طبقة بذاتها ... طبقة لذاتها
فلاح علوان
الحوار المتمدن
-
العدد: 7391 - 2022 / 10 / 4 - 23:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يرد تعبير طبقة بذاتها وطبقة لذاتها، في العديد من الأدبيات السياسية، وهو يشكل أحد أهم مفاهيم وطروحات اليسار. ويعزى التعبير لـ كارل ماركس، وتشير لغة التعبير وبناءه الى كونه مستمد من الأدبيات الهيجلية. ويجري إستخدامه كمفهوم عام، كتعريف، كتفريق بين وضع جموع الشغيلة عامة، قبل أن تقوم بدور سياسي طبقي، وحين يكون لها سياساتها المعبرة عن مصالحها. وغالباً ما تنطوي شروحات المصطلح من قبل الحركات السياسية، على صحة الفهم العام للمسألة، ولكن في حدود المفاهيم أو الأطر العامة، أكثر منه في الإستخدام العملي لبناء الشرط الذاتي لتحرر الطبقة العاملة.
وردت تعابير أطلقها المحتجون في إعتصام البرلمان الأخير، أو عند إقتحام القصور الرئاسية، تعكس المعنى العملي لـ "الطبقة بذاتها" حيث كان أغلب المحتجين هم من الفقراء أو أشباه المعدمين، أي انهم ينتمون طبقياً الى الطبقة العاملة، عدا عن العقائديين أو المتحزبين المتواجدين لأغراض قيادية أو تعبوية أو تنظيمية. قال أحد الشباب من على شاشات التلفزيون " لن يهنأ الأغنياء هنا والفقراء جائعون، ليفهموا هذا" ونحن ننقل كلامه بتصرف كونه تحدث باللغة الدارجة. وهذا يعني إن مغزى حضوره، هو للتعبير عن نقمته على الحرمان أو الإستغلال الذي يتعرض له من قبل أصحاب السلطة والمال، أي البرجوازيين، وهو الكادح المعدم. وقد عبر عن هذا بـ "أغنياء وفقراء"، وهو الشكل الذي تتجسم به الفوارق الطبقية، ويبدو عليه الناس في الحياة اليومية، خارج علاقات الإنتاج والإستغلال المباشر.
وقال آخر؛ "هذا قصر الشعب ويجب أن يعود الى الشعب". وقد أصبحت هذه لازمة يرددها الكثير، وهي عبارة صحيحة كلياً، بل هي نوع من شعار. ولكن هذا الشعار لا يتحقق عندما يدخل المتظاهر القصر الرئاسي تحت راية كتلة بعينها، أو ليطالب بإنتخابات مبكرة. وهناك عشرات الحوارات التي دارت حول هذا المعنى وهذا المحور، وكان يغلب عليها شعار المطالبة بمحاسبة الفاسدين، وإعادة حقوق الفقراء.
تعكس مثل هذه التعابير والحوارات، وخاصة حين ترد على ألسنة العديد من المتظاهرن الفقراء، التجسم الفعلي لمفهوم " طبقة بذاتها" حتى حين تخوض الطبقة مواجهة مع أقطاب السلطة. وبذلك نكشف معنى أوسع لـ "طبقة بذاتها". إذ لا يقتصر الأمر على وصف الطبقة أثناء إنهماكها في عملية الإنتاج والتداول، أي خارج السياسية، بل وحتى في حالة قيامها بالإحتجاج على أوضاعها، وعلى الفقر والحرمان الذي تعانيه. إذ إن من الممكن أن تقوم الطبقة العاملة بدور سياسي، ولكن ليس للتعبير عن مصالحها الطبقية، وليس عبر وسائلها هي السياسية، أي منظماتها. ويمكن الإستعانة بالعديد من الأمثلة التي يتجلى خلالها مفهوم "طبقة بذاتها"، والذي يمكن أن نلمسه في العديد من الممارسات اليومية للعامل المستغل بمواجهة مستغليه.
يتناول العديد من الكتاب والسياسيين موضوع " طبقة بذاتها"، وتدور نقاشات حول عدم تحول الطبقة العاملة الى "طبقة لذاتها"، وهو سبب عدم إمتلاكها وسائل التحرر، واستمرار خضوعها واستعبادها من قبل الطبقات المسيطرة. ويتلخص طرح الشروط العامة للتحول من طبقة بذاتها الى طبقة لذاتها، في نشر الوعي الطبقي، وامتلاك الطبقة العاملة لحزبها السياسي، وهذا صحيح بالطبع. غير أن العديد من الأحزاب اليسارية أو العمالية، تطرح المسألة على أساس إن هناك احزاب عمالية قائمة بالفعل، ولكن لها نواقصها، وإن قسماً من النواقص مردّه قمع وضغوط سياسية، وإن "التراجع" هو أمر طبيعي وهو موجود لدى العديد من الأحزاب، وحتى لدى الأحزاب البرجوازية العلنية والمدعومة. إن التخلص من هذه المصاعب، حسب أصحاب الطرح، يتطلب مجموعة "قواعد" سياسية أو صياغات مستمدة من تجارب وكتابات هنا وهناك. وغالباً ما تتخذ القواعد والشروحات، شكل توجيهات وتوصيات ذات طبيعة تحكمية تعبوية.
