العالم فلسطيني

تستعر منذ أكثر من اسبوعين حرب بين فلسطين وقوات جيش الكيان الإسرائيلي، الذي صار يعرف بالدولة العبرية اليهودية، وهذه المعركة هي إمتداد لحرب طويلة بين الفلسطينيين والمحتلين تدور منذ عقود. وعليه لا ارى هنا أي أهمية للحديث عن "سبب" اندلاع الحرب الحالية، والتي يعزوها الغرب الى الهجوم الذي شنته حماس صباح السابع من اكتوبر- تشرين أول الجاري.
إن مقاومة الإنسان لمن يستلب حقه أو ينهب ما يخصه، هي أمر غريزي متأصل في الإنسان وهي جزء من تكوينه. ونكاد نجد هذا السلوك حتى في مملكة الحيوان حيث تستقتل بعض الحيوانات دفاعاً عن مكانها أو ابنائها بوجه الضواري أو المعتدين.
يصرخ الطفل حين تؤخذ حاجاته أو يحرم من حقه، ويقاوم البالغ ويحتج دفاعاً عن حقه، ويصل الأمر في أحيان عديدة الى الإقتتال. ويقاوم الإنسان مستعبديه ومستغليه خلال مراحل التاريخ المتعاقبة، وتشهد مقاومة الإنسان واحتجاجه مراحل صعود وتباطؤ وانحسار وتراجع ثم انفجار وهكذا. وتشهد الحقب التاريخية على سلسلة معارك الإنسان المستغل بوجه المستغلين، سواء من إحتلوا اراضي الغير أو من استعبدوا الناس المقهورين أو من استغلوا المحرومين والمعدمين لغرض الإثراء والهيمنة. وما يقوم به الفلسطينيون اليوم هو التعبير المشخص عن هذه النزعة المتأصلة في البشر. فهو إذن سلوك يمثل طبيعة الإنسان الذي يتعرض حقه للإغتصاب. وبهذا المعنى فإن حرب فلسطين الحالية هي تعبير عن مقاومة الإنسان، وإن رمزية الحدث تتخطى الجغرافيا التي تدور رحى الحرب فيها، إنها تعبير عام عن طبيعة المقاومة المستميتة للإنسان ضد غاصبي حقه. إن التعاطف العالمي والمساندة الشعبية لفلسطين تأتي من هنا، وتكاد تكون قضية فلسطين التاريخية هي القضية الأكثر تأثيراً في ضمير الشعوب على مدى عقود. وهي القضية التي رسمت ملامح المنطقة سياسياً وجغرافياً خلال ثلاثة أرباع القرن.
أما الأطراف التي تساند الكيان الإسرائيلي بثبات وبلا تردد، وبدون حسبان الحساب لأي معيار آخر، فهي بريطانيا صانعة الكيان، ثم أمريكا وفرنسا، أي أركان الرأسمالية الغربية الإمبريالية، تلك الدول التي تمتلك الترسانة العسكرية الأكبر عالمياً، وتسيطر على القرار الدولي، وتمتلك المقدرات الإقتصادية الأكبر، وتتحكم بالرساميل الأكبر عالمياً.
بريطانيا التي صنعت الكيان وفرضت جغرافيته ودعمتها بالأقاصيص التلمودية والتوراتية ، ظهرت من خلال ريشي أشد صهيونية من الجميع، وردد ريشي شعارات تشبه ما كان يردده الهاغاناه وهو الذي يترأس حكومة الليبرالية الأقدم في العالم.
وظهر رئيس الدولة الرأسمالية الأكبر بادن كمن يلوذ بحمى نتن ياهو ويتضرغ النصر لإسرائيل خشية تفوق حماس والفلسطينيين، وأرسل البوارج وحاملات الطائرات، في إعلان حرب واضح والدخول كطرف مباشر فيها، وبدا وكأن الحرب تدور في ضواحي شيكاغو أو نيويورك أو واشنطن.
وظهر الفرنسي ماكرون رئيس الجمهورية الديمقراطية والدولة الأكثر علمانية في أوربا، داعياً لإبادة أعداء اسرائيل وبدا نازياً وداعية إبادة على المكشوف ولم يستر عريه الصهيوني، وتمادى في إندفاعه حد منع التظاهر في باريس. في حين تباينت مواقف الإتحاد الأوربي في شدتها وإختلافها.
بدا الموقف البريطاني الأمريكي والفرنسي ومع الترويج الهائل للإبادة وتحقيق "النصر" وكأن التهديد يطال واشنطن ولندن وباريس. إن يوم 13/10/2023 هو يوم حاسم في تاريخ الغرب الرأسمالي حين جاء وزير الدفاع الأمريكي الى تل أبيب كمن يطمئن على جبهة بلاده في الحرب. لقد بدا القلق واضحا والحرب تتخذ أبعاد حرب عالمية من حيث نتائجها السياسية.
لقد عبر هؤلاء الثلاثة عن عمق أزمة الرأسمالية وخطر تفتت وزوال أدوات السيطرة على منطقة الشرق الأوسط والأدنى، أي قلب العالم القديم والمركز العالمي المهم في كل العصور. ويمكن تلمس التهديد الجدي الذي يواجهه المحور الغربي ذي النزعة الصهيونية المتشددة. والذي عبر عنه رؤساؤه في خطبهم التي هزت المكانة السياسة لكياناتهم أمام الشعوب بصورة لا رجعة فيها. وتعرض العالم الديقراطي لأسوأ نكسة، أو الأحرى لفضيحة مدوية كشفت داخله ومحتواه فيما يخص قضايا الإنسان، ودعمه للظلم والعنصرية والتمييز العرقي واستعباد الشعوب والدفاع عن النازية ممثلة بالصهيونية.
