في شأن اليهود والغرب والتطبيع الممتنع


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7994 - 2024 / 5 / 31 - 23:58
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

تتيح مساندة الغرب الرسمي المتطرفة لإسرائيل في حربها الإبادية ضد الشعب الفلسطيني تبيّن مستمرٍ تاريخي بين طورين من العلاقة باليهود: طور معاداة اليهود أو "الأنتيسميتيزم" في أوربا، والطور الحالي لحب اليهود أو "الفيلوسميتيزم" في الغرب بعامة. ويتمثل هذا المستمر في التمركز حول ما يكون اليهود وليس ما يفعلون، أي حول الهوية وليس حول الوجود السياسي التاريخي. كان اليهود أشراراً، طفيليين، فاسدي الكيان، ووجب بالتالي إبادتهم لأنهم كذلك. اليوم يبدو اليهود الإسرائيليون، طيبين، عادلين، على الحق دوماً، ويجب بالتالي دعمهم أياً يكن ما يفعلون. وهذا حتى بعد أن قامت لليهود دولة اسمها إسرائيل ولها إيديولوجية قومية هي الصهيونية. وبمجرد أن نتكلم على دولة نتكلم على سياسة وعنف، وعلى أفعال وتؤثر في الحياة البشرية بصور متنوعة، منها قتل الألوف وعشرات الألوف على ما نرى في غزة بلا كلل طوال شهور. ومنذ أن نتكلم على إيديولوجية قومية، الصهيونية، فإننا نتكلم على وجود في التاريخ لا يختلف مبدئياً عن أي وجود قومي في التاريخ، مع ما هو معلوم من اقتران القومية في كل مكان بالتمييز والكراهية والتعصب. وهذا دون قول شيء عن عناصر استعمارية وعنصرية متأصلة في تكوين هذه الدولة المحددة.
يلزم الإلحاح على هذه النقاط لأنه يتواتر في الشهور الأخرة في الغرب أن تجري مماهاة نقد إسرائيل أو نقد الصهونية باللاسامية. هذا ليس باطلاً فقط، وإنما يمكنه أن يكون عنصرياً كذلك، هذا إذا كانت العنصرية إنكار المساواة الأساسية بين البشر، وإن أخذت هنا شكل رفع اليهود فوق مرتبة عموم البشر. بأي وجه يمكن نقد ألمانيا والقومية الألمانية، وأميركا والوعي الذاتي الأميركي المجامل جداً للذات، وفرنسا وقيمها الجمهورية القسرية، ولا يمكن نقد إسرائيل والصهيونية؟ وهذا حتى بعد أن خرجت كتلة كبيرة من اليهود، تقارب نصفهم، من الشرط الشتاتي وشكلت دولة على حساب شعب آخر؟ فإما أن اليهود الإسرائيليين لم يدخلوا في التاريخ كفاعلين، فلا يصح عليهم ما يصح على أي اجتماع سياسي تاريخي من نقد واعتراض (وهذا باطل)، أو أنهم استثناء عالمي، يجمع بين الدخول الفاعل في التاريخ مع كل تناقضاته وصراعاته، وبين بقاء كيانهم منزهاً عن عواقب هذا الدخول وأعراضه. والواقع أننا بالفعل حيال استثنائية يهودية إسرائيلية هي من أوجه الاستثنائية الأميركية والغربية التي تسبغ على الذات خيرية جوهرية لا يجد لها المرء سنداً في الواقع. ليس هناك أمم أو حضارات أو جماعات دينية خيرة أو شريرة جوهرياً. الخير والشر صفات لأفعال البشر، أفراداً وجماعات، وليس للبشر قبل وبصرف النظر عن أفعالهم. أو هما صفات للبشر من حيث هم فاعلين أحراراً وعاقلين. ولذلك فإن الإصرار على مساواة نقد إسرائيل والصهيونية (وهما من مجال الوجود التاريخي الفاعل) بمعاداة السامية (وهي كره اليهود بما هم كذلك) هو خروج من المنطق ودخول في باب الاعتباط والاستنساب والمحاباة، وهذا باب لن يكف عن الاتساع حتى يكف عن كونه استثناء ويصير القاعدة العامة. هناك إلى اليوم مماهاة بين الغرب ومدركات مثل العقل والقانون وعدالة الإجراءات، لكن الموقف من إسرائيل يخرق ذلك كله، وينعكس سلفاً قمعاً في مجتمعات الغرب ذاتها وتبريراً لما لا يمكن تبريرها من أفعال تمييز وظلم متكررة، ومن جرائم وفظائع مشهودة، ومعهما شهادات زور وضروب من الرقابة. هذا تطور مرجح لعلاقات القوة التي تستمر طويلاً حتى يستبطن موقعهم شاغلو الموقع الأقوى، ويرون التفوق أصيلاً في أنفسهم وليس في كوكبة تاريخية من أفعالهم.