إن العديد من الأحزاب التي يتحدث عنها بعض اليساريين، تطرح برامجها على أساس إن مركز الحركة العمالية في أي مجتمع، هي الطبقة العاملة الصناعية والبروليتاريا المتقدمة، وهذا استنساخ غير موفق لتجارب عالمية لها اختلافها الواقعي الواضح عن العراق. ويمضي بعض المتطرفين في الثورية اللفظية، الى إعتبار أن قطاع النفط في العراق هو مركز الحركة الثورية، وإن البروليتارية العاملة في قطاع النفط هي منطلق الثورة. وتسعى مثل هذه الأحزاب، وغالباً دون جدوى، الى لصق نفسها بالحركة العمالية.
إن الحزب العمالي الذي يصفه هؤلاء السياسيون، يولد ويعيش خارج الطبقة العاملة تماماً، أي خارج الصراع الطبقي.
ويشبه وضع الكثير من الكتاب اليساريين، وحتى بعض المنظمات، وضع تلميذ تعلم في مرحلة الإبتدائية إن الأمراض تسببها الجراثيم. وأصبح هذا التلميذ يخاطب من يراه من المرضى، بأن مرضه قد تسببت به جراثيم لا يراها، وإن الشفاء هو بالتخلص من تلك الجراثيم. أو إنه أخذ يتصور إن معرفته بكون الجراثيم تسبب الأمراض، هي كافية لتجعل منه طبيباً يكتب الوصفات للمرضى. إن حديث صاحبنا المتواصل عن كون الأمراض تسببها الجراثيم هو ليس خاطئاً، ولكن ليس له أي معنى عملي، وهو ما يحتاجه المريض بالفعل وليس المعلومة العامة.
وتتجلى الوصفات الإختيارية في العديد من المناسبات، فيما يتعلق بالموقف من الإحتجاجات الجارية، جرى توجيه الجمهور المحتج، الى عدم الإنخراط في صراع الأطراف المتحاربة. إن توجيه النصح بعدم جدوى المشاركة في صراعات القوى الحاكمة، هو أمر صحيح، ولكنه ليس الجواب على أصل المعضلة.
إن قسماً واسعاً من المشاركين في التجمعات الأخيرة هم من العاطلين عن العمل، ومن المعترضين على أداء الحكومة أو فسادها وعلى النظام السياسي، والذين ليس لديهم وسيلة للتدخل بشخصهم أو بذاتهم. وهذا ما يقع عندما يكون العمال " طبقة بذاتها" وليست " لذاتها"، أي إن هذا هو الوقت المناسب لطرح المسألة بصورتها العملية المباشرة، والتعرف على الأرضية التاريخية والعوامل التي تتسبب بهذا الواقع.
لا يكفي أن يقول السياسيون لهذا الجمهور المحتج؛ إن الأمراض تسببها الجراثيم، إن الأمر بحاجة الى تحري أعمق والتعرف على الأنسجة والخلايا، والإصابات الفعلية ونسبة الفيروس أو الجرثومة ... الخ.
إن الخطوة الاولى في تقديم فهم عملي وعلمي لـ " طبقة بذاتها" هو التعرف بعمق على شكل وجود هذه الطبقة، شكل علاقتها برأس المال، المراكز النشطة أو الفعالة في الطبقة، ممَ تتألف أقسام هذه الطبقة... الخ لأنه بدون فهم هذه السيرورة، لا يمكن الوصول الى الشرط الذاتي للحركة، ولا يمكن بناء وسائل التحرر الذاتي.
ساكتفي هنا ببعض الإشارات، ولن أتطرق الى تقييم تصورات اليسار عن هذه المسألة، إذ أن ذلك يتطلب دراسة تفصيلية واستشهادات بنماذج وتجارب. أن التقييم يتطلب التوسع كثيراً بالموضوع، وهو ما لا تسمح به مقالة، وقد آثرت أن أكتب ملاحظات مختصرة لنشرها في أوساط العمال، نظراً لتسارع الأحداث في العراق، والحاجة الى نقطة إنطلاق لتحليل ما يجري وبناء سياسات إزاءه. كما إن المقالة، وهذا هو الأهم، لن تكون موجهة الى اليسار ومنظمات اليسار، بل الى المعنيين بالموضوع مباشرة، أي الى العمال، وخاصة المحتجين.
