في شأن مفهوم الجينوسايد ومشكلاته
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن
-
العدد: 7875 - 2024 / 2 / 2 - 16:43
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
دخل مفهوم الجينوسايد في التداول العام منذ وقت مبكر من حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. ولم يكن ملف جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، تتهم فيه إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، حسب الترجمة العربية الأشيع للمفهوم، غير مسبوق ببيانات مفصلة قليلاً أو كثيراً من دارسي الجينوسايد. لكن الملف عزز تداول المفهوم الذي لم يكن مألوفاً في النطاق العربي حتى وقت قريب. الجينوسايد، إبادة الجينوس (ومنها على الأرجح الكلمة العربية جنس التي تجمع على أجناس) محاولة لتسمية جريمة لم يكون لها اسم قبل عام 1942 باسم لم يكن موجوداً من قبل. هذا الاسم اخترع اثناء الحرب العالمية الثانية على يد محام يهودي بولندي الأصل، رافائيل لمكين، عمل بعد لجوئه إلى أميركا على إدراج جريمة الجينوسايد في القانون الدولي. في كانون الأول من عام 1948 تبنت الأمم المتحدة اتفاقية خاصة لتجريم ومعاقبة جريمة الجينوسايد، فحازت "جريمة الجرائم" هذه، بحسب لمكين، على قيمة قانونية وسياسية وعالمية، كانت من وجه آخر بمثابة ضغط مستمر على استخدامه التحليلي المفتوح.
عرفت الأمم المتحدة الجينوسايد بأنه أي "من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه". وهي تشمل "(أ) قتل أعضاء من الجماعة"؛ "(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة"؛ "(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً"؛ "(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة"؛ وأخيراً "(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى".
وهذا يثير ثلاثة مشكلات تتصل بالمفهوم، ومشكلة رابعة تتصل بـ"تجريم ومعاقبة" المرتكبين.
اول المشكلات ما يتصل بالنية، أو "القصد"، بحسب الترجمة العربية للاتفاقية، أي وجود قصد مسبق بالتدمير الكلي أو الجزئي لجماعة... وهو ما استند فيه الملف الجنوب أفريقي إلى تصريحات المسؤولين الإسرائيليين من الصف الأول، بمن فيهم رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس الدولة وآخرين. وفي هذا الشأن المسألة تأويلية، إذ لا يأتي التعبير عن النية في صورة قرار علني أو سري بالإبادة، وإنما في لغة يمكن اعتبارها إبادية، تتكلم مثلاً على حيوانات بشرية مثلما وصف وزير الدفاع ألإسرائيلي الفلسطينيين، أو مثل إحالة رئيس الوزراء نتنياهو على العماليق، وهم شعب قديم تروي التوراة قصة إبادتهم على يد اليهود، مع تضمين ذلك أن الفلسطنيين هم عماليق اليوم. ومن اللغة الإبادية فيما يخصنا إنكار وجود مدنيين إسرائيليين، وبالتلي تشريع قتل الجميع.
لو لم نكن في إطار قانوني قضائي لوجب انتقاد هذا الطرح الضيق للنية، والكلام ربما على مقاصد أو نيات بنيوية، تنشأ من الهياكل السياسية القائمة في إسرائيل، كدولة تمييز عنصري، تنكر حق الشعب الفلسيني في الأرض وما فوقها وما تحتها، ولم تعترف قط بمسؤوليتها عن نكبته المستمرة. لا يحتاج الأمر إلى نية، يستدل عليها من تصريحات، يرد على الاستدلال بتأويلات لا تنتهي. في السياق السوري مثلاً يمكن أن نتكلم على مقصد إبادي بنيوي "مكتوب" في البنية الطائفية للحكم الأسدي، وعدم الاعتراف بالمسؤولية عما حل بسورية من كوارث خلال أزيد من خمسين سنة، ورفض أدنى حد من المشاركة في السلطة.
وتتصل المشكلة الثانية بتعريف الجماعة المستهدفة بالتدمير الكلي أو الجزئي: "قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه". هنا مصادرة على أن الجماعة معطاة سلفاً، على نحو يفترض أن الصفة القومية أو ألإثنية أو العنصرية أوالدينية، للجماعات ناجزة على الدوام، وأن هذه الجماعات "دائمية"، متماثلة مع ذاتها في كل حال، وليست هي بالذات نتاج عمليات تصنيف وتمييز وفصل وضم محددة سياسياً، ومتغيرة تاريخياً، وأن التقاليد والأعراف "الأصيلة" التي تميز واحدتها عن الأخر قد تكون مخترعة قبل جيل أو جيلين فحسب. نعرف على سبيل المثال أن "الطوائف" في سياقاتنا المشرقية ليست شيئاً نصادفه في الطبيعة، بل هي نتاج عمليات سياسية متنوعة، بمن فيه عنف موجه ضد غير الطائفيين من ضمن الجماعات المختلفة، ومن صنع مظلوميات وإضفاء صفة نسقية عليها، فضلاً عن ضروب من التمييز تغذي الوعي الذاتي الطائفي عند الجميع. القصد أن الجماعات الناجزة قلما توجد قبل الأوضاع الإبادية، بل يغلب أن توجد في سياق الإبادة التي يتعين النظر إليها في هذه الحالة كقتل جمعي أو على الهوية، بقدر ما هي كذلك صنع لـ"الهويات القاتلة" والمقتولة.
