تأملات في سقوط بابل.
فلاح علوان
الحوار المتمدن
-
العدد: 7720 - 2023 / 8 / 31 - 22:48
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
(1) إن سقوط بابل على يد الفرس الإخمينيين عام 539 قبل الميلاد هو سقوط حضارة المدينة أمام هجمة المجتمع الرعوي البدائي، أو جموع القبائل الرعوية المناهضة للمدينية بطبيعتها. إذ لا يمكن أن يكون للمجتمع الرعوي أيديولوجية قائمة على ثقافة المدينة والمجتمع الزراعي، لأن هذا يتعارض مع هويته هو بالذات.
(2) كانت هجمة الفرس مصحوبة بالتبشير الديني، وهو استخدام للدين كأيديولوجيا على الصعيد الخارجي، أي الدين كوسيلة للسياسة الخارجية. إن عبادات الأخمينيين وتعاليمهم لا تطابق ثقافة أهل بابل القديمة، لذا استخدموا أو تقمصوا رمزية الألهة البابلية مردوخ أثناء هجومهم.
(3) يمكن القول الى حد بعيد، إنه بعد سقوط بابل لم تتشكل ثقافة مدينة شاملة أو سائدة في المنطقة التي يطلق عليها اليوم الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى، أي المنطقة الممتدة من سواحل الأطلسي، من المغرب الحالية، الى تخوم الهند. وهي المنطقة التي يطلق عليها هيغل اسم الهضبة، ويطلق عليها البعض إسم محور طنجة جاكارتا، في إشارة الى الطابع الإسلامي الغالب فيها. وهي التي يسود فيها النظام الرعوي والبدوي ويهيمن ويطغى على المجتمع الزراعي والحرفي الموجود، ويشكل الأيديولوجيا السائدة.
(4) لم يعد بإمكان المدينة أن تصبح هي الثقافة السائدة أي ثقافة يمكن أن تشكل أساس بناء الحضارة العامة وروحها الداخلية بمضمونها الفكري والثقافي. ومذاك تصبح المدينة خاضعة للقبلية والبداوة والعسكرة، ويستتبع ذلك مجمل البناء الفكري والأيديولوجي، وتتغير وظائف الالهة ومكانتها ودور الدين وشكله. إن الذكورية المصاحبة لثقافة الغزو والفتوحات قد تجلت في تراجع مكانة المرأة والالهة الأنثى في بابل. وقد تكاملت هذه العملية خلال عدة حقب على أساس هذا النوع من الفتوحات والغزوات.
(5) قاد سقوط بابل الى ميلاد اليهودية كديانة، ومع تكامل اليهودية إتخذ الدين شكل ايديولوجيا متكاملة. أي بمعنى تجاوز العبادات والدين الشخصي، وما يسميه هيغل الدين الطبيعي مقابل الدين الوضعي، وساستخدم تعبير العبادات مقابل الدين كأيديولوجيا، وهو ما يلائم المقال الحالي أكثر. إن خضوع الطقوس والعبادات للدين كأيديولوجيا قد تحقق بانتصار اليهودية. وهذه المسألة بحاجة الى التوسع اكثر.
(6) إن اتسام الحضارات الشرق أوسطية اللاحقة لبابل بالطابع الديني، يفسح المجال للسؤال حول دور الدين في المجتمع، أو الضرورات التاريخية التي دفعت الى تبني الدين كأيديولوجيا. وهذا يستلزم التعرف على المنابع التي بدأ عندها استخدام الدين، والطريقة التي تبلور خلالها النظام الديني وتدرجاته ومراتبه السلطوية أو الموازية للسلطة لاحقاً، والتعرف على الأساس المادي للديباجة العامة للدين والمتجسدة في تعاليم ووصايا ونصوص وشرائع.
(7) إن سقوط حضارة المدينة ترك آثاره التاريخية على إمتداد الحقب الى يومنا هذا، بحيث لم تتشكل منذئذ حضارة المدينة القائمة على القانون والفلسفة والعلم، وظلت خاضعة لحكم الفاتحين ولأيديولوجيتهم التي تكيف الفكر لمتطلبات الهيمنة والسيطرة وإدامة أيديولوجية الفاتحين.
(8) إن الغزو الخارجي يفرض مفاهيم جديدة ونظرة جديدة للعالم بالنسبة للمجتمع الذي يتعرض للغزو.
(9) بسقوط بابل وسقوط حضارة المدينة، أخذت ثقافة الغزو والإحتلال الخارجي الأجنبي وفرض الدين تسود. تغربت ذات الإنسان السابق، إنسان المدينة، التي أصبحت خاضعة. ومع تغير المنظور العام للعالم، التفكير، تشكل العقلية، أصبح هناك محددات جديدة للفكر.
(10) إنحلال الذات الداخلية للكيان في ذات الخارج المهاجم. انبثاق الأيديولوجيا المطابقة للوضع الجديد. انبثاق الأيديولوجيا المطابقة للوضع الجديد، إن الأيديولوجيا المنتصرة ستفرض محدداتها على العقل اللاحق. وهذه هي العوامل التي لعبت دورها في تحديد إتجاهات التفكير وتشكل العقل في المنطقة وليس الإحالة الى عناصر الأصل الجيني أو القدري أو الجغرافي كما يجري الترويج له.
