ليلى سويف: دفاع استشهادي عن النفس


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 8161 - 2024 / 11 / 14 - 17:30
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

السيدة ليلى سويف مضربة عن الطعام من شهر ونصف، هي المدة التي انقضت على انتهاء محكومية خمس سنوات حكم بها قضاء دولة السيسي على ابنها علاء عبد الفتاح. في بيان على صفحتها على فيسبوك شكرت السيدة سويف (68 عاماً) من تضامنوا معها، وقالت إن في هذا التضامن ما "يدفئ القلب" و"يطبطب على الروح"، لكنها لن تستجيب لمطلب من دعوها لوقف إضرابها حفاظاً على صحتها. بصفاء ذهن، قالت الأستاذة الجامعية التي تدرس الرياضيات إن أفضل الاحتمالات هو أن يُفرَج عن علاء قبل تدهور صحتها، والاحتمال السيئ هو أن تتدهور صحتها وتموت، أما الأسوأ فهو ألا يفرج عن علاء وتنهي هي إضرابها لتعيش مكسورة باقي حياتها. هذا الوضوح فظيع ويكسر القلب، ولا يجب أن يوضع أي إنسان أمام خيارات كهذه، يتقابل فيها فقد حبيب مع فقد الحياة أو فقد تقدير النفس.
في هذه القصة المؤلمة شيئان يستوقفان الحس بالعدالة. أولهما آلام عوائل المعتقلين السياسيين (والمغيبين القسريين)، الإخوة والأبناء والآباء، وخصوصاً الأمهات، وهي آلام غير مرئية، لا تتكلم عليها تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، ولا تحسب من بين المعطيات الدالة على تدهور الأوضاع الحقوقية والسياسية والأخلاقية في البلدان المعنية. فإذا كان العدد الكبير للمعتقلين في لحظة محددة، ما لا يقل عن ستين ألفاً في مصر اليوم، يدل على نظام تسلطي فائق، نظام إبادة سياسية بالفعل من الصنف الإسرائيلي حيال الفلسطينيين والصنف الأسدي في سورية، فإن الوجه الخفي لذلك هو مجتمع حزين، محجوب غالباً عن النظر. السيدة ليلى سويف وابنتاها منى وسناء أقرب إلى استثناء من حيث خفاء المعاناة، بالنظر إلى أن الأسرة معروفة في مصر بالنشاط السياسي والحقوقي العام، وبعد المعاملة الكيدية المتكررة لعلاء معروفة في العالم ككل. منى اسم بارز في مجال النشاط السياسي والحقوقي، وسناء قضت سنوات في السجن على ثلاث دفعات، انتهت الأخيرة بينها قبل أقل من عامين. الأب، أحمد سيف الإسلام، معتقل سابق في عهد مبارك ومحام معروف، وهو رحل عام 2014 بينما كان علاء في نوبته الأولى السجن في زمن السيسي، قبل أن تعقبها نوبة ثانية بدأت عام 2019. والخالة هي الروائية المصرية الشهيرة أهداف سويف، المقيمة في لندن. في مبادرة الأم إلى إضراب مفتوح عن الطعام حتى الإفراج عن ابنها دفاع عن النفس، بل دفاع استشهادي بأحق معنى للكلمة، حيث تمتزج التضحية بالحياة مع صنع المعنى. لسان الحال: إما حرية ابني، أو أدفع حياتي وأترك ورائي قصة تروى! هناك أمهات كثيرات قضين في انتظار الأبناء الغائبين، نعرف ذلك من سورية خلال أكثر من خمسين عاماً من الحكم بالسجون والتغييب القسري، وتبلغنا أطراف من سيرة الألم نفسه من مصر في سنوات حاكمها الركيك والحقود.