ويقترن تمييز اليهود الراهن (والسابق، المعادي لهم) بصور من سياسة الهوية مضادة للديمقراطية وتستحق اسم الطائفية. فإذا فكرنا في تاريخ الفكر السياسي الحديث في الغرب وفق خطاطة منطقية مبسطة، ربما نرى أنه انطلق من الهوية مع القومية في القرنين 17 و18، فإلى الديمقراطية في القرنين 19 و20، ويبدو خلال الربع الذي يوشك أن ينقضي من هذا القرن أميل إلى العودة إلى الهوية والتمييز لصالح الذات والمحاسيب من تجاوز تعددي وعالمي للديمقراطية مثلما طمح الاشتراكيون يوماً. المسألة الإسرائيلية تبدو نقطة ارتداد هوياتية بفعل تقاطع عاملين. أولهما هو أن الصهيونية تبدو بمثابة قومية بالوكالة في الدول الغربية التي طور بعضها موقفاً متحفظاً حيال قوميتها الخاصة، مثل ألمانيا. القوميون لا يحظون منذ سقوط النازية بتقدير كبير في البلد، لكن تطورت بالمقابل قومية ألمانية بالوكالة لدى الدولة وقطاعات واسعة من السكان، وجدت تعبيرها في وصف أنغيلا ميركل، مستشارة ألمانيا السابقة، لإسرائيل بأنها مبرر الدولة في ألمانيا، وهو ما يؤول بأن أمن إسرائيل أولوية ألمانيا عليا. و"الطائفة" التي تتمثل فيها هذه القومية الوكيلة أكثر من غيرها هي الأنتيدويتش، أو معاداة الألمانية على وزن معاداة السامية، وهي تشكيل يساري متطرف، تقدمي في قضايا كثيرة، لكنه فاشي تجاه القضية الفلسطينية، وقريب في الموقف منها من اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى درجة دعوة بعض أعضاء هذه الطائفة إلى قصف غزة السلاح النووي. ليس الأمر إلى هذه الدرجة في البلدان الغربية الأخرى، لكن اعتناق إسرائيل قريب فيها من الوطنية أو اعتناق المرء وطنية بلده. الشيء الثاني هو اتساع مراتب الاعتراض العالمية على إسرائيل والصهيونية، بين طلبة الجامعات في أميركا وغيرها، وعند قطاعات تتسع من صحفيين وحقوقيين ومهنيين ومهتمين بالمنطقة، ومن دول مثل جنوب أفريقيا، وفي أوربا ذاتها إيرلندا وبلجيكا وأسبانيا، فضلاً عن الأقليات العربية والمسلمة في بلدان الغرب، وقد زاد عديدها فوق مليون ونصف من الوافدين الجدد خلال العشرية السابقة، ثم العنصر الصاعد بقوة في شهور الحرب في غزة: اليهود المعارضون لإسرائيل والصهيونية، إن على أسس دينية يهودية، أو على أساس تصور اليهود كمجتمع شتاتي جوهرياً والنظر إلى ذلك كفضيلة وميزة، أو بدافع من حس قوي بالعدالة وأزمة الضمير بفعل التعارض بين الانتماء اليهودي (وقد اقترن بتحمل الظلم والحس الأخلاقي والإبداعية) وبين جرائم "الدولة اليهودية" التي لا تنتهي. تظهر دول الغرب سنداً لأسرلة اليهود، أو على الأقل لولائهم لإسرائيل منذ قيامها. وجود يهود ناقدين لإسرائيل، فضلاً عن معادين لها، يبدو تشكيكاً بأخلاقية وشرعية قيام إسرائيل ككيان يهودي ودعم القوى الغربية له، أو على الأقل إقرار للطابع الجائز لنشوء هذه الدولة والولاء لها، وبالتالي الطابع الجائز لعدم نشوئها وعدم الولاء لها. وهو ما يظهر مواقف القوى الغربية كانحياز فاضح، ربما يبطنه عداء للعرب والمسلمين، أو حتى عداء مكبوت لليهود أنفسهم.
هذا للقول إن مستقبل الديمقراطية والمساواة وحكم القانون يخاض اليوم في كل مكان من العالم، بالتوازي مع حرب الإبادة الجارية في غزة والتواطؤ معها أو الاعتراض عليها. ما يتوافق مع الدفاع عن الديمقراطية وحكم القانون، ضد الطائفية والاعتباط والمحاباة، هو منظور مركزية الأفعال في الحكم على أفعال الأفراد والجماعات والدول. وعلى هذا الأساس وحده يجري تطبيع اليهود، النظر إليه مثلما ينظر إلى غيرهم دون تشرير مسبق أو تبرير دائم. نكون في موقع أخلاقي وفكري أمتن ضد اللاسامية ليس حين نُحِلُّ حب اليهود محلها، بل حين يكون المعيار في الحكم على اليهود كما غيرهم هو الأفعال، ما يفعلون وليس ما يكونون.