حملة -أنا أعتذر- ومراتب المسؤولية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن
-
العدد: 8281 - 2025 / 3 / 14 - 18:28
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في مبادرة شخصية، أطلق المهندس بسام جمعة حملة عامة مفتوحة لتوقيعات الراغبين، بعنوان "أنا أعتذر". تتصدر بيان الحملة عبارة: "نحن مجموعة من الأفراد الذين ينتمون إلى الطائفة العلوية ولادةً، وإلى سوريتنا اختياراً"، تعقبها عبارة: "نتقدّم إلى الشعب السوري بجميع أطيافه، وخصوصاً المكوّن السني، باعتذارنا بكل ما تحمله كلمة "اعتذار" من معنى". بسام معتقل سياسي سابق، سُجن في عهد حافظ الأسد لثماني سنوات، ومثله زوجته وشقيقتها وغير قليل من المنحدرين من بيئته، علويي مدينة حمص. وهو بالتالي لا يعتذر عن إساءة شخصية، ولا لأنه كان داعماً للحكم الأسدي. ممن يعتذر بسام والموقعون معه إذن، وعمّ؟ "نعتذر من كل أمّ وزوجة وأب وطفل، لأننا لم نستطع حمايتهم أو منع الجرائم التي ارتُكبت بحقهم من قتل وتدمير وتهجير واعتقال. نعتذر عن صمتنا وخوفنا، وعن عجزنا عن منع بعض أبناء الطائفة من دعم النظام المجرم". ليس هناك وجه عادل للوم بسام ومن يرون رأيه على الصمت والخوف والعجز، فقد شاركهم فيه ملايين السوريين. لكن المبادرة تبدو تعبيراً عن إرادة تحمل قسط من المسؤولية عن مأساة وطنية، وضعت كتلة أساسية من الجماعة العلوية نفسها في صف المسؤول الأول عنها، الحكم الأسدي. ولعلها جهد لتطييب الخواطر، والمساهمة في "السلم الأهلي" الذي تعرض ويتعرض في حمص وغيرها لاختبارات صعبة، ليس مضموناً بعد أن يخرج منها بسلام. مدينة حمص شهدت أعلى منسوب للتوتر الطائفي بعد سقوط النظام، ولا يزال الوضع فيها هشاً. وبسام يعتقد أن المبادرة أسهمت بالفعل في تخفيف حالة الاحتقان في المدينة. هذا قبل أن يتفجر الوضع في الساحل قبل أسبوع، ويعود الجو في حمص إلى قدر من التوتر.
تعرضت مبادرة "أنا أعتذر" للطعن من والتسفيه من منحدرين من بيئة الموقعين عليها أنفسهم. بقولك "أنا أعتذر" تبدو كأنما تعتذر عما تكون، بالنظر إلى اعتذارك عما لم تفعل لا معنى له. وبالطبع لا معنى لاعتذار أيٍ كان عما يكون. ويبدو من الصعب الخروج من المواقف المتقابلة التي لا يفتقر أي منها إلى الوجاهة.
لكن ربما نفكر في نقل النقاش إلى الجذر المفترض للاعتذار أو عدمه، أي إلى المسؤولية. في هذا الشأن قد نميز بين ثلاثة مراتب من المسؤولية. المسؤولية القانونية، وهي تقع على المرتكبين المباشرة وبتفاوت يوازي تفاوت ارتكاباتهم. هنا ليس ثمة وجه للوم من لم يرتكبوا جرائم. ثم المسؤولية السياسية، وتقع على عاتق من يديرون الهياكل المشرفة على الإرتكابات الإجرامية، مثل بشار الأسد وأركان حكمه، حتى لو لم يرتكب أي منهم جريمة بيديه. ثم هناك المسؤولية المعنوية أو الأخلاقية، وهي تقع تفاضلياً على الجماعة المتصورة التي ينتمي إليها المرتكبون، أو على من كان يفترض بهم "قول الحق في وجه السلطة" ولم يفعلوا لسبب ما. تكتسب حملة "أنا أعتذر" معناها على أرضية الانتماء فقط: يشعر بسام ومن معه بالحرج لأن الجماعة التي ينتسب إليها بالولادة كانت من أدوات المأساة الوطنية السورية. ويندرج ضمن الفشل في قول الحق في وجه السلطة بيان صدر يوم 6 شباط الماضي باسم الرهبانية اليسوعية في سورية ورد فيه: "لكنّنا لم نكن دائماً أوفياء، كبّلنا الخوف، فالتزمنا الصمت أحيانًا، عندما وجب رفع صوت الحقّ". الرهبانية ألزمت نفسها بالسير "مع من لديهم الشجاعة ورغبة الالتزام لنتجاوز ضعفنا ومحدوديّتنا"، ومع "من غلبهم اليأس ومع التائهين"، من أجل "تعافي جرح الأخوّة" وبناء "سوريا متعافية، شجاعة، متحرّرة".