لقد قام أكثر من كاتب يساري بتناول موضوع الإحتجاجات الأخيرة، ومكانة ودور الطبقة العاملة فيها. ولكن التحليلات لم تخرج عن إطار التصورات التقليدية، وصياغة البيانات، والإنطلاق من الاطر المفاهيمية العامة، ثم تقديم التوجيهات التي غالباً ما ترتبط بالمناسبات والأحداث. ويتخذ شكل التدخل العملي لدى العديد من فرق اليسار، على الأغلب، المشاركة في فعاليات ونشاطات بعد وقوعها، وهو ما لا يمكن أن يمثل سياسة عمالية إشتراكية. في حين إن الشرط الذاتي للتحرر، يتطلب إمتلاك الطبقة العاملة وسائلها في كل مرحلة، وليس المشاركة " العملية" كرد فعل لتصاعد الحراك الشعبي.
متى يمكن إكتساب الذات أو تكامل الذات؟
هل تعني الذات الإرادة؟
من الممكن أن تكون إحدى عناصر الذات، بل أهم عناصرها هي الإرادة. كان مصطلح "طبقة بذاتها" قد استخدمه ماركس للإشارة الى طبقة الفلاحين. إن طبقة الفلاحين هي طبقة مستغَلة ومتفرقة في نفس الوقت، وقرارها السياسي ومصيرها هو بيد السيد الإقطاعي بالطبع. وليس هناك نقابة فلاحية أو منظمة فلاحية، ويقع الفلاح بين البروليتاري منزوع الملكية والملاك الصغير، أي هو متردد سياسياً وليس لديه ايديولوجيا خاصة. إن الملاك الصغير متذبذب بين البرجوازية والطبقة العاملة بحكم موقعه الطبقي، وهو يميل الى المحافظة على النظام السياسي القائم، حيث يمكنه الحفاظ على موقعه فيه. أما العامل فلا يمكن أن يكون بلا سياسة ولا أيديولوجيا ثورية تمثله، ليس رغبة بالثورية، بل بحكم موقعه الطبقي ودوره التاريخي الذي يتطلب ذاك.
وإذا ما القينا نظرة على التاريخ القريب للبروليتاريا الريفية في العراق، والتي ينحدر منها أسلاف الطبقة العاملة العاملة في العراق، سنجد فقراً وإستغلالاً يتجاوزان ما يتعرض له العامل في المدن. ولكن الذات السائدة هي ذات الشيخ، وخاصة الشيخ إبن العم، أو شيخ القبيلة العام الذي تربطه بالفلاحين رابطة الدم، والفلاحون يحملون السلاح ويقاتلون معه في حروبه وغزواته ضد سائر الشيوخ الإقطاعيين. إن ممثل ذات وإرادة وقرار المجتمع الريفي القبلي هو الشيخ، مثلما إن ممثل إرادة وقرار وسياسة المجتمع الرأسمالي في مجتمع المدينة، هي الطبقة الحاكمة وهي تنتمي الى البرجوازية، الى أصحاب المليارات، والذين خاطبهم الشاب بأنهم “لن يهنأوا” ما دام هنالك فقراء وجياع.
لايكفي الإنخراط في أي حراك شعبي من قبل جماهير الشغيلة، للتعبير عن ارادتها، إذ إن العديد من الشغيلة ينخرطون في تجمعات وتظاهرات تعود لحركات تعبر عن إرادتها الخاصة ومصالحها، ولكن بشعارات شعبوية عامة، بحيث يصبح الجمهور المشارك أرقاماً لها، أو محسوباً عليها. كما إن البرجوازية غالباً ما " تسمح" براديكالية الشعارات والهتافات في التظاهرات، لغرض احتواء الجمهور ثم تنفيذ أجندتها وسياساتها.