الشيء الثاني هو عدم احترام نظام السيسي عدالته نفسها، أو حقيقة أن نمط ممارسة السلطة في مصر اليوم أسوأ من أي تصور للعدالة حتى لو وضعه النظام نفسه. في حالة علاء، اعتبر القضاء الشكلي الذي حاكمه أن محكوميته تنتهي بعد خمس سنوات من إصدار الحكم، وليس من الاعتقال، وهذا يعني أن نحو ثلاثة أعوام كانت توقيفاً عرفياً اعتباطياً، تقوم به سلطة تعسفية لأنها تستطيعه ولا تخشى العواقب. سبق أن رأينا مثل ذلك في سورية، حيث القاعدة الأعم هي ألا يقدم المعتقلون حتى إلى محاكمات شكلية، وإن حدث ألا يفرج عنهم وقت انتهاء محكومياتهم. ونرى مثله في الإمارات التي كان الدكتور محمد الركن مثلاً قد نال حكما بالسجن لعشر سنوات عام 2013 لمطالبته بانتخابات حرة في الإمارات وأن يتولى البرلمان المنتخب سلطة التشريع. بعد انتهاء محكوميته، حوكم الدكتور الركن من جديد، من بين 84 ناشطاً إماراتياً، ونال حكما بالسجن المؤبد. والخلاصة البسيطة لهذه الأمثلة هي انعدام العدالة في مجالنا المشتهر فوق ذلك بانعدام الحرية. وإذا أخذنا بالاعتبار أن أحوال الحقيقة والجدال الفكري تنافس الحرية والعدالة في الغياب تجسمت أمام أعيننا أحوال التدهور والانحلال العام التي نخبرها في مجالنا، والمفتوحة فقط على الكوارث.
ويبدو أن وراء احتقار نخب السلطة في مجالنا لعدالتها هي ذاتها حقيقة أنها نخب ميراثية بصور مختلفة، تملك بلدانها ولا تحكمها. العدالة لها والتشريع لها، والمعلومات والإعلام لها، والمدارس والجامعات، والسياسة والأمان، والجيوش والمخابرات، والعلاقات مع العالم، والثروة وبهجة الحياة، مقابل لا شيء لمن يخاصمونها، لا الحرية ولا الذكر، ولا حتى الحق في الحياة. لكنها ميراثية عسكرية في مصر وسلالية في الإمارات، وسلالية جديدة أو محدثة في سورية، هي الأسوأ بأثر حداثة عهدها واستمرار منازعتها اجتماعياً. في التكوين، هذه النخب متخرجة من جيوش فاسدة ومهزومة أو من المدارس الأكثر اعتباطية للسياسة: الأسرة والعشيرة والطائفة. وهي خرجت لتوها "مخضوضة" من أكبر تحدي واجهته في تاريخها، الثورات العربية، وقد تزودت من تلك التجربة المرعبة بحرص متجدد على ألا تفلت الأمور من يدها مرة أخرى.
في علاء عبد الفتاح بالذات تتجسد استمرارية النضال من أجل المواطنة والحريات العامة منذ مشاركته في اعتصامات حركة كفاية، مررواً بثورة يناير، فمعارضته لحكم المجلس العسكري، ثم لحكم الرئيس محمد مرسي (رغم أنه صوت له ضد مرشح "الفلول" وقتها، أحمد شفيق)، ثم بالطبع نظام الانقلاب على الثورة. وفي اعتقاله الطويل والتعامل الانتقامي والحقود معه يتمثل الفارق بين استبداد متحفظ في عهد مبارك واستبداد مقاتل وقاتل في عهد السيسي. الفرق الحاسم هو نزعة الثأر من الثورة، وإرادة ردع عموم المصريين عن أن يفكروا بمثلها. وفي السيدة ليلى سويف يتجسد الدفاع الحيوي للمجتمع عن حياته وحريته. دفاع المجتمع المصري وليس أسرة بعينها فقط. التقابل هنا ليس بين قانون الأسرة وقانون الدولة مثلما في مسرحية أنتيغون لسوفوكليس، بل بين تصورين للدولة. التصور الذي يقول فيه حاكم رث لكنه عاتٍ: أنا الدولة! والتصور الذي يقول فيه مواطن لأنه مواطن: أنا الدولة! الدولة هي ليلى سويف وهي علاء عبد الفتاح، وهي مواطنو مصر بوصفهم مواطنون، وليس السيسي وأجهزته. صراع الدولتين هذا هو المعركة التي فقد علاء حريته في أتونها، وتوشك ليلى سويف على فقد حياتها أثناءها.
سلامتك يا سيدتنا، وسلامة علاء.