أما المشكلة الثالثة فهي مضمنة في هذه العبارة الصغيرة: "بصفتها هذه"، ما يعني أن الجماعات تباد لكونها هي من هي، وليس لأي شيء فعلته أو فعله أعضاء منها. يتعلق الأمر باستهداف جماعة "بريئة"، لمجرد اختلافها، مع تضمين غالب بكونها أقلية عزلاء. فإن لم يكن الأمر كذلك، أي حين لا تكون الجماعة المستهدفة عزلاء كلياً، فإننا حيال حرب أهلية أو قمع تمرد أو حرب بالوكالة...، وهذا يحجب حقيقة أن الجماعات المستهدفة قلما تمتنع عن صور من المقاومة، وهو ما ينطبق بصور مختلفة حتى على اليهود أثناء الحقبة النازية، علما أن الهولوكوست هوالنموذج الثاوي هنا. فقد شارك يهود في مجموعات الأنصار التي استهدفت مؤخرات الجيوش النازية، وتمردوا هنا وهناك كما في المثال الشهير لغيتو وارسو. وأهم من ذلك ليست كل حرب حرباً حتى حين يقاوم الناس ببسالة. هل يمكن بالفعل الكلام على "حرب" بين إسرائيل وحماس في غزة، على بسالة استنائية بالفعل لمقاتلي غزة من حماس وغيرها؟ يتعلق الأمر بعنف بين طرف بالغ القوة، مسلح بالطيران ومدعوم من أقوى أقوياء العالم، وطرف آخر أضعف بكثير؛ والكلمة الأصلح لتسمية هذا الصنف من العنف هي التعذيب بالأحرى وليس الحرب، أو ربما نتكلم على حرب تعذيبية. وهو ما ينطبق بقدر كبير عن حرب الحكم الأسدي على بيئات الثورة السورية، بما فيها التي شهدت مقاومات مسلحة جسورة. فاحتكار سلاح الطيران والصواريخ بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل، والعتاد الثقيل عموماً، فضلا عن الموارد العامة، تدرج حربه في نطاق الحرب التعذيبية التي لا تبتعد كثيراً عن استهداف جماعات عزلاء. وهذا حتى لو لم نأخذ بالاعتبار الاستهداف النسقي للمدنيين والمرافق المدنية في هذا البيئات الثائرة.
وتتصل مشكلة رابعة بتجريم ومنع الجينوسايد، وما يقتضيه ذلك من قوة منظمة تتدخل للمنع، وتعمل من أجل التجريم. فعدا أنه لم يحدث قط أن شخص جينوسايد وقت حدوثه، من يتدخل، يا ترى إذا جرى هذا التشخيص الإسعافي؟ ليس لدى الأمم المتحدة قوات جاهزة، والقادرون على التدخل هم أساسا الأميركيون ومن يمكن أن يجروهم وراءهم. ولكن الأميركيين حين لا يكونون داعمي لإبادة مثلما هو جار الآن في غزة، فإن تشخيصهم للإرهاب بوصفه الشر السياسي الأساسي عالمياً، إن لم يكن الوحيد، لا يحجب الجينوسايد، ولا كذلك الاستعمار الاستيطاني والتمييز العنصري، ولا من باب أولى طغيان الدول، بل هو فوق ذلك مُشرّع على مسالك إبادية مثلما جرى في سورية.
والقصد أن في تصور الجينوسايد بحسب تعريف اتفاقية الأمم المتحدة له مشكلات مفهومية يتعين التنبه لها، ومشكلات قانونية وسياسية تحد بشدة من أثر الاتفاقية في التجريم والمنع.
ومع ذلك فالجينوسايد حقل بحثي بالغ الأهمية، يتوفر في نطاقه أدب واسع، قد يكون أنسب مدخل لإعاة التفكير في الدولة والعنف لدينا وفي كل مكان، لأنه يعطي فكرة أغنى مما نعرف في أي حقل آخر عن العنفية البشرية وعن الأقاصي الوحشية التي يمكن أن تبلغها. وفي بلداننا المستباحة لضروب قصوى من العنف، لا تفي مفاهيم مثل القمع والتسلط والكتاتورية بتمثيلها، فإن هذا الحقل الدراسي يحوز أهمية خاصة، هذا إن كان لنا أن نتحكم يوما ببهائم العنف الإبادي التي تتحكم بحياتنا.