(11)
(12) يجري الترويج الى أن الشرق ينتج الدين والأنبياء، فيما ينتج الغرب الفلسفة والعلم. هذا طرح أيديولوجي خالص، وله أهداف إمبريالية واضحة وهي وضع سكان الشرق في خانة غير المنتجين للفكر، وبالتالي غير فعالين في الحضارة الحالية ذات الطابع الصناعي وبنمطه الغربي. وهو ما يقود الى إدعاء كون الغرب الإمبريالي له الحق في فرض الوصاية الفكرية والفلسفية على العالم. إن هذا يعني اعطاء المشروعية للنهج الإمبريالي وتبرير الهيمنة بلغة ملغزة ملتوية.
(13) إن بحث الطريقة التي سقطت بها حضارة المدينة وإنحلال مجتمع المدينة وعلومه وفلسفته، أو بالأحرى خضوعه التاريخي الطويل، سيفتح الطريق للرد على التصورات الإمبريالية ذات الطابع والنزعة العنصرية الواضحة.
(14) ربما سيعترض البعض بالقول؛ إن هذا موضوع من الماضي البعيد وإن الخوض فيه هو نوع من التنقيب في اللقى والآثار، أو إنه لا يخص الصراع الإجتماعي الحالي والطبقات الإجتماعية، وإن الطبقة العاملة التي لديها مصاعبها الحياتية غير معنية بهذه الذكريات. أقول بثقة لا، لأن هذا التصور برجوازي خالص، يروج لفكرة إن الطبقة العاملة ليس أمامها سوى الإنشغال بامور المعيشة، وفي أقصى الأحوال بنضال الخبزة، وإن الخوض في تاريج المجتمع والثقافة والفلسفة هو مهمة الأخصائيين البرجوازيين. من الواضح جداً إن هذه هي إحدى أهم الوسائل الأيديولوجية بيد البرجوازية لإخضاع الطبقة العاملة فكرياً ونظرياً.
(15) إن التعرف على الذات ومسار تطورها التاريخي هو أهم الأسلحة في مواجهة الأيديولوجيا التي تعيد إنتاج نفسها عن طريق إخضاع الإنسان والإيحاء الى كون الوضع الراهن هو جزء من طبيعة البشر وهو تحصيل حاصل للشرق كما هو. بحيث يبدو الوضع الراهن كأنه سبب نفسه، من خلال كونه سبب المسار التاريخي وتبريره وليس نتاجاً له.
(16) إن الترويج لأفكار الشرق والغرب، وتصوير الشرق بأنه مصدر للدين والأساطير وإنه في تعارض مع الفكر الفلسفي، يستدعي الحاجة الى تشويه تصور الإنسان الشرقي عن تاريخه وإرثه. إن عملية إزالة آثار الفكر الإنساني المبكر للشرق وتدميرها، والتدخل أو التحكم الأيديولوجي في قراءة التاريخ بما يتضمنه من تحوير وقراءة متحيزة، واحتكار وسائل التحليل والدراسة، هي جزء من عملية نزع تراث عالمي من أذهان الشعوب التي يراد وضعها في تحديد أيديولوجي حضاري ذي أغراض إمبريالية.
(17) إن التخريب الممنهج والمتواصل لبابل وثقافة بابل وعموم الثقافة الرافدينية القديمة بالدرجة الأساس، هو عمل مقصود وسياسة مرسومة تستهدف محو المدنية من ذاكرة شعوب الشرق لتكريس أفكار أو تصورات أو إدعاءات كون الشرق مهد البربرية والحروب والنزاعات الدينية والخرافات ويجب تمدينه. وكما يقول إنجلز في كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة " كانت معارفنا عن الشرق القديم مستمدة من أسفار موسى الخمسة"، يعني الصورة التوراتية التي يتداخل فيها التخيل بالاسطورة بالنقل، مما يعني أن ثمة من يريد لهذه الصورة الدوام.
(18) مع سقوط بابل وسقوط حضارة المدينة، بدأت ثقافة الغزو والإحتلال الخارجي والإستخدام الأيديولوجي للدين. تغربت ذات الإنسان السابق، انسان المدينة التي أصبحت خاضعة. ومعها سيتغير المنظور للعالم والوجود. ويتغير التفكير، والعرفة عن العالم، أي العقل. أصبح هناك حدود، حدود جديدة للفكر فرضها الواقع الجديد.
(19) الغزو هو السيطرة لغرض الإستيلاء والتحكم ، يقود التحكم الى الإستيلاء واستمرار الإستيلاء على نصيب، غالباً ما يكون هو الأكبر من الناتج أو الثروة دون عمل. وهذا يعني إن السيطرة والتحكم هي في النهاية تحكم بمن يعمل، أو هي إخضاع وإجبار الخاضعين على العمل لغرض الهيمنة على قسم من الناتج، ليس بالضرورة أن يكون فائضاً. إذ ربما يجري تجويع الناس وسلب مواشيهم وممتلكاتهم وحتى ابنائهم وبناتهم لغرض تأمين العائد والسيطرة في نفس الوقت.
