السلطة القسرية بالسلطة القسرية، أو الشر بالشر. ومعلوم أن قاسم هو المعادل الرمزي لنبي الإسلام.
بامية لا سلطوي ممارس، يفكر في الشؤون العامة بما فيها قضية فلسطين من منظور اللاسلطوية. في محاضرة في مركز مارك بلوخ في برلين في 4 حزيران 2023، ناقش حل اللادولة، الفكرة التي يعمل على تطويرها حالياً وربما تصير كتاباً ذات يوم. حل اللادولة يقابل حل الدولتين الذي شبع موتاً عبر التوسع في الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، واليوم عبر حرب الإبادة في غزة. ولا يبدو أن لحل الدولة الواحدة التي تجمع فلسطينيين ويهوداً إسرائيليين على قدم المساواة في المواطنة فرص في الحياة اليوم وفي أي مستقبل منظور. ما يبدو شغالاً اليوم هو حل الإبادة والتطهير العرقي، التخلص الكامل من الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة، وربما يوماً ما فلسطينيي 48. حل اللادولة ينقل المسألة إلى خارج التفكير في السيادة والسلطة، نحو مجتمع حر تفاعلاته غير سلطوية. هل هذا واقعي؟ لدى بامية نقد لمفهوم الواقع والواقعية، ويرى أنه حين تفشل المقاربات الواقعية مراراً، نحتاج إلى التفكير في هذا الفشل ومساءلة مفهوم الواقع نفسه. قال في محاضرته المذكورة إن من غيروا الواقع هم اللاواقعيون، مثل كاسترو والخميني، والحركة الصهيونية ذاتها، وليس الواقعيين.
على أن لا-واقعية بامية واقعية بقدر كاف، وليست متنطعة. والتقابل غير استبعادي عنده بين حل اللادولة وكل من حل الدولتين والدولة الواحدة لأن بامية يقبل أن حل الدولتين أفضل من الوضع الحالي، ولن يدخل في حرب مع من يدعون إليه، وحل الدولة الواحدة أفضل من حل الدولتين. وهو إن كان متشككاً في فرص أي من الحلين ويفضل حل اللادولة، فإنه لا يفكر بمنطق هذا أو ذاك.
في زمن قاتم تحتقن الأنفس فيه بالانفعالات كأيامنا هذه، يخاطبنا مؤلف كتاب "نظم بلا سلطة" بهدوء، يفتح لنا نافذة على عالم مغاير، يقول لنا إنه ممكن ويدعونا إلى العمل من أجله.