ويصدر تحمل المسؤولية في الحالين عن شعور بالأسف على التقصير، ربما شعور بالعار، ويرافقه نازع تطهر ذاتي، ومساهمة في بلسمة جراح الضحايا. أمثلة ذلك كثيرة في عالم اليوم. المحتجون اليهود ضد جرائم إسرائيل والصهيونية يرفعون لافتات تقول: ليس باسمنا! يمتزج فيها التطهر مع التضامن مع الشعب الفلسطيني. ويرى نوام تشومسكي، أبرز رموز اليسار الأميركي، أن الاعتراض على جرائم بلده، الولايات المتحدة، هو معيار المسؤولية الأخلاقية للمثقف، وليس نقد جرائم العدو. ومثل ذلك ينطبق على جميع من يفكرون في أنفسهم كفاعلين أخلاقيين. العربي مدعو لنقد الجرائم التي يرتكبها عرب، قبل الجرائم التي يرتكبها أعداء العرب، ومن أجل أن يكون للنقد الأخير أي صدقية. ومعيار أخلاقية المسلم نقد الجرائم التي يرتكبها مسلمون وليس التعريض بجرائم محسوبين على أديان أخرى. وليسوا مخطئين من ساءلوا بسام ومن معه عن وجوب اعتذار السنيين السوريين عن جرائم داعش وغيره من الجماعات الإسلامية المتطرفة. فمن ينبغي أن يشعروا بالعار من جرائم الإسلاميين السنيين هم المسلمون السنيون قبل غيرهم، ويقع عليهم أن يسألوا أنفسهم: كيف أمكن لوحوش فتاكة هذه أن تظهر في بيئاتنا الاجتماعية، ولماذا لم نستطع فعل شيء ضد هذه الظهورات المتوحشة؟
وبينما تكتب هذه المادة، ارتكبت تشكيلات مسلحة مرتبطة بالإدارة الجديدة في سورية جرائم طائفية مشينة، ارتكبها بتشف وابتهاج سنيون بحق علويين، شملت عائلات بأكملها أحياناً. من يتحمل المسؤولية عن هذه الجرائم الجديدة؟ المبدأ نفسه. قانونياً، يتحمل المسؤولية المرتكبون المباشرون وقادتهم، وسياسياً الإدارة الحالية وأصحاب القرار فيها. لكن المسؤولية المعنوية تقع تفاضلياً على عاتق البيئات السنية السورية أكثر من غيرها، بل دون غيرها. وهذا لأنها لم تستطع حماية الضحايا أو منع الجرائم التي ارتُكبت بحقهم من قتل وتدمير وتهجير واعتقال، بتعابير بيان حملة "أنا أعتذر". ففي هذا مما يسهم في إنقاذ فرص سورية لا طائفية، عبر كسر التطابق بين الأهلي والأخلاقي، وبالعكس إقامة جسور وشبكات معنوية عابرة للطوائف. ما تواتر التعبير عنه في الواقع يشبه تماماً ما عبر عنه في مواجهة الجرائم الأسدية وقت حدوثها: الشماتة بالضحايا أو تبرير ما وقع لهم، ومهاجمة من يدينون الجرائم. لكن أصواتاً أخرى اعتذرت وتضامنت.
والأساس في تحمل المسؤولية المعنوية هو الوجود المعنوي للجماعات، المستمر عبر التاريخ. لا يتعلق الأمر هنا بوجود قانوني يحيل إلى الراهن وشبكات الالتزامات والحقوق والواجبات فيه، أو وجود سياسي يحيل إلى النظم السياسة القائمة ومدى شرعيتها وعلاقات الجماعات المختلفة بها. الوجود المعنوي جمعي، مديد، متعدد الأجيال عبر الزمن، على نحو تنتقل فيه الأعباء الأخلاقية عبر الجسد المعنوي. إنما لذلك يمكن الكلام على مسؤولية معنوية، وعلى تكفير عن الذنب يعتق من تلك المسؤولية، على نحو يصون كرامة الجماعة. عبر سياسة التذكر والتكفير المستمر عن الهولوكوست يعمل الألمان على التحرر من عبء أخلاقي باهظ، ولأن إثمهم الإبادي، الهائل والاستثنائي، الذي استهدف وجود اليهود، كان يوجب التكفير عنه بوجود ألمانيا، جزئياً أو كلياً (وليس بالمال والنصب التذكارية والاستعراض النرجسي للذنب، فيما يدفع الثمنَ من وجوده الشعبُ الفلسطيني)، ولأنهم غير مستعدين لحل وجودي، فقد جعلوا من سياسة التذكر ومن التكفير المستمر ديناً. الدين هنا حل لمشكلة وجودية لا تطاق.
وعبر "أنا أعتذر" يعمل مثقفون وناشطون علويون على رمي عبء أخلاقي عن كاهل الجماعة العلوية الباقية على الزمن، قبل وبعد الحكم الأسدي، وهو ما يضعهم في موقع أخلاقي وسياسي أفضل لإدانة أي جرائم تستهدف هذه الجماعة. وعبر مساع مماثلة يعبر سنيون سوريون عن تحمل مسؤولية خاصة عن الجرائم المرتكبة بحق مواطنيهم العلويين اليوم. وهو ما يزداد إلحاحاً إن امتنعت السلطة القائمة عن تقديم الجناة المباشرين للعدالة، أو تنكرت لمسؤوليتها السياسية الأساسية عن أي جرائم ترتكبها قواتها، النظامية أو الرديفة.
ربما يعترض على حملة "أنا أعتذر" من حيث أن منطقها المبني على "انتماء بالولادة" يناقض منطق المواطنة الذي يُفرِّد المسؤولية، والمبني على "انتماء بالاختيار"؟ التناقض قائم دون شك، لكن الحملة تصدر عن إدراك لواقع لا مواطني راهن، يتعارض مع تفريد الجرائم وفصلها عن الأهلي.
لبسام جمعة الفضل في إثارة قضية إشكالية لا يسهل التوافق بشأنها، على ما هو ظاهر في المجتمع الفيسبوكي السوري. لكنها قضية تطرح على المثقفين والسياسيين السوريين أسئلة تتصل بمراتب المسؤولية، وبالقواعد والتدابير الممكنة لطي صفحة السياسة الأهلية، ومخاطر الإبادة المتضمنة فيها.