(20) وتصبح القوة هي رمز الهيمنة وعلو المكانة، بحيث يكون تمجيد مظاهر القوة وأصحاب القوة والنفوذ جزءاً من متطلبات إدامة الهيمنة، أي استخدام الوسائل الأيديولوجية.
(21) المجتمع الرعوي البدوي، القائم على الملكية المنقولة، أي الثروة المترتبة عن إمتلاك المواشي، هو مجتمع مسلح ومدرب وجاهز للدفاع عن ثروته المهددة بالهجوم من القبائل أو الجماعات الاخرى، وهو مجتمع متحرك انتقالي من حيث الجغرافية، فهي مجاميع مرتبطة بالطبيعة ونتاج للطبيعة أكثر من ارتباطها بالعمل على تحويل الطبيعة، أي بالإنتاج التحويلي الصناعي أو الزراعي، أو ارتباطها بغيرها من البشر أو المجموعات العاملة. إن الإستيلاء على المساحات القابلة للرعي هو جزء من متطلبات حياة البدوي، وحيث أن الإستيلاء على الأراضي والمراعي واستملاكها ممكن من قبل أية قوة مسلحة، فإن المراعي هي موضوع نزاع. وإن الحروب لدى هذه الشعوب ليست حوادث ونتاج خلافات مؤقتة، إنها جزء من طبيعة الحياة العامة وإحدى متطلباتها. وعند السيطرة على المدن والمناطق المزروعة يصبح التمسك بقيم الغزو والنزاع والقتال، جزءا من متطلبات إدامة السيطرة. وهذه السيطرة تضيق أكثر فأكثر لتصبح الزعامة بيد فئة تتحكم بالشعوب المغلوبة وتخلق المراتب داخل جماعاتها هي أيضاً.
(22) ويرافق هذه السياسة إختراع وترسيخ الأصول النبيلة والملكية لهذا الزعيم أو ذاك، وخلع سمات تعجيزية، وأحياناً اسطورية عليه، أي سمات يتعذر على البشر امتلاكها، لسد الطريق على التفكير في منافسته باعتباره صاحب قدرات فائقة أو تتجاوز قدرات البشر الآخرين المحدودة. ويبدو إن نزعة تضخيم شخصية الحاكم أو قائد الجيش أو القبيلة هي التي تطورت لتنتج الشخصيات الأسطورية ذات القدرات التعجيزية. أي إن هذه النزعة للتفخيم منشؤها النزعة لإدامة السيطرة وإشاعة العجز لدى الآخرين في المنافسة على الزعامة، والأهم هو خلق هالة جبارة حول السلطة باعتبارها مرتبة لا يمكن بلوغها، وهذا الإستعلاء هو جزء من منع أي ديمقراطية أو تواصل بين المراتب الخاضعة والمراتب المسيطرة.
(23) إن انحلال الذات الداخلية، يدفع باتجاه تبني ايديولوجيا جديدة، تصور جديد عن العالم. إن الأيديولوجيا المنتصرة ستفرض محدداتها على العقل اللاحق. هذه هي العوامل التي لعبت دوراً في تحديد إتجاهات التفكير وتشكُل العقلية في المنطقة، وليس عناصر الأصل الجيني أو القدري أو الجغرافي كما يجري الترويج، أو كما تجري الإحالة.
(24) حين كانت شعوب الشرق تطالب بالمدنية، كانت تواجه بأنها تستعير مفاهيم غربية مستوردة لا تطابق الواقع الإسلامي أو القومي العربي، وهذا ما كان يروج له القوميون والإسلاميون، وإن كان القوميون بدرجة أقل اليوم.
(25) إن البرهان على مدنية حضارة الشرق وحيويتها سيجرد السلفية من أسلحتها، وهنا أقصد بالسلفية المرجعية الفكرية للقوى التي تعيش على الماضي.
(26) إن ركني النظام الإجتماعي السياسي في الشرق الأوسط القومية والدين، المستندين على النواة الأبوية – البطرياركية- العشائرية سينكشف محتواهما ودعايتهما أمام تطور النضال الطبقي الذي سيبحث عن هويته في انسانيته لا في الأيديولوجيات. العرقية والعشيرة وبأيديولوجيا عامة دينية إسلامية، هي العمق الفعلي، هي النكهة الفعلية للسلطة والتنظيم الإجتماعي.
(27) إن السؤال أين انحلت روح العالم القديم، أو روح المدينة القديمة، هي مسألة قابلة للتقصي والتحليل. هل "تبنت" المدينة القيم الرعوية البدوية طوعاً؟ هل تكيفت بالقوة؟ هل تراخت روح المدينة ولم تصمد أمام الهجمة البربرية؟ هل يمثل ما تقدم تكيفاً أم تشوهاً تاريخياً.
يتبع.
تموز- يوليو 2023