إن شكل علاقة النظام السياسي بالإقتصاد وبالإستغلال الطبقي، أي نوع علاقات الإنتاج وتعبير النظام السياسي عنها، تترك تأثيرها في شكل علاقة العمل المأجور بالسياسة والسلطة. ويتعين دراسة هذا المسألة لا في إطارها العام، بل في الشكل الذي تبدو عليه في المجتمع بصورة عملية. أي ما هو شكل علاقات الإنتاج التي يجري عن طريقها استغلال العمل المأجور؟ من المؤكد إنها علاقات انتاج رأسمالي. ولكن كيف تتجسم؟ وما هو الشكل الذي تتجسم به الطبقة العاملة أو الشغيلة؟ وكيف يجري استغلال العمل المأجور؟
إن معرفة درجة تركيز علاقات الإنتاج، والطريقة التي تجري بها في مكان بعينه، ستساعد على فهم مراكز الحركة العمالية. هل هي البروليتاريا الصناعية؟ البروليتاريا الريفية؟ جموع شغيلة متفرقة في الكدح؟ واذا كان نسبة العاملين في العراق ضمن ما يعرف بالإقتصاد غير الرسمي، أكثر من 56% وأغلبهم ضمن فئات الكادحين، أو العاملين بالأجر اليومي أو العمل الوقتي، فمالذي يجمع، أو يبلور، هذه الجموع في "ذات" موحدة؟
إن التعمق في فهم الشكل الذي تقوم به الرأسمالية بإستثمار العمل المأجور، سيمكن الطبقة من التعرف على أقسامها بصورة أوضح، ومعرفة أشكال الإستغلال وأشكال المقاومة ومراكز القوة الطبقة العاملة.
الذات هي الإرادة الواعية.
هل تتطور "الذات" عرضياً أو تلقائياً بفعل ديناميات الصراع الإجتماعي؟
هل تنشأ عبر جهاز واعي؟ أي منظمة لها فلسفتها وبرنامجها ووسائلها؟
من الممكن أن تكون هذه الأسئلة مادة لنقاش مطول وموسع يخوض في سوسيولوجيا الطبقة العاملة، لأن الوصول الى فهم سوسيولوجيا الطبقة، يقتضي المرور بمستوى تطورها التاريخي، درجة تركيز علاقات الإنتاج، مستوى التطور الإجتماعي، مستوى تأثير الأيديولوجيا البرجوازية، وغيرها من العوامل التي تخص وجود وحياة الطبقة العاملة. وبهذا الصدد أشار ويلهلم رايش بحماس، الى دور فهم السيوسيولوجيا في الثورة الإجتماعية، عندما أشار الى دور لينين، ووصفه بأعظم عالم إجتماع إستطاع فهم نفسية الجماهير.
ما هي وسائل التعبير عن الإرادة وكيف تتشكل؟
إن وسائل التعبير عن الإرادة، أو وسائل التحرر الذاتي، هي الأداة السياسية للطبقة العاملة، الحزب العمالي بالمعنى الواسع، وخاصة الشكل الذي عبر عنه ماركس في أكثر من مناسبة، أي المعنى الواسع التاريخي للطبقة والحزب.
فهم الذات يعني أن تمتلك الجموع إرادة نابعة من التعبير عن خصائصها، مصالحها، أهدافها، عناصرها الداخلية. وأن تكون وسائل التعبير عن الإرادة مصدرها الجمع نفسه، الذات نفسها.
وبكلمة؛ هل إن إكتساب الطبقة العاملة " ذاتها" يأتي عن طريق الفهم أو الوعي؟ أم عن طريق دينامية الصراع الطبقي؟
في الحقيقة إن الإحساس بالطبقية وبالفوارق والإستغلال، هي مسألة يومية يعانيها ويعبر عنها الإنسان المستغل المحروم. ويمكن أن يمضي أبعد من الإحساس بالظلم، أي الى الإشتراك في احتجاجات واعتصامات، ولكن هذا لا يكفي لتتحول طبقة العمال، ومعها ملايين المحرومين والكادحين، الى طبقة بذاتها، أي طبقة لها سياستها ومنظماتها وأهدافها ونموذجها في تسيير الحياة. إن الإحساس بالظلم والإستغلال يمكن أن يقود الى أشكال نضالية يومية أو فردية، أو حتى النضال تحت راية طبقة وحزب آخر.
لقد جرى طرح مسألة إكتساب الوعي السياسي في كراس لينين مالعمل، قبل أكثر من قرن، بصورة أثارت الجدال طوال عقود. لقد تغيرت الوقائع كثيراً، وتغير المستوى المعرفي والثقافي والسياسي للطبقة العاملة بصورة عامة على مستوى العالم.
إن الحس الطبقي في العراق صاحب جذور عميقة، كما إن الثقافة السائدة في العراق، وخاصة في مجال الأدب والفن، ومنذ تبلورها أوائل القرن العشرين، لم تكن ثقافة البرجوازية، بل ثقافة بروليتارية ذات محتوى اشتراكي. ولم يكن الأدب ذا طابع ارستقراطي. لقد كانت أول رواية عراقية أوائل العشرينيات والتي حملت إسم "جلال خالد"، قد كتبها أحد مؤسسي الماركسية في العراق، وهو محمود أحمