المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن
-
العدد: 8024 - 2024 / 6 / 30 - 09:28
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إلى إليزابيث سوزان كسّاب
يثير الربط بين المعاناة والمعنى إشكالاً لا مهرب من التفاعل معه. ذلك أنه إذا كان المعنى وليدَ المعاناة، على ما أشرتُ غير مرة دون توسُّع، ألا تكون المعاناة شيئاً خصباً، وَلوداً، ولعلّه مرغوب؟ ألا نجازف عبر هذا الربط بعقلنة فواجعنا ومِحَن حياتنا، بل ونسبة قيمة إيجابية لها بوصفها أمهات المعنى؟ تبرير المعاناة بالمعنى الذي نفترض تَولّده منها هو الإيديولوجية الضمنية للترابط الاشتقاقي بين المعاناة والمعنى (والعناية، على ما سيُقال أدناه)، أو هو «الثيوديسيا» (1) المُحتملة التي قد نعتنقها دون وعي، إن لم نعمل على فصل العلاقات الدلالية بين المفردات عن حياة فكرية نشطة لهذه المفردات في المجتمع والثقافة والزمن. ما ستحاول هذه المناقشة النظر فيه هو بالتحديد تنشيط حياة هذه الكلمات الثلاثة.
المعاناة و«خير العوالم»
المعاناة هي العنوان العريض لحياة عشرات ملايين البشر في إقليمنا طوال عقود استقر فيها نمط كوارثي للتغيرات الاجتماعية والسياسية، وقد اشتدت وامتدت بعد فشل الثورات العربية. وهو ما يجعل منها موضوعاً مُلزِماً لتفكير المعنيين بحياة أقل عناء ومشقة لأنفسهم ولغيرهم، فضلاً عن كونها مُنطلقاً أكثر صلابة للتفكير المناسب، بالنظر إلى أنها تشدُّ أفكارنا وما ننشئ من معانٍ إلى التجارب الحية لنا وللناس من حولنا. التفكير المناسب هو التفكير المُنشغِل بالمشكلات المعيشية الفعلية، بخاصة الفظيعة منها أو ما لا تطاق، يعمل على تحويلها إلى مسائل معقولة يمكن الإجابة عليها، وربما اقتراح أفعال وقواعد للحدّ من أسوئها. وإذ هو تفكير يعتني بالعلاقة بين ضروب المعاناة والمعاني التي ننشئها بالتفاعل معها، فإنه حيز تتلاقى فيه الأفكار بالأخلاقيات، والمعارف بالقيم، ممّا هو أقوى محركات التطور الثقافي. ليس قبل زمن طويل، كانت أفكارنا تُحيل إلى مرجعيات مكتملة أو تكاد، لا إلى تجارب حية، وكانت فوق ذلك تُهمِّش بقدر كبير قضايا القيم في الحياة العامة، السياسية والثقافية، ومعها الأخلاقيات في سلوك الفاعلين العامين. من شأن مَحورَة تفكيرنا حول ضروب المعاناة حولنا أن تؤسس لنقلة على هذين المستويين.
وقد يكون العذاب كلمة أفضل تمثيلاً لتجارب سوريين ويمنيين وليبيين وسودانيين ومصريين وعراقيين، وبالطبع فلسطينيين، من كلمة المعاناة، لكونها مشحونة بالمشقّة والألم، وأقرب إلى المتداول اليومي؛ ثم لصلة العذاب بالتعذيب الذي هو قسمة مشتركة بين دولنا، حتى ليكون ركيزة أساسية للحكم في بعضها، مثل سورية ومصر، فضلاً عن كونه قسمة الفلسطينيين اليومية.
نجد أنفسنا مَسوقين إلى النظر في هذه المعاناة أو العذاب، نحاول تخلُّلها بالفهم، نصنع من الانكباب عليها أفكاراً ومعانيَ، بما يتيح لنا أن ننظم علاقتنا بها (بالمعاناة)، فننفصل عنها بأن تصير موضوعاً لنا من جهة، ونرتبط من جهة ثانية بجماعة تشاركنا الذاكرة والتجربة، تشدنا إليها المعاني المُنتَجة، ونتشاطر ضمنها العناية بأنفسنا وبعضنا. ترتسم على الفور علاقة بين ثلاث مُدركَات: المُعاناة، المَعنى، والعِناية. وتغري علاقات القرابة اللغوية بتصور أن المعنى يعتني بالمعاناة، يعالجها على طريقة فكتور فرانكل في كتابه بحث الإنسان عن المعنى الذي ستجري مناقشة أطروحته لاحقاً، فيُتيح لنا التعافي والفاعلية في الحياة. ولا يقتضي ذلك حتماً قبول المعاناة، والترحيب أو حتى مجرد التسليم بها، على ما قد يفعل المسلمون المؤمنون محتسبين الله إذا أصابتهم مصيبة، معتبرين ذلك ابتلاء ربانياً يكشف «أيُّكم أحسنُ عملاً»، ومتقبلين في المآل القَدَرَ «خيره وشره من الله تعالى». إذ قد تقوم معانٍ علمانية بدور «ثيوديسيس»، يتيح إدراج المعاناة في مخطط حياة المعنيين، أو في مخطط جمعي يتجاوزهم كأفراد (مخطط حزبي أو قومي أو ديني...)، فتحوزُ المعاناة بذلك قيمة مُعلِّمة أو مربّية، أو حتى تكون بعض الثمن لشيء عظيم يتجاوز الفرد والجيل الذين خبروا المعاناة: استقلال الوطن، التخلص من الطغيان، انتصار الثورة...إلخ.
ويبدو أن تفجرات المعاناة، مثلما في أزمنة الثورات والحروب والنزاعات الأهلية، تدفع الناس إلى التِماسِ معانٍ لما يصيبهم، أي محاولة فهم ما يجري واستخلاص دروس منه، وربما الاهتداء إلى موجِّهات في الحياة. حين تسير حياتنا رخيّة على نسق هانئ مستقر، نفتقر إلى الدافع في التفكير فيها ومُساءلة وجودنا على قيدها عن معناه. بل لعلّنا لا نعود إلى أنفسنا إطلاقاً إن كانت تجاربنا في الحياة تسير على أحسن ما يرام على ما يكون الحال في الطفولة السعيدة، وربما في الجنة، فلا تتكون لنا أنفسٌ أصلاً. قد لا يكون هناك كائنات بلا روح، أموات في أتم الموت، أكثر من أهل الجنة الذين يعيشون في بحبوحة دائمة ولا يعانون نقصاً. المعنى هنا هو الفكرة أو القيمة التي تدفع إلى إنشائها مُساءَلة حياة تتعثّر، أو القصة التي نحكيها في صلة بمِحَن حياتنا، أو العبرة التي نستخلصها ونتوجه بها في العلاقة بالتجارب الأقسى، وهو يعود على النفس التي أنشأته بأن تصير نفساً عانية: تُعاني وتَعني، روحاً.
تريد هذه المناقشة، وهي تُجيل النظرَ في العلاقة بين المعاناة والمعنى، أن «تُعقِّدَ» العلاقة بينهما، أن تتشكك في علاقة تَولُّد خطية بين المعاناة والمعنى. وهي لا تعترض على سعينا لفهم أقسى تجاربنا، أو العالم الذي تقع فيها لنا أقسى التجارب، ولا على عائد النمو النفسي المُحتمَل لما ننجو منه من تجارب قاسية، لكنها تريد القول إنه ليس ثمة تطابق بين عالمين: عالم المعاناة وعالم المعاني؛ فلا المعاناة، وخاصة في ضروبها القصوى، تقبل التمثيل من تلقاء نفسها، بل ربما تُقوِّضُ فيما تُقوِّضُ أدواتنا في التمثيل من كلمات وأصوات وألوان وصور وغيرها، هذا حين لا تُقوِّضنا نحن، صنّاعَ المعاني المحتملين، تقتلنا قتلاً؛ ولا المعاني التي تُصنع عبر التمثيل قابلة لاستنفاد العذابات، وبالتالي تطبيبها وشفائها نهائياً.
يمكن للإيديولوجية الضمنية في ثنائية المعاناة والمعنى أن تؤول إلى نسخة ما من «خير العوالم» التي انتهى إليها لايبنتز في كتاب الثيوديسيا، حيث يكون عالمُنا رغم ما فيه شرور وآلام هو «خير العوالم الممكنة»، لأنه «الأنسب للطبيعة البشرية من منظور خطة الخلق الإلهي» التي تتجاوز مَدارِكَ البشر، بحسب ما أوضح فؤاد حلبوني في مقالته تاريخ التغول: قراءة سفر أيوب في ضوء الثورات العربية. يلخّص حلبوني تفكير لايبنتز الثيوديسي كالتالي: «لأفعالِ الشر في منظومة العالم الحالي دورٌ لا يستوعبه منظورنا اللحظي»، فهي «جزءٌ من منظومة كونية متناغمة ومترابطة في نموذج أقرب للسلاسل الرياضية [كان لايبنتز عالم رياضيات كذلك، وهو مخترع حساب التكامل]، حيث كل أثر من الوجود مرتبط ببقية الموجودات في توازن إلهي دقيق ومنضبط». وعلى هذا الأساس يتمثّلُ «دور الخطايا في حياة البشر» بكونها «أشبه بالظلال في الرسوم الفنية، تبرز بقتامتها الأشكال والأجسام المُضاءة» (2). ثيوديسيا لايبنتز تعمل على تبرير الله في عالم كثير الشرور، يطرح على المؤمنين معضلة: فإما أن الله لا يستطيع منع الشر، وهو بالتالي ليس قديراً؛ أو أنه يستطيع ولا يريد، وهو بالتالي ليس رحيماً حكيماً، هذا إن لم يكن شريراً بالأحرى. لايبنتز نتاجٌ لعصرِ النهضة وللثورة العلمية في القرن السابع عشر. وهذا عالم جديد، محفزٌ للأذهان ودافعٌ نحو التساؤل بفعل تخلخُل الإجابات الدينية التقليدية. لكن المعنى الذي أناطه بالمعاناة البشرية يبدو متعالياً على من يُعانون، مفروضاً على عذابهم من خارجه وفوقه. ويبدو أن الافتراض الأساسي في ثيوديسيا لايبنتز هو أن العالم مكفول، لا عبثَ فيه ولا انعدامَ للمعنى. هناك شر، نعم، لكنه جزء من اللوحة، لا تكتمل فنيتها بدونه. على هذا النحو، ينتهي تبرير الله أو تبرئته إلى تبرير الشر.
افتراضُ عالمٍ مكفولٍ مُحقَّقٌ كذلك عند هيغل الذي استوعب تاريخ العالم كله في مسار حياة الفكرة المطلقة أو العقل، فعقلنَ غير المعقول، أو جعل التاريخ مجالاً للمعقولية وحكماً عادلاً بين البشر. ديالكتيك هيغل منفتح على السلب والمأساة والخسارة، أي كذلك على المعاناة والألم، لكن الفيلسوف لم يقاوم إغراء تحويل الديالكتيك إلى منطق كلي، منطق وجود ومعرفة، فسلَبَ بذلك السلْبَ كيانَه ببثّه في أوجه الوجود كلها. وهو ما يَلقى التعزيز من غائية التصور الهيغلي للتاريخ (هو تاريخ للحرية، ذروته بْروسيا في أيامه). لا شيء يضيع في مسار الفكرة المطلقة التي هي تركيب معنوي كُلّي يستوعب السلب والموت والألم ويتجاوزهما. وتركَ هذا المنطق بعض آثاره عند ماركس الذي نسبنَ بدوره بعض ضروب المعاناة البشرية، ومنها ما يتصل بالاستعمار، باسم التاريخ والتقدم.
فيكتور فرانكل والعلاج بالكلام
ويقوم تفكير فيكتور فرانكل ونهجه العلاجي النفسي، لوغوثيرابي، أي العلاج الكلامي أو العلاج بالكلام المعقول، على نسبة معنىً للمعاناة، على نحو يُضمر يوتوبيا تَواؤمية لعالمٍ يعني، قابلٍ للشفاء بالمعنى. يتأسس المنهج العلاجي هنا على فلسفة تقول بأن «الحياة البشرية لا تفقد المعنى قط أياً تكن الظروف، وهذا المعنى غير المحدد للحياة يشمل المعاناة والاحتضار، الحرمان والموت» (3) وفي مكان آخر من كتابه، يقول فرانكل «إن اللوغوثيرابي معنية بالمعنى الممكن، المتأصل والهاجع في كل وضعية مفردة يواجهها المرء طوال حياته» (4). ثم في مكان ثالث يقول إن «معنى الحياة غير مشروط، إمكانياً على الأقل؛ و«إن الحياة تبقى ممتلئة بالمعنى إمكانياً، أياً تكن الأوضاع القائمة، بما في ذلك حياة أولئك الأشد بؤساً» (5) المُضمَر هنا أيضاً عالمٌ مكفول، لا عبث فيه ولا انعدام للمعنى. وفرانكل لا يوضح ما إذا كان نطاق صلاحية ما يقول هو حياة كل فرد أم الحياة البشرية في كليتها. في الحالة الأولى كلامه باطل قطعاً، فهناك أفراد بلا عدد يُهرَسون هرساً بالمعاناة، ويُترَكون بلا عزاء إن ظلوا أحياء؛ أما افتراض أن الحياة البشرية ككل لها معنى فهو اعتقاد إيماني، يمكنه أن يساعد على التوجّه في العيش وتَحمّل مشاقه، لكنه غير مكفول هو ذاته، وليس منيعاً على اعتراضات غير المؤمنين. علْمُ فرانكل يبدو بذلك دينياً، هذا إن كان الافتراض الأساسي في الدين، الأديان الإبراهيمية على الأقل، هو نفي العبث والعدم وتأكيد الحكمة والعناية الإلهيتين.
فيكتور فرانكل رجل تعذَّبَ كثيراً، فقد قضى أكثر من عامين ونصف في معسكرات الاعتقال النازية الفظيعة، وكان قريباً من الموت غير مرة، وفقد زوجته وأبويه وشقيقه على يد النازيين. لكنه تحلى بـ«تفاؤل فطري» على ما يقول هو نفسه (6)، حتى أنه دافع عن فكرة «تفاؤل مأساوي» (7) تبدو تسوية مُتقلقلة بين منزعه التفاؤلي المتأصّل وبين مأساويِّ الحياة الذي خبره شخصياً في أقسى الصور. تفاؤلية فرانكل تستوعب المأساوي وتُحيِّده على نحو ما تستوعب جدليةُ هيغل المأساة والسلب وتتجاوزهما.
وليس المأخذ على عمل فرانكل هو ما نجازف به عبر افتراض التطابق بين المعاناة والمعنى من أن المزيد من تلك يتوافق مع المزيد من هذا، فتصير المعاناة طيبة ومطلوبة. فهو يعترض بوضوح على طلب المعاناة، ويعتبر ذلك مازوشية وليس بطولة. الاعتراض بالأحرى يطال ما يمكن تسميتها معنوية فرانكل الشاملة التي تنكر اللامعنى، وتقوم على توليد معنى من كل معاناة، أو استخراج المعنى من الإمكان أو «الهجوع»، أو من الوجود بالقوة إلى الوجود الفعلي في الوعي والسلوك. ينصبُّ الاعتراض على الإيديولوجية التواؤمية المحتملة التي تكافئ المعاناة ومن يعانون بجنة المعنى. وقد يكون أنسب شعار للمعنوية الشاملة هو قول جورج غوسدورف في كتابه الإنسان الرومنطيقي: «ليس المعنى هو الذي ينتسب إلى الإنسان بل الإنسان هو الذي ينتسب إلى المعنى» (8)، أي أن الإنسان معنوي وليس المعنى إنسانياً. ولهذا المبدأ رنينٌ ديني، يُحيل إلى ضرب من المعنى الكلّي أو الروح الكلية السابقة للإنسان والقائمة به أو بدونه.
المعنوية الشاملة والعالم المكفول
ورة ما، تُذكّر هذه المعنوية الشاملة بالمذهب الوظيفي في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، وهو يجد لكل مؤسسة وكل ممارسة اجتماعية وظيفة تعزز اشتغال المجتمع وتَكامُله، فتكون أشد الممارسات الاجتماعية، ولنقُل ختان الإناث، من باب تقديم مثال من بعض بلداننا، شيئاً معقولاً لأنه يقوم بوظيفة اجتماعية ما، ربما يُقال إنه جزء من منظومة عقدية أخلاقية تحمي استقرار الأسرة وتَوزُّع السلطة في المجتمع. ما تحجبه هذه النظرة هو ضروب الاستغلال والتمييز والقسوة والاضطهاد، أي الشر، عبر تحكيم «المجتمع» فيها، نسبة الحكمة والعصمة إلى المجتمع. أو تبرئة المجتمع وتبريره إن حاكينا لغة لايبنتز. وهو ما يمكن أن تتمخّضَ عنه معنوية فرانكل، ولكن بأن تُوائمنا مع حياة وفيرة المعاناة عبر استخراج ما فيها من معانٍ هاجعة مُفترَضة. المعنى هنا يقوم بدرو ثيوديسي يحاكي دور الله عند المؤمنين أو دور المجتمع عند الوظيفيين.
في سياق مغاير يتكلم بيكو غراي، وهو فيلسوف وناشط سياسي أفروأميركي، عن ثيوديسيا أميركية مضادة للسود، يُحيل عليها تصريح لنانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي، إثر مقتل جورج فلويد على يد الشرطة الأميركية في أيار (مايو) 2020. قالت بيلوسي إن جورج فلويد ضحى بحياته من أجل العدل. على هذا النحو تُدرِجُ مُتنفّذة أميركية بيضاء قتل فلويد في مخطط كبير، يجعل الموت المأساوي والإجرامي لأميركي أسود تضحية من أجل شيء أسمى، العدل في أميركا. غراي يتكلم بخصوص هذا المثال على ثيوديسيا اجتماعية سياسية تبرر خيرية الدولة التي تحلّ هنا محلَّ الله (9).
ويقوم الإسلام والمسيحية على افتراض تطابق المعاناة والمعنى، فيعظِّم الابتلاء ويرهن به صلاح حال المؤمن. يقول ذو النون المصري، وهو صوفي مسلم من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي): «البلاء ملح المؤمن، إذا عدِم فسد حاله». و«الابتلاء أسرع فرس يصل بالإنسان إلى الكمال» بحسب يعقوب إيكهارت، الصوفي المسيحي من القرن الثالث عشر الميلادي. المزيد من الألم بالتالي يتوافق مع الخلاص، بل هو برهان على حب الله للمخلوق، ذلك أنه «إذا أحب الله عبداً ابتلاه» بحسب حديث نبوي. ولا شيء في العالم ينفذ من قانون كلّي يرهن الأعمال بجزاءات، والآلام بالسعادة الأخروية، وما من شيء في الوجود دون حكمة إلهية وراء وجوده. وقد يَؤولُ هذا إلى الترحيب بالألم مما وصل إليه الصوفيون المسيحيون، وإلى الرضا بما يحدث لنا أياً يكن ما يحدث، وعلى العبد المُبتلى من جهته أن يحمد الله الذي «لا يُحمَد على مكروه سواه». هذه الروح الدينية لا تقتصر على الأديان المعروفة، بل هي مبثوثة في مذاهب وإيديولوجيات غير دينية، تنكر العبث والضياع واللامعقول في العالم، يجمع بينها تَصوُّرُ العالمِ مكفولِ المعنى، أو المعنوية الشاملة.
إذ كان الله موجوداً...
وفي صيغتها الدينية، يمكن للمعنوية الشاملة أن تقود إلى تبرير مؤمنين جرائمهم المحتملة بخدمة الله، وقدرة الله على التمييز بين ضحاياهم الأشرار والبريئين. شاع في بعض مناطق سورية في السنوات العاصفة بين 2013 و2018 تعبير: علينا الدَّرْز، وعلى الله الفرز! أي نحن نقتل من يُفترَض أنهم أعداؤنا، والله يتكفل بتمييز المُستحقين للقتل منهم من غير المُستحقين. وثمة مثال مشابه تماماً من تاريخ الحملات الصليبية ضد الهرطقات في أوروبا. ففي عام 1209 أطلقت حملة ضد الكاثار، المعروفين كذلك بالألبيجينيين (نسبة لمدينة ألبي في فرنسا الحالية)، وعندما سُئل قائد الحملة كيف يمكنه التمييز «بين المسيحيين الأرثوذكس والكاثار الهراطقة»، أجاب «أَقتلُهم جميعاً. سيعرف الله المؤمن منهم من الكافر» (10). ما لدينا هنا هو نظام لديكتاتورية المعنى، لا يبرر الدين ويفرضه كمعنى مسبق على العناء البشري فقط، وإنما هو يجعل من هذا المعنى المتعالي مُسوِّغاً لأشد الشرور، بل بالفعل مبرراً لصيغة دينية من ابتذال الشر الذي تكلمت عنه حنة آرنت قبل عقود (11). الشعار المحتمل لهذا الضرب من ابتذال الشر أو عاديته يمكن أن يكون: إذا كان الله موجوداً، فكل شيء مباح! بحسب عبارة لأندره كونت سبونفيل، الفيلسوف الأخلاقي الفرنسي المعاصر (12). وبالفعل جرى تبذيلُ القتل والاغتيال وجرائم متنوعة، تحويلهما إلى أشياء اعتيادية في سورية، في سنوات صعود المجموعات السلفية، لأن الله يعطيهم الحق مهما فعلوا. وهذا الشعار نقيض ما يُنسَب إلى دوستويفسكي على لسان إحدى شخصياته، إيفان كارامازوف، من أنه إذا لم يكن الله موجوداً، فكل شيء مُباح (13)، حيث يكون الله هو الكافل الوحيد للتمييز بين المُباح وغير المُباح، أي للسلوك الأخلاقي. الفرق أن الله هو كافل الشر في الصيغة الدينية من الشر الاعتيادي، وليس الدولة والبيروقراطية وعقلانية تقسيم العمل المميزة لها.
والواقع أننا هنا حيال شكل للشر مغاير لذلك الذي عمل لايبنتز على تبرير الله رغم وجوده. هذا شر وجودي إن جاز التعبير، مُواكب للوجود البشري عبر الأزمنة وفي كل حال. أما مثالي الشر الديني المُشار إليهما فوق، فالفاعلون فيهما هم وكلاء دينيون، مبادرون إلى الشر بأنفسهم، ويبررونه بإيمانهم بالله وطاعتهم له. وهو من هذا الباب أقرب إلى الشر الاعتيادي أو المُبتذَل بحسب آرنت، من حيث أن هذا الأخير يُسوغ نفسه كذلك بالطاعة، طاعة القائد أو الأوامر العسكرية. هذا الشر الثاني سياسي، أو ديني سياسي، ومُمارسوه على كل حال ممن ينكرون التمايز بين الديني والسياسي.
وظاهرٌ أن الله يمكن أن يُستخدم لتبرير الجريمة كما لإدانتها. الأمر تابع لمبدأ مُسبَق: الضمير. شخصيات دوستويفسكي الأخلاقية، مثل إليوشا والأب زوسيما، تبدو ذات ضمير متنبّه مُفكِّر، اختارت أن تسنده إلى الله. لكن الإسلامية الحركية المعاصرة، وقريب منها في ذلك الأحزاب الدينية الإسرائيلية، والإنجيليون الأميركيون، اختارت قوة الله سنداً لعدميتها التي تُحوِّلُ الخلاص الديني إلى برنامج سياسي، فتُسوّغ الإبادة كما تفعل كل عقيدة للمطلق. أقوى العدميات في زمننا ليست تلك التي تنكر المعنى على الحياة (أو إمكانية المعرفة، أو إمكانية الحكم الأخلاقي)، بل التي تستند إلى مبدأ مطلق للتصرف بالحياة والأحياء، فتطلق يدها فيهما، العدميات الدينية. في عالم اليوم الواحد، تبدو الأديان المنشطة، بما فيها غير الإبراهيمية مثل الهندوسية والبوذية، أرضيات معنوية لكُره العالم لا لحبه، مثلما أرادت حنة آرنت مستندة إلى القديس أوغسطين، وبالتالي للإبادة لا لرعاية الحياة.
ويبدو أن ما يعطيه الدين للمؤمنين به من عالم خاص، يَشغلون مركزه ويسودون فيه، يُغنيهم عن رعاية عالم يعمّهم مع غيرهم، بل يُسوغ لهم كره هذا العالم العام. ولا ننسى أن العالم العام كائن حديث، عمره قرنان أو ثلاثة، أي متأخر عن ظهور أحدث الأديان بألف عام وأكثر. يبدو كذلك أن اليقين الذي يمنحه الدين يَحوُلُ دون ظهور الضمير، بالنظر إلى أن «اللحظة التي ولد فيها اللايقين كانت اللحظة التي ولدت فيها الأخلاق، ومعها ولدت الذاتُ الأخلاقية»، بحسب باومان (14).
المعنى ممكن والعبث موجود
وبمصطلح هذه المناقشة، قد يمكن القول إن العلامة الفارقة في تعريف الدين تتمثل في مبدأ حفظ المعنى أو كفالته، أي أنه ليس هناك شيء في العالم بلا معنى، ليس هناك ضياع للمعنى، أو عبث. يجري نفي العبث، لكن بثمن إيجاب الشر. على أننا لا نُدافع هنا عن فكرة أن الحياة عبث والعالم بلا معنى، بل عن أن في الحياة عبثاً وفي العالم غيرَ قليلٍ من اللامعنى. فما «معنى» مقتل أطفال؟ «ما ذنب الأطفال؟ كيف نُسوغ عذاب الأطفال...» (15)؟ أو تجويع مئات ألوف البشر؟ أو اغتصاب نساء ورجال؟ أو قتل عشرات الألوف بمجزرة نووية لم تكن ضرورية عسكرياً، حتى لو قبلنا بمنطق الضرورة العسكرية (16)؟ أو تنظيم معسكرات اعتقال يُقتل فيها الناس بالغاز وتُحرَق جثثهم؟ أو التعذيب المتفنن قبل قتل المُعذَّبين؟ بالعكس، لعلَّ الأساس الأمتن لنقد المعنوية الشاملة، في صيغها الدينية، هو حقيقة أن هناك الكثير من اللامعنى وضياعِ المعنى في العالم، على نحو يشكك في وجود عناية متعالية تسمح بكل ذلك. لطالما كانت المعاناة، أي ضروب الشر المختلفة في العالم، من أهم أسس نقد الدين (ومن أهم أسس نقد الدنيا كذلك).
والمسألة في سياقاتنا الراهنة ليست نقداً فكرياً للدين وعالمه المكفول والشر الوجودي المتأصل فيه، بل هي اعتراض سياسي وأخلاقي على ضروب المعاناة والعذاب التي يمارسها أو يبررها الدينيون (وغير الدينيين)، وهي ضروب كثيرة ومؤذية من الشرّ السياسي أو الديني السياسي. ولعلّه يربط بين الشرين إرادة الوكلاء الدينيين فرض نظام معنى فوقي، تؤهله قلة حساسيته للآلام البشرية إلى التساهل في التسبب بها أو حتى التحمس لإيقاعها في ظروف معينة. ما سبق قوله عن ثيوديسيا لايبنتز من أنها تفرض على المعاناة البشرية معاني لا تعتني بمن يعانون أو المعذبين، يصح على ضروب الثيوديسيا المتنوعة، الدينية وغير الدينية.
وما يَؤولُ إليه رفض الثيوديسيا هو وجوب أن يكون كل فعل عادلاً بذاته، لا يلتمس التبرير من غاية أكبر منه. وهذا هو مبدأ الضمير الحي، المُستقلّ عن الأديان والعقائد، الدينية وغير الدينية.
اللّامعنى
والحال أن المعاناة بالذات هي اللامعنى، اللامعقول الذي قد نعمل على صنع المعاني بالاشتباك معه، وبالصراع ضده. المعاناة هي اللامعقول من حيث أنها محسوس يستبدّ بنا في حالات اشتداده، كما حين نتعرض للتعذيب أو الاغتصاب أو نُعاني من ألم شديد، يحل كامل مساحتنا الشعورية، فيستبعدُ مَلكاتنا الأعلى، التفكير والتعقّل، أي عمليات صنع المعنى؛ ثم لأن سؤال المعنى يثور في مواجهة ضروب المعاناة الأقسى بالضبط لأنها غير مُبرَّرة، وتحتاج إلى تبرير. وقد نفقد عقلنا بالكلية إذا فشلنا في صنع المعنى في مواجهة أقسى عذابنا، فنصير نحن أنفسنا بلا معنى، استولت علينا عُجمة عذابنا. وبهذه الدلالة فإن المعنى صراع ممكن ضد اللامعنى أو المعاناة، لا يبدو أنه ينجح في إلغاء هذا، أو في بناء عالم بلا معاناة بالنظر إلى استحالة التغلُّب على العناء الوجودي، وفي صُلبه الموت وفقدُ الأحباب، فضلاً عن هاجس فنائنا الشخصي، ولكن يحدث أن تتحقق نجاحات محلية ومؤقتة في الحد من المعاناة عبر ما يطلعُ به البشر من قواعد وقيم ومؤسسات يُعوَّل عليها في الحد من أسوأ الشرور الأخلاقية (تمييزاً عن الشرور الطبيعية، الزلازل والبراكين وما إليها). صنع المعنى بالتالي هو من أوجه عملية صراع مع المعاناة، اشتباك مع وحشيتها ولا معناها، وليس عملية خطية سلسة، متفائلة وحُبّية. والرهان هو حياة تعني أو ذاتُ معنى، وبأقل قدر من الألم. فالمعنى ليس معطى سلفاً، ولا هو «هاجع» بانتظار أن نوقظه ليخفف من آلامنا، وإنما هو إضفاء من قبلنا، فعلُ إنشاء، ربما يساعد على التوجه في العالم والتقليل من إيلامه.
وليس صنعُ المعنى هو الشكل الوحيد للصراع ضد اللامعنى. الشكل الآخر هو العمل على تغيير الأوضاع القائمة على نحو يقلل من المعاناة. وهو ما ينفتح على فكرة إصلاح العالم، بما في ذلك الثورة، التي تقوم فكرتها على أن الإنسان يمكن أن يغير الواقع المُتّسم بالظلم والقهر والتمييز باتجاه أوضاع أعدل، بمعاناة أقل. ومن هذا الباب فإن على المعاني أن تعني من يعانون، لا أن تُفرَض على معاناتهم من فوق، على نحو يسلبهم حتى الصوت الشاكي. أظهر ماركس منطقاً في معاناة الطبقة العاملة في عصره، هو منطق الرأسمالية الساعية وراء الربح عبر الاستيلاء على فضلِ قيمة عملِ العمال، وبنى تصوره للمستقبل الاشتراكي والشيوعي على القضاء على هذه المعاناة. وقد أسهم هذا المعنى والحركات المتكونة حوله، الإصلاحية والثورية، في تقليل معاناة العمال في بلدان الغرب وفي الشرق، وإن يكن اقترنَ هنا بضروب أخرى من المعاناة، متصلة بتحول الماركسية إلى معنى متعالٍ على حياة من يعانون. وهذا لأن المعنى لا يُخزَّن ولا يدوم، إنه عملية صنع، وثيقة الصلة بضروب المعاناة الراهنة، ولذلك استقلال الضمير مبدأ حاسم. المعاني المُخَزَّنة تتحول إلى ثيوديسيات تبرر مبادئها، سواء الله أو الدولة أو المجتمع أو التاريخ. والضمير المستقل مستقل عن المعاني المُخزّنة، ويقضي بأن يكون كل فعل من أفعالنا عادلاً بذاته.
ثم أنه ليس هناك تقابل واحد بين المعاناة والمعاني، فهذه متعددة: تعدداً ذاتياً، يتصل بما إذا كنا نتكلم على حرمان يطال معاشنا (نجوع، نعطش، نعرى...)، أو سلامة أجسادنا (نُضرَب، نُعذَّب، نُغتصَب، تُقطَّع بعض أعضائنا...)، أو حركتنا وحريتنا (نُقيَّد، نُحبَس، نُمنَع من الخروج والعودة...)، أو قلوبنا (المنع من الحب، بتنوعاته)، أو عقولنا (حظر التفكير الحر)، أو أنفسنا (قمع الإرادة، الخيال، التذكر...)، وتعدداً يتصل بما نندرج ضمنها من تكوينات اجتماعية كالجنس والعمر والطبقة والعرق، ثم كذلك ما يتصل بما إذا كانت التجربة القاسية تحدث لنا لأول مرة أو هي متكررة. وحتى لو استطعنا إنجاز قائمة بضروب المعاناة المتنوعة، فليس لأي منها تكافؤ معنوي واحد، مثلما يكون للعناصر الكيميائية تكافؤ واحد أو اثنين، ونادراً ثلاثة، في تفاعلاتها مع عناصر أخرى. ويمكن لتجربة السجن على سبيل المثال أن تعني أشياء متعددة بحسب مواقعنا في النظر إليها، من داخل السجن منه أو بعد الخروج منه، أو من «المنفى» .(17) وقد جرى تأويل الهولوكوست بطريقتين على الأقل، تقرر واحدة أنه لن يجري مثل ذلك أبداً لليهود، وتحتم بالتالي قيام دولة يهودية وجيش يهودي وظهور «اليهودي الجديد»، «النافي للمنفى» (بعد يهوديّ المنفى القديم المسكين الذي سيق إلى المحرقة كالخروف) ،(18) وهو التأويل السائد في ألمانيا، تثابر على ترسيخه «سياسة الذاكرة» الألمانية، وفي إسرائيل بطبيعة الحال؛ والطريقة الأخرى ترى أنه لا يجب أن يجري مثل ذلك لأيٍّ من البشر، وهو ما كان من شأنه أن يُكرّم الضحايا اليهود بأن يصيروا بمثابة فادٍ أو مسيح جمعي ،(19) بما يسهم في إنقاذ فرص البشرية في مستقبل مختلف.
إلى ذلك ليست المعاني وليدة المعاناة حصراً، فهي يمكن أن تنشأ عن الحب، عن التعلم، عن التفاعل الاجتماعي، عن العمل، عن السفر... ليس المعنى متصلاً بسجّل واحد، سجّل المعاناة، إلا إذا أخذنا الأخيرة بدلالة واسعة جداً: عناء الوجود، أو الحياة كتجربة وجود وفناء. العلوم والآداب والفنون والأديان والفلسفات هي نظم معنى غير متصلة حتماً بالمعاناة، ومنها ما يسعف في تحمل «تكاليف الحياة»، وفي الغالب لها عائد من الرسوخ في العالم.
على أن المعاني التي نصنعها حول المعاناة تنفتح على آفاق فكرية وقيمية وعملية إصلاحية وأكثر توافقاً مع التقدم الأخلاقي الذي هو نقطة الضعف في التقدم الحديث والمعاصر .(20) ولعلّ في النظر في العلاقة بين المعاناة والمعنى ما يحيي تقدم الأخلاقيات، ما يربطه بالحياة، ويؤسس في سياقاتنا الحديثة لنقلة في الثقافة تقربها من تجارب الحياة الفعلية، خلافاً لما هو الحال في موروثيْنا الديني والحديث على حد سواء.
العناية
وغير الثورة والإصلاح، وربما في شروط كارثة إخفاق ثوراتنا وتحللها كحالنا اليوم، قد يتحقق لنا قدر من تقليل المعاناة عبر بناء مجتمعات عناية، تضامنات حرة تستهدف العون المتبادل والمساعدة. قد يكون مجتمع المعاناة جماعة صغيرة، بيئة صداقة تجمع بضعة أفراد يتشاطرون محنة ويطورون حساً بالشراكة بأثر المحنة، أو قد تكون جماعة أوسع. ومثلما العلاقة بين المعاناة والمعنى ليست خطية، فإن علاقتهما معاً بالعناية لا يتحتّمُ أن تكون كذلك. ما قد نحصل عليه من افتراض عناية متكونة حول معنىً متكونٍ هو ذاته حول معاناتنا، أي تعريف جماعة العناية بمعاناتها وبمعنى ثابت مُستخلَص منها، هو عصبة أو طائفة أو فرقة ناجية. ومن أبرز مجتمعات العناية المتكون حول معاناة ومعنى خاصين في عصرنا إسرائيل التي عملت على الدوام على احتكار وراثة الهولوكوست وتأويله، وعلى بناء مظلومية لا تتقادم حوله، «مظلومية وراثية» .(21) ما يميز المظلومية الوراثية أنها بالتدريج تصير معنى خارجياً، مفروضاً على ضروب راهنة من المعاناة لا تشبهها أو لم تعد تشبهها. لا يشبه الهولوكوست بأي شكل ضروب معاناة اليهود الإسرائيليين اليوم، على نحو ما لا يكفّ عن تأكيده اليمين الإسرائيلي، وإن كان يشبه شيئاً فهو معاناة الفلسطينيين بالأحرى. وليس هناك وجه لأن يُضاف من يمكن أن يسقطَ من إسرائيليين قتلى إلى أعداد ضحايا الهولوكوست، بل بالأحرى من يسقطُ من الفلسطينيين. هذا يبدو كفراً أو أشد من الكفر في عين الناطقين باسم فرادة الهولوكوست من إسرائيليين وألمان وغربيين، هم أنفسهم من يستحضرون الهولوكوست كل مرة تمكَّنَ فلسطينيون من استهداف إسرائيليين، مثلما حدث في 7 تشرين الأول 2023. تُستخدم حجة نَسبنة الهولوكوست وتتفيهه انتقائياً حسبما إذا كانت في سياقات نقدية لإسرائيل (حيث تُرفَض) أو سياقات تُسوغ مَسالكها الإبادية حيال الفلسطينيين (حيث يُرحَّب بها أو يُسكَت عنها). النَسبنة والتتفيه هي تشبيه الهولوكوست بأي ضروب من المعاناة البشرية حدثت هنا وهناك، على نحو يضمر أن الشر المطلق هو الهولوكوست، وكل ما دون ذلك أقل أهمية، «تافه»، وما يعود على إسرائيل بخيرية مطلقة رأيناها بتعصّب وبشاعة بعد 7 أكتوبر 2023. لكن الخير هو ما نفعله من معروف للغير، الغريب بخاصة، ولا نتحلى بصفة أخيار لأنه فُعِلَ بنا كثيرٌ من الشر. قد نكون ضحايا ومظلومين الآن بالذات، لكن هذا لا يعني وحده أننا أخيار عادلون. العدل والخيرية هما فعلُنا الإيجابي في العالم، وليس شيئاً يتبع كوننا ضحايا. لقد أُنتِجت إسرائيل كقبيلة ناقمة أبدية عبر بناء مجتمع عناية بوراثة مظلومية الهولوكوست، حتى بعد أن لم يكد يبقى أحياء من الناجين من تلك المظلمة الرهيبة. تُرى، حتى متى يبقى الإسرائيليون الورثةَ الحصريين للهولوكوست؟ يثير تصور المظلومية الوراثية سؤالاً وجيهاً في شأن ما إذا كانت المظلومية تخصّ حصراً من وقع عليهم الظلم مباشرة، فلا وجه لتظَلُّم أعقابهم. هذا بالفعل طرح ضيق، إذ أن أبناء من تحطمت حياتهم بصور مختلفة، وعموم الجيل اللاحق لمن مروا بتجارب جمعية شديدة القسوة، يتأثرون بشدة بهذا التحطم، ما يُضفي بعداً من الوراثية لا يمكن نكرانه على المظلومية .(22) الواقع أن الصدمات (الترومات) الفردية والجمعية تغير بنية الزمان والعلاقة بما قبل وما بعد ،(23) فلا يكون للزمان الكثافة نفسها والثقل نفسه حين يعقبُ صدمة كبيرة مثلما عند من لم يحدث لهم ذلك. الصدمات تُبقينا معاصرين لزمن حدوثها، كأن الزمن يلتصق بلحظة الحدوث لا يبرحها.
السؤال: كم تدوم وراثة المحن أو الأذيات الجمعية الكبرى؟ جيل؟ جيلين أو ثلاثة؟ إلى الأبد؟ هناك مترتبات سياسية مباشرة على السؤال. فإذا كانت المظلومية اليهودية وراثية حتى اليوم وإلى الأبد، فإن كل يهود يُقتَلون إنما يقتلون لأنهم يهود وليس كإسرائيليين، منسوبين إلى دولة بعينها، على ما هو الميل السائد في ألمانيا، وعلى ما استطاع مايكل والزر بين آخرين أن يقول عن ضحايا 7 أكتوبر ،(24) ويكون كل قتيل منهم في هذا الحالة إضافة إلى ضحايا الهولوكوست. في واقع الأمر لقد قُتلوا لأنهم إسرائيليون، وليس حصراً لأنهم يهود؛ ويمكن بالتأكيد الاعتراض على قتل وأسر المدنيين منهم، لكن لأنهم مدنيون وليس لأنهم يهود حصراً (بعضهم لم يكونوا يهوداً)، وهو ما يوجب إدانة قتل المدنيين الفلسطينيين بوضوح ودوماً. لكن مجتمع العناية الإسرائيلي المُعتنى به غربياً يستولي على معاناة الهولوكوست، ويتكوّن حول المعنى المغلق المُستخلَص منها: لقد قُتل اليهود في الهولوكوست لأنهم يهود (وهذا صحيح)، ولذلك فحيثما قُتل يهود فإنما فقط لأنهم يهود (وهذا غير صحيح قطعاً). والمعنى أو العبرة المُستخلَصة: لن يحدث ذلك لليهود مرة أخرى!
وفي مجالنا المشرقي تجنح الطوائف لأن تكون مجتمعات عناية، متشكلة حول معانٍ عقدية تخصها، وحول مظلوميات وراثية بدورها، معاناة موروثة يُحرَص عليها ليس وفاء لضحايا سقطوا في ماض قريب أو بعيد، بل ضماناً للتماسك في الحاضر، ولمواقع أفضل بالتالي في الصراعات على السلطة والنفوذ. يمكن التفكير في العُصَب الإسلامية المختلفة بأنها مجتمعات عناية استبعادية، تقوم على معنى عَقَدي يخصها، وعلى مظلومية أو نظام معاناة خاص. وهي قادرة على الإيذاء والتسبب بمظالم كبيرة مثلما نعرف من سيرة الإسلامية السورية بين 2013 واليوم.
والإسلامية الشيعية هي الطائفة الناقمة بلا نهاية المُتكوِّنة كجماعة عناية حول مظلومية وراثية عمرها فوق ألف وثلاثمائة عامة، ولا يبدو أنها يمكن أن تتقادم أو تنتهي في أي يوم. إنها مظلومية فوق تاريخية أكثر حتى من الهولوكوست، لا تدخل في مقارنة مع أي عذابات أخرى، ولا يُخفِّفُ منها، ومن الثأر الواجب لها، مرورُ الأزمنة وتَقلُّب الأيام. لكن هذا ليس خاصية ذاتية لتلك المعاناة، بل هو نتاج إعادة استيلاء عليها من قبل الشيعية السياسية المعاصرة، وبخاصة اليوم كأداة من أدوات السياسة الخارجية الإيرانية ذات المطامح الامبراطورية غير المكتومة. إيران وأدواتها مصدر معاناة كبيرة سلفاً في العراق وسورية ولبنان واليمن، وفي إيران نفسها، لكن وظيفة المظلومية وبناء مجتمع عناية شيعي عالمي تتمثل بالضبط في حجب الأذى الهائل للنظام الإيراني وأتباعه. يبقى المقاومون لإيران ومحمييها ورثةَ يزيدٍ أياً يكون موقعهم الفعلي، حتى لو كانوا يموتون جوعاً بحصار ميليشيات شيعية، أو يُهجَّرون من بلداتهم أو يُقتلَون في مسلسل مجازر لا ينتهي.
وتتكون الطائفية العلوية كذلك كمجتمع عناية حول اضطهاد قديم، يُسوِّغُ بدوره أي اضطهاد يوقعه مجتمع العناية هذا بأحفاد مُسببي العناية المُفترَضين القدماء، ممن يحدث أن يُوصَفوا بأنهم أحفاد ابن تيمية. لكن هنا أيضاً، الوراثة والاستمرارية مصنوعة سياسياً عبر إعادة تأويل واستيلاء، وليست شيئاً ذاتياً في معاناة ماضية، أو في معنى/ عناية متكونين حولها.
ما يمكن تسميته شوفينية المعاناة، أي احتكار الألم، والمطالبة باسمه بحقوق أكثر من الغير، هو من المخاطر المُرجَّحة لمجتمعات المعاناة أو جماعات المظلومية. وهي المجتمعات التي تجنح أكثر من غيرها إلى التسبب بمعاناة هائلة لمن هم خارجها.
مركزية المعنى
لا يبدو كافياً أن ننتقد عقيدة المعنوية الشاملة أو العقيدة التواؤمية، بصيغها الدينية أو العلمانية، بمجرد إثبات اللامعنى والخسارة والمأساة في العالم. تلزم تحويلة أساسية في نظام العلاقات ضمن ثالوث المعاناة/ المعنى/ العناية، على نحو يقلب العلاقة بين المعاناة والمعنى، بحيث لا ينشأ المعنى من المعاناة بل هو ما يُنشئها بالأحرى. ما يوجد حين لا نمثل تجاربنا أو نصنع لها المعاني، هو عذاب صامت، مبدد، معزول، غير واع. بصنع المعنى تنطق معاناة خرساء، فالمعنى هو ما يجعلها معاناة إنسانية، معاناة لنا وتعنينا، وهو ما ينفتح كذلك على النظر في جذورها وأسبابها وسُبُل الحد منها. ومن شأن ذلك أن ينقل مركز ثالوث المعاناة والمعنى والعناية إلى صُنع المعنى الذي هو فاعليتنا الراهنة، وليس المعاناة، وهي أسوأ ما حدث لنا، وبالتالي يكون المركز هو الحاضر وليس الماضي، وفعلنا الخلاق وليس ألمنا الرهيب. وهو ما من شأنه كذلك أن يُوجِّه جماعة العناية المُحتملة باتجاه مُعاصَرة معانيها لمعاناتها الراهنة، وليس نحو الماضي ومواريثه.
فلأننا منتجون للمعاني في صلة وثيقة بمعاناة فعلية راهنة، ستبدو الضروب الأقسى من العناء البشري معاناة غير مقبولة ولا يمكن تطبيعها. بالعكس، حين ينفصل المعنى عن المعاناة، أو حين يفرض على المعاناة الفعلية معنىً سابق لها ومتعالٍ عليها، فإن هذا يُخمِد صوت من عانوا ويعانون فعلاً، وقد يطبِّع المعاناة على الطريقة الدينية بجعلها ابتلاء أو «مكروهاً» نحمد الله عليه. أولوية المعنى تعني أولوية الفعل الواعي وليس الانفعال المؤلم، والبشر كصُناع معانٍ وأفكار وليس كمُسببي أذى ولا كقبائلِ عناية، والحاضر وليس الماضي، وما يجمعنا بغيرنا وليس ما يحبسنا داخل أنفسنا أو بين أهلنا، والتوجه نحو المستقبل والمختلف وليس الركون إلى حاضر تكراري؛ أبد.
المعنى، بهذا المعنى، رابطتنا بغيرنا، وليس رابطتنا مع المعاناة وحدها. أي هو كذلك من نِصاب الاجتماع. العذاب ذاته يتعيّنُ تعريفه اجتماعياً وسياسياً، أي كنسبة إلى أوضاع معينة. هذا بدوره ما يزحزح النقاش نحو شروط الظلم، أو التسبب بالمعاناة والعذاب، وما يتوافق مع النضال الفعلي لمقاومة الظلم والمتسببين به. حول ذلك يمكن أن تتشكل جماعة عناية مفتوحة، تضامنية، توحدها مقاومة الظلم والتمييز وليس وضع الضحايا حصراً.
وعليه يمكن تصور شكلين لمجتمع العناية: شكل مغلق يتمركز حول المعاناة ويقوم على احتكار تأويلها وبناء مظلومية حول هذا التأويل، وشكل مفتوح يتمركز حول المعنى ويقوم على مقاومة الأوضاع والشروط المتسببة بالمعاناة، ويرحب بشركاء آخرين. هذا ما يليق بمستقبل إنساني غير قَبَلي وغير طائفي، غير قومي وغير ديني كذلك.
إسرائيل مثالٌ مفيدٌ هنا أيضاً. هناك مركزية للمعاناة، الهولوكوست والبوغرومات الأسبق في أوروبا الشرقية، واللاسامية التقليدية مسيحية المنشأ، ثم اللاسامية الحديثة قومية المنشأ. هذه المعاناة تُرفَع فوق التاريخ وفوق كل معاناة إنسانية في التاريخ، وتُحرَس من المقارنة والإدراج في التاريخ، على نحو يُبقي اليهود الإسرائيليين جماعة مهددة الوجود باستمرار، ناقمة ومحقة في عين نفسها والموالين لها باستمرار مهما فعلت، وهو ما يدفع ثمنه أساساً الشعب الفلسطيني. فمركزية المعاناة هنا ليست حصراً من نِصاب وعي الذات، بل هي من نِصاب السياسة والحرب، وقد توافقت مع حرب مستمرة على النضال الفلسطيني، وعلى الوجود الفلسطيني ذاته. بل يمكن تعريف إسرائيل بأنها الكيان السياسي لجماعة عناية قائمة حول أولوية المعاناة وليس المعنى، أو حول تهويد المعنى تبعاً ليهودية المعاناة. وكما سبق القول، تجري المُصادرة على الصفة المطلقة لهذه المعاناة بما يُضيّق المعنى المُستخلَص منها ليقتصر على ألّا يحدث هذا لليهود مجدداً. فرادة الهولوكوست، وهي عقيدة مستقرة في إسرائيل وألمانيا ودوائر أوسع، تقوم على أولوية المعاناة على المعنى، أو على أن المعاناة مطلقة إلى درجة أنه لا بدّ للمعنى من أن يدور حولها ويُبرّر نفسه بها. ولعله لذلك جنحت السياسة الإسرائيلية باطّراد نحو اليمين والماضوية، بينما تراجعت المعاني والأفكار العالمية (يونفيرسال) التي كان الشتاتُ اليهودي بيئة خصبة لها في القرن التاسع عشر ومعظم القرن العشرين، وبسببها كان يحدث أن يُتَّهم اليهود بأنهم لا وطنيون حتى الحرب العالمية الثانية. ثم إنه لكونها جماعة معاناة غيورة، مُتكوِّنة حول إبادة أُضفيت عليها الفرادة والإطلاق، فإن إسرائيل تحمل في جيناتها برنامجاً إبادياً، نراه ينبسط في التاريخ عبر الأزمات العارضة والمحتومة في آن. وما قد يمكن بناؤه على ذلك هو أن التمركز حول المعاناة، حول ما وقع لنا، خطيرٌ جداً ويحمل في ثناياه برنامج انتقام، ما لا يقلُّ عن إيقاعِ مثل ما وقعَ علينا على غيرنا. خصوصية إسرائيل أن إيقاع ما قد يُعادل الهولوكوست يقع على من لا ذنب لهم في الهولوكوست، الفلسطينيون، والعرب، بينما يعرض المسؤولون عن الهولوكوست، الألمان، حماسة خاصة لهذا التحويل أو الإسقاط .(25)
بالمقابل من شأن مَركَزة النقاش بشأن الهولوكوست حول المعنى، أي حول تأويل كريم ومفتوح للجريمة المَهولة، أو حول معنى يفيد بأنه لا يجوز لمثل ذلك أو ما يشبهه من قريب أو بعيد أن يحدث لأي كان، أن يفتح الباب لجماعة تأويل لا تُطابق جماعة المعاناة- العناية، جماعة تأويل عابرة لجماعات المعاناة- العناية. وهو ما يقتضي نفي وراثية المعاناة أو المظلومية، الوراثية الدائمة على الأقل، والأولوية الأخلاقية لإزالة ضروب المعاناة الراهنة على حساب التأكيد المُتكرّر ألف مرة على أن معاناة الأمس فريدة ولا مثيل لها. وفي هذا التوجه نحو الحاضر ما يكسر احتكار تأويل الماضي وحصره بيد ورثة بُخلاء. إسرائيل احتكارٌ لتأويل الهولوكوست يمنع الآخرين من المشاركة فيه. هذا لا ينبغي أن يكون مقبولاً من أي كُرماء عادلين في عالم اليوم. الهولوكوست أهم من أن يترك لإسرائيل، لجماعةِ عنايةٍ عنصرية ناقمة.
جماعات
وقد يصلح ما تَقدَّمَ مُنطلقاً للتمييز بين الجماعات حول ما إذا كانت تتكون أساساً حول المعاناة، أو حول المعنى، أو حول العناية.
يتكون حول المعاناة تصورٌ لجماعة وراثية، منفعلة وعاطفية، يُحيل إلى القبيلة والطائفة والقومية. الأمم كلها والطوائف كلها تتكون، جزئياً على الأقل، حول استحضار مآسي التاريخ ومظلومياته (لكن كذلك حول عبقريتها الخاصة وتَفوُّقها متعدد الأوجه على غيرها). وهذا لا يعني أن المعاناة تسبق زمنياً تَكوّنَ جماعة العناية، فما يجري عادة هو أنه يُعاد بناء التاريخ كي تبرز منه سرديات المظلومية والمعاناة الخاصة لخدمة النخب القومية أو الطائفية أو الدينية إلخ.
ربما تنشأ الأديان كمعانٍ، دعوات فكرية وأخلاقية تتكون حولها جماعاتُ معنى، هي المؤمنون بها، يتميزون كذلك بعنايتهم ببعضهم، بضرب من الأُخوّة بينهم. لكن يبدو أنه ما إن تتكون الجماعة حتى يتحول المعنى الحي إلى «سُنّة»، منهج أو عقيدة تعقد المؤمنين على بعضهم، وقد تُفرَض على ضروب المعاناة الراهنة، أي تتحول وظيفتها نحو صون الهوية وبعيداً عن الفعل العادل. هناك معانٍ لا تتكون حولها جماعات، أفكار المثقفين والفلاسفة والأدباء، فلا تتحول هذه المعاني إلى سُنن وعقائد، أو تقاليد.
ولا تُسجّل الأحزاب السياسية فرقاً عن الجماعات الدينية من حيث تكوُّنِها كجماعات معنى، لكن حياة الحزب السياسي مرهونة بإبقاء معناه أو معانيه راهنة، أي بألّا تتحول إلى تقليد وعقيدة. الأحزاب التي تفشل في ذلك تتحول إلى ما يشبه فرقاً دينية، لكن يبدو أنها تموت بعد حين لا يطول كثيراً، خلافاً لكثير من الفرق الدينية.
وحول العناية وبالانطلاق أساساً منها ظهرت في الزمن الحديث والمعاصر، وبدءاً من الغرب، التطلعاتُ الاشتراكية. ولعل من أوجه الأزمة العالمية اليوم افتقارنا إلى رؤى ومشاريع حول العناية، تتجاوز النطاقات القومية. بل تبدو مثل هذا المشاريع ضامرة حتى في النطاقات القومية. وفي مجالنا الثقافي السياسي، ليس ثمة ضمور فقط في تصورات العناية، بل ويغيب هذا البعد من تفكيرنا النظري والسياسي، ولا يُفكَّر حتى في الشأن الديني من منظور العناية بالعموم، أو حتى من منظور العناية الطائفي الخاص بالمؤمنين. نحن في شأن العناية وأفكارها عالةٌ على غيرنا.
المعاناة مَدارها نحن حصرية مغلقة؛ والمعنى يدور حول المعنويين من أنبياء ومفكرين ومصلحين؛ والعناية هي ما يمكن أن تقوم عليها اليوم دعوة تحررية ثورية تحاول أن تتجاوز المعنويين والمُعاناتيين معاً، باتجاه إنسانية تعتني بنفسها وعالمها. فإذا جاز للمرء الحكم، فإن أخطر الجماعات هي المتكونة حول المعاناة، حول التجربة الأسوأ في خبرة هذه الجماعات. والاجتماع المُعافَى هو ما يمكن أن يقوم على عمليات العناية وصُنع المعنى.
وبنظرة مغايرة، قد يمكن القول إن ثالوث المُعاناة والمَعنى والعِناية يستدعي ثلاثة جوانب مختلفة من الكائن البشري. جانب الحساسية والجسم ووظائفه وأوضاعه، فجانب الأفكار والكلمات التي نعبر بها عن أنفسنا ونتواصل بها مع الآخرين، ثم الجانب الاجتماعي المتصل بروابطنا بغيرنا وتبادُلنا العنايةَ مع الغير. الواحد منا هو هذه الثلاثة معاً، حساسية وفكر واجتماع.
مُفارقة المعنى
ننفصل عن المعاناة بالمعنى. يوفر لنا المعنى عالماً مستقلاً عن عالم المعاناة والعذاب، نحافظ فيه على سوائنا. وقد نفكر في كل من أنظمة المعنى، بما فيها الأديان، كعالم، يتيح لمعتنقيها الانفصال عن كون قاسٍ، مُعذِّب، وفوضوي. فإن صح ذلك، فإن ما يعطيه الدين والإيديولوجيات الكبرى للمعتنقين هو عوالمُ وليس عُلوماً، عوالم مُنظَّمة قابلة للتوقع، وليس معرفة صائبة يمكن اختبارها. ولعله لذلك بالذات فإن النقد العلمي للدين محدود الفاعلية. ما يتعين نقدُهُ هو بالأحرى العالم الديني، العالم المنفصل عن العالم الفعلي الذي نعيش فيه، وكذلك هذا العالم الفعلي، عالم العذاب والفوضى، الذي يدعم الطلب على العالم الديني.
وفي هذا ما يجعل المعنى بؤرةَ مُفارَقة: فمن جهة لا سبيل لنا بمعان منفصلة عن المعاناة والعذاب إلى التغلُّب عليهما أو تحسين تَحكُّمنا بهما، والثيوديسيات الدينية وغير الدينية تُهين البشر والمعاناة البشرية لقلة حساسيتها حيال تنوع المعاناة وتجددها وصِفتها التاريخية، ومن جهة ثانية لا تنجح المعاني المتصلة بتجارب مُعاناتنا في السيطرة على هذه التجارب إن لم تَنَل استقلالها عنها وتجنحَ إلى تشكيل عالم منفصل عنها.
وقد يمكن التفكير في هذه المُفارقة بالاستناد إلى مفهوم الاغتراب الماركسي، حيث تنفصل نواتج عمل الإنسان عنه وتَمثُلُ كأقدارٍ خارجية مُتحكِّمة به. تفكير ماركس يُحيل إلى مجال الإنتاج المادي، لكن لا شيء يمنع دون قول شيء مماثل عن الإنتاج المعنوي، حيث تنفصل المعاني التي نُنتجها عنا وعن تجاربنا، وقد تتحول إلى عقائد مُقدَّسة لا تُمّس أو مبادئ كلّية الصحة لا يجوز تحريفها.
ولعل من أوجه مفارقة المعنى أنه حين يغترب المعنى في عقائد وأديان يصير جزءاً من العالم الفعلي، عالم العذاب والفوضى والألم، قوة متسلطة قاسية لا تشعر. يبدو الإسلام السُنّي اليوم في وضع كهذا.
وما قد تكون أنسبَ مُعالجة لهذه المفارقة ربما تتمثل في الحركة المستمرة بين العالمين الذين تكلمنا عليهما للتو، نقد عالم المعاني الكبيرة التي تُغلِّب تبريرَ نفسها على التقليل من الألم في العالم، ونقد عالم الألم والعذاب الذي يُبقي الحاجة حية للمعاني الكبيرة. المسألة هي تقريب عالم المعاني من عالم العناء، فكر وفن وأدب وعلم يساعد في أن نكون أقلَّ اغتراباً عن العالم.
لكن إن كان المعنى لا يفعل إلا إذا كان عالماً منفصلاً عن عالم المعاناة، فهل من سبيل إلى هذا العالم الأخير؟ كلّ السبيل. من يقولون إنه ليس هناك شيءٌ خارج النص، وأولهم فيلسوف محترم مثل جاك دريدا، يبدو أنهم لا يعرفون العذاب والجوع والألم والإذلال والانتهاك المباشر، ربما نسوها لأنها لم تَعُد في عالمهم. مباركٌ لهم، لكن هذا العالم الأخير ليس موجوداً فقط، وإنما هو الموجود الحقيقي، تحديداً بصفته ما يُعاني ويَتعذَّب. ولأنه كذلك فإنه سندنا في مُساءلة عالم المعاني المخزنة عن معنى وجوده.
معنى المعنى، أو النص، يقع خارج النص، في أجسادنا وأحوالها، في ما قبل النص أو تحته من عويل وصراخ لا يبين، من رَعدة وارتجاف، من تقصُّف ركب ونَشفان ريق من الرعب، من الإغماء وفقدان الوعي، من الغيبوبة، ومن احتباس الكلمات وصمت الموت؛ ثم كذلك في ما فوق النص من تجارب الروح مهما أمكنَ لذلك أن يبدو تقليدياً، من جذبة وانخطاف، من صمت عُلْوي؛ وهو من وجه آخر يقع في العناية التي قد نبذلها لبعضنا، تُخفِّفُ أوجاعنا وتسند أنفسنا وتساعدنا على الاستمرار في كلامٍ يعني.
العدمية
بينما تعترض هذه المناقشة على المعنوية الشاملة، أو العالم المكفول، سواء كانت الكفالة دينية أو علمانية، وبينما تقر بوجود غير المعقول والعبث والخسارة المحض، فإنها كذلك تعترض على اعتبار غير المعقول والعبث، العذاب والأذى، الشر، أشياء ثابتة في العالم لا تتغير. بقدر ما نعترض على نسبة صفة وجودية (أنطولوجية) للمعنى على طريقة فرانكل أو غوسدورف، نعترض كذلك على نسبة الصفة نفسها للّامعنى. من ينكرون المعنى وجودياً هم العدميون، حيث «لا شيء حقيقي وكل شيء ممكن»، على ما عنون بيتر روميرانتسيف، وهو أميركي روسي الأصل، كتابه عن روسيا بوتين .(26)
لكن ليست كل عدمية هي عدمية مذهبية أنطولوجية. يمكن للعدمية أن تكون سياقية وقِطاعية، عملية نفي للمعنى في سياقات محددة، مثل العدمية السوداء في الولايات المتحدة، وهي تُعرّفُ نفسها برفض سياسة الأمل التي مَثَّلها مارتن لوثر كنغ ، وتراها ضرباً من تَواؤُمٍ مع نظام أميركي قائم جوهرياً على نفي الأفارقة الأميركيين، ومثل العدمية الإسلامية التي تنفي معنى العالم الحديث والمعاصر وتعمل جاهدة من أجل تدميره دفاعاً عن الله. دفاع باطل، يجب القول، ليس فقط لأن الله أجلُّ من يدافع عنه فانون ضعفاء، بحسب ما يقتضي المعتقد الديني لهؤلاء بالذات، وإنما لأن هذا الدفاع ليس دفاعاً عمن يعانون، ليس مسعى من أجل العناية ولا حتى على نطاق إسلامي، بل هو مسلك نرجسي يفرضه على من يعانون أناس يصادرون على معنى كلي الصلاحية لعقيدتهم هم بوصفها المعنى الشرعي الوحيد للعالم، ونفي كل معنى آخر لا يتوافق معها. هنا نرى أن النفي العدمي للمعنى ليس ثورياً، بل هو تآمري ونخبوي وتدميري. في مقالته ضمن ملف أيوب الذي تَقدَّمت الإحالة عليه، يقول صفوت عادل مرزوق بحق إن «تقوى أيوب الثائر [التي] تؤكد على قول الصدق أمام الإله أقومُ بكثير من التلوّن بتقوى الشكر في الكلمات بينما يريد القلب أن يشتكي». معلومٌ أن أيوب رفض لوم أصدقائه له على ثورته أمام الله وإصراره على عدم الصمت، طالباً من الله شرحاً لما ألمَّ به من معاناة مَهولة. يُمثّل أصدقاء أيوب بالمقابل ذلك الدفاع الباطل عن الله بعبارة مرزوق نفسه .(28)
وليست بعيدة عن ذلك العدمية الروسية الراهنة المتجهة مثل نظيرتها الإسلامية إلى نفي العالم الحديث وقيمه بوصفه ووصفها غربييَن ،(29) على ما لا يكفُّ عن القول ألكسندر دوغين، القومي الروسي المتطرف. هذه العدمية المُعاصرة تدميرية، موجهة ضد العالمية، مستندة في ذلك تحديداً إلى الدين والتقاليد والماضي. وهي في ذلك على النقيض من العدمية الروسية الأقدم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وقد كانت عدمية ثورية أنكرت النظام القيصري، وصولاً إلى اغتيال القيصر ألكسندر الثاني عام 1881.
ولا يتبيّنُ المرء فارقاً بين النفي الألماني الجذري لفلسطين وبين العدمية الإسلامية في علاقتها بالغرب المعاصر. ألمانيا عدمية ومتطرفة حين يتعلق الأمر بفلسطين، وهذا بقدر ما إنها جعلت من علاقتها بإسرائيل علاقة وجود. ألمانيا مريضة بتاريخها غير البعيد، وهذا مفهوم؛ ما ليس مفهوماً أن يُجعَل هذا المرض، هذه العقدة في التكوين النفسي التاريخي الألماني، معياراً للعافية والسواء على صعيد أوروبي وعالمي. ليس كذلك. هو مرض بالضبط بقدر ما إن العدمية الإسلامية تعني أن الإسلام مريض، وبقدر ما إن العدمية الروسية المعاصرة مرضُ روسيا. ومثلهما هي مُوجَّهة ضد العالمية، وذات طابع قَبَلي وماضوي.
هل هناك ما يُسوِّغُ وصف العدمية على هذه التكوينات الفكرية النفسية التاريخية؟ أجده مُسوَّغاً من حيث أنه ينفي المعنى عن جوانب مهمة من الوجود في العالم المعاصر. وهو يبدو متصلاً في الحالات الثلاث المذكورة بضروب من المعاناة أو العذاب، جرت مُصادرتها نخبوياً، وفُصلت كلياً عمّن يعانون، فصارت مُسوِّغَ الدولة في ألمانيا، والإسلام الصحيح لدينا، والروح الروسية في روسيا.