فلنتخيل ثلاثة أرباع القرن، أي خمسة وسبعون عاماً من الدعم، لإنشاء كيان يعبر عن مصالح وسياسة الرأسمال بخلاصتها وعصارة مضمونها، والدعم اللامحدود طوال عقود وتجهيز ترسانة نووية وقوة جوية متفوقة مقابل شعب شبه أعزل مقارنة بالأسلحة النووية، ثم يظهر عتاة رؤساء الإمبريالية العالمية في موقف المهزوز القلق من إتساع الصراع.
إن زعماء الرأسمالية لم يظهروا ضعفاء مهزوزين مثل ما هم عليه اليوم، رغم التبجح والإستقواء الظاهري.
إن غزة تذبح، والفلسطينيون يقتلون بالآلاف، وتلقى الآف الأطنان من القذائف على المباني السكنية والمستشفيات، ولكنها تبدو صامدة ومتماسكة أكثر بكثير من ريشي وماكرون وبايدن. ويبدو اليوم إن من يحتاج التحرر هو الشعب العبراني المتخذ منذ عقود كرهينة ووسيلة لتمرير مشروع عنصري إمبريالي، وتقترف بإسمه أشنع الجرائم، ويجري ربطه عنوة بالصهيونية العالمية، ويتعرض للعزل والتغريب على مستوى العالم بسبب هذه السياسة.
لقد كشفت حرب غزة التي تتحول يوما بعد يوم الى حرب إبادة، عن معنى صمود شعب أعزل، ومعنى أن يكون العدو المدجج بالسلاح هو الخائف. إن فلسطين تمثل اليوم، عموماً، حق الإنسانية في مقاومة نهب حقوقها رغم فارق التناسب بين القوى، وهذا ما يشكل نزعة الإنسان في المقاومة مهما بلغ الطغيان والجبروت. إن نتائج الحرب لن تتوقف فقط على الإنتصار الميداني، فقط أطاحت هذه الحرب بالكثير من التصورات والمعنقدات السابقة، ومن المحتمل أن تتطور تيارات سياسية متجذرة على الصعيد العالمي، تشكل تهديداً جدياً لسلطة رأس المال العالمي الإمبريالي.
إن فرض الكيان الإسرائيلي الصهيوني وخلق جغرافيا سياسية جديدة بقوة النار والحديد، وتفتيت وتهجير بلدان وشعوب لغرض فرض واقع حال يطابق مصالح رأس المال وتخطيطه العالم، هو عملية مخالفة لإرادة الإنسان وهي لي ذراع البشرية عبر مصادرة إرادتها. إن هذه شناعة لا يمكن تخيل دوامها الإ بتغيير القيم والنواميس، وهذا يتعارض مع إرادة الشعوب وقيم الحرية والكرامة، ليس على مستوى فلسطين بل العالم.
إن الفلسفة السياسية لهذا النهج تراهن على قهر الإنسان وترويض وإذلال ارادته، وهذا يخالف نوازع الإنسان ووجوده. إن التناقض بين مصالح رأس المال وإرادة الإنسان لا تتوقف على الإستغلال المباشر ونظام الربح، إذ تسعى الرأسمالية الى شل ارادة الإنسان والتحكم بمصيره السياسي والحياتي والنفسي. وهذا ميدان صراع واقعي بين ممثلي حرية الإنسان وممثلي رأس المال.
إن وقائع الحرب الدائرة، وما يرافقها من احتجاج عالمي ضد ما تقوم به اسرائيل وداعميها، تشير الى أن الإنسانية ترفض الخنوع بشدة وتقاوم بابسط الأسلحة أعتى الترسانات العسكرية.
إن وجود إسرائيل والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، هو من متطلبات وجود الرأسمالية وسيطرتها في المنطقة والعالم، وهذه الفضاعات التي نراها اليوم في غزة، هي نتيجة لا مفر منها من نتائج فرض سياسات الرأسمال على البشر. إن أشلاء الأطفال في غزة لم تهز شعرة من عتاة ممثلي الرأسمالية العالمية الغربية. إن شناعة وقسوة الرأسمالية لا حدود لها.
ورغم الصورة المأساوية التي تبدو عليها غزة، يمكن القول، دون الإنزلاق في تفاؤل شكلي، إن اسرائيل ومعها الغرب يرتكبون مذبحة شنيعة ولكنهم ليسوا منتصرين، وأن الوقائع العالمية تشير الى أن المستقبل السياسي مغاير لما يخطط له الغرب واسرائيل.
إما أن يستمر لوي ذراع البشرية عبر مصادرة إرادتها، وهذا غير ممكن، أو أن تتطور وسائل النضال العالمي بوجه سياسات رأس المال، وهو الأرجح. إن تقديم منظور عالمي اممي للقضية الراهنة وحلها في أطار قضايا التحرر الإنساني العالمي هو جزء من النضال التحرري للإنسان بوجه رأس المال.