خُلاصة،
تدعو هذه المناقشة إلى اشتغال أكبر على ضروب المعاناة حولنا، فهي ما تتوافق مع التفكير الملائم، ومع وثاقة الربط بين الأفكار والأخلاقيات في مجالنا. المعنى عملية صُنع وإضفاء وليس شيئاً كامناً في المعاناة في كل حال، ما علينا إلا أن نَستولده منها مثلما يُستولَد الجنين من بطن أمه. وليس لتجارب المعاناة المعنى نفسه دوماً، فالأمر مختلف بحسب مواقعنا وذاكراتنا ومساراتنا الشخصية وتجاربنا العامة وتاريخ تمثيلاتنا السابقة. المعنى هو ما يُنتِجُ المعاناة، يحولها من ألم مُبهَم أعجم إلى تجربة لنا، يمكن أن نشاركها مع غيرنا، ونتبادل معهم العناية. لكن المعنى، وإن كان وثيق الارتباط بمعاناة حية أولَ أمره، ينزع إلى الانفصال عن المعاناة، والتشكُّل كعالَم مستقل، حتى ليغرّب الناس عن معاناتهم وآلامهم. وفي العالم ضياعٌ كثير وعبث، وإن لم يكن العالمُ ضياعاً وعبثاً. ومن المهم اليوم الاشتغال أكثر على تصورات العناية وربما عبر تجارب في العناية. هذه حاجة ملحة في مجالنا وفي العالم، ولعلها الترياق الأنسبُ ضد العدمية، هذه التي تأخذ في زمننا أشكالاً دينية أساساً.
هوامش:
عنوان كتاب لغوتفريد لايبنتز، الفيلسوف الألماني، صدر عام 1710، ومعناه الحرفي تبرئة الله أو تبرير الله، والعنوان الفرعي للكتاب يقول: مقالات في خيرية الله وحرية الإنسان وأصول الشر. ويتطلع البحث إلى تبرير الله في عالم وفير الشرور، لكنه في واقع الأمر يؤول إلى تبرير الشر في عام يحكمه الله القادر على منع وقوعه.
الاقتباسات من مقالة فؤاد حلبوني في ملف نشر في الجمهورية نت، من إعداده مع اسماعيل فايد عن سفر أيوب. المقالة متاحة هنا.
الإحالات هنا إلى كتاب فيكتور فرانكل: Man’s Search for Meaning, Beacon Press, Boston, 2006 P83.
المرجع نفسه، ص 143.
نفسه، ص 151.
نفسه، ص 10.
نفسه، ص 137- 154.
جورج غوسدورف: الإنسان الرومنطيقي، ترجمة محمد آية ميهوب، ومراجعة محمد محجوب، دار سيناترا، معهد تونس للترجمة، 2018. ص 226. والكتاب دفاع عن رومنطيقية دينية وصوفية ضد «الانفصالية» التنويرية ومركزية العقل.
من مناقشة على زوم بعنوان «Theodicy and the Problem of Meaning» بمشاركة كل من بيكو غراي، زينة العظمة، كرستينا سمكو، وأدارتها ميراي فيليبس. المناقشة متاحة هنا.
آنيته كيهنل: العيش بطريقة مختلفة، ترجمة: حسام شحادات، مشروع كلمة، أبو ظبي، 2023. ص 337. وكان الأصح القول: المسيحيين القويمين وليس الأرثوذكس، كي لا يلتبس الأمر بالمسيحية الأرثوذكسية أو الشرقية.
كتابها: Eichmann in Jerusalem, A report on the Banality of Evil, Penguin Books, 2006.
يجدها المرء في صيغة مختلفة عند زغمونت باومان: «إذا كان هناك إله واحد، فبوسع المؤمنين به أن يعاملوا غير المؤمنين به أو الرافضين له كما يحلو لهم». زغمونت باومان وستانسواف أوبيرك: عن الله والإنسان، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث، بيروت، 2018.
لم أجد الجملة بهذه الصيغة الشهيرة في ترجمة سامي الدروبي لرواية الأخوة كارامازوف. أقرب شيء إليها يردُ على لسان سمردياكوف وهو يخاطب إيفان كارامازوف: «كنت تقول: إن كل شيء مباح» (...) كنت تقول لي دائماً: «إذا لم يوجد الله اللانهائي، فالفضيلة إذاً باطل لا جدوى منه ولا داعي إليه». دار التنوير، بيروت، 2017، المجلد الرابع، ص 237.
عن الله والإنسان، مصدر سبق ذكره، ص 42.
دوستويفسكي: الإخوة كارامازوف؛ المجلد الثاني، ص 171.
وهذا بحسب ما استخلصته دراسة للقصف الاستراتيجي الأميركي عام 1946: «كانت اليابان ستستسلم حتى لو لم تُرمَ عليها القنبلتان الذريتان، حتى لو لم تدخل روسيا الحرب، بل وحتى لو لم يجرِ التخطيط للغزو الأميركي أو التفكير فيه». وارد في: «Sven Lindqvist: A History of Bombing, translated by: Linda Haverty Rugg, The New York Press, New York, 2001 p118».
تنظر من أجل هذا التعدد مقالتي: عودة إلى السجن، في الجمهورية، 21/12/2023.
See Tome Segev: The Seventh Million, the Israelis and the Holocaust, Translated by Haim Watzman, Henry Holt and company, New York, 1991 p 109.
تربط شالوت دلبو بين آلام المسيح ومُعاناة اليهود أثناء الهولوكوست الذي نجت منه، تقول مخاطبة المسيحيين في إحدى قصائدها: «أنتم يا من بكيتهم ألفي سنة.. على من تعذب لثلاثة أيام وثلاث ليال.. هل استبقيتم شيئاً من دموعكم.. تبكونها على من تعذبوا لأكثر من ثلاثمائة ليلة وثلاثمائة يوم.. حل اليهود كذا محل يسوع المصلوب؛ إنهم "ابن الله" البديل». «Charlotte Delbo: Auschwitz and after, Translated by Rosette C. Lammont, Yale University Press, 2014 P10».
كان ريجيس دوبريه في كتابه نقد العقل السياسي قد تشكك في فكرة التقدم الأخلاقي. لكن توما بكيتي يعتقد أنه لا يمكن إنكار تحقق تقدمات أخلاقية كونية على مستوى وفيات أطفال ومتوسط عمر الإنسان وفرص التعلم... إلخ. ينظر كتابه:
A Brief History of Inequality, Translated by Steven Rendall, The Belknap Press of Harvard University press, 2022.مقدمة الكتاب
Zigmont Baumann: Modernity and the Holocaust, Polity Press, 2015, P 236-244.
القضية مثارة بصورة عابرة، وبالإحالة إلى عمل ليانا ثومبسون، في كتاب سعد عطشان (فلسطيني) وكاثارينا غالور (إسرائيلية): «The Moral Triangle: Germany, Israel, Palestine, Duke University Press, 2020, p .82». وهي مستحقة للدراسة في السياق السوري. وراثة المعاناة تبدو مؤكدة بخصوص الجيل الأول من أعقاب من تعرضوا لتجارب السجن والتعذيب أو فقدوا أفراداً من عوائلهم. لكن يبدو أن المظلومية تصير وراثية بعد ذلك بقدر ما تعود الوراثة بمكاسب مادية أو معنوية، وهذا مثلما كانت النبالة والوجاهة تورث في أزمنة سابقة. لكن الأمر مستوجب لبحوث ميدانية لإثبات هذه القضية أو تعيينها.
متفاعلاً مع عمل فرويد عن الترومات، يقول ستيوارت هال، وهو أكاديمي ومناضل بريطاني من أصول جامايكية، ومن أبرز المشتغلين في حقل الدراسات الثقافية: «إن تروما الماضي العبودي [للسود في جامايكا وفي كل مكان] (...) تقوض أي تعاقب بسيط لما قبل وما بعد. وعلى هذا النحو تبقى عقابيل العبودية لزمن طويل في ذهنيات الناس»؛ «Stuart Hall: Familiar Stranger, a Life Between Two Islands, Penguin Books, 2018 P 78».
مقالته في ذي أطلانطيك: Even the Oppressed Have Obligations.
يُنظَر من أجل هذا الإسقاط كتاب دانيال مارفيكي: «Germany and Israel, White Washing and State Building, Hurst, London, 2020». وتُنظَر مقالتي: «Gaza in Berlin: Projection, Censorship, and the Othering Machine».
Peter Romerantsev: Nothing is True and Everything is Possible, The Surreal Heart of the New Russia, Public affairs, New York, 2015. ويبدو أن عنوان الكتاب مأخوذ من كتاب حنه آرنت: «The Origins of Totalitarianism»، حيث ترد السطور التالية في الصفحة 500 من الكتاب: «في عالم غير مفهوم ولا يكف عن التغير، بلغت الجماهير حد أن تصدق كل شيء ولا شيء في الوقت نفسه، وأن تعتقد أن كل شيء ممكن وأن لا شيء حقيقيٌ».
من أجل العدمية السوداء، تنظر مقالة كالفن وارد هنا: https://www.jstor.org/stable/10.14321/crnewcentrevi.15.1.0215
مقالة مرزوق: هل كان النبي أيوب صابراً محتسباً؟ متاحة هنا.
ينظر كتابه: الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة، عصر الامبراطوريات الجديدة، الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين، ترجمة: ابراهيم استنبولي، الطبعة الأولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2022. الكتاب مُشرَّب بروح مشككة بالعالمية بوصفها قناعاً للغرب، وبنازعٍ امبراطوري روسي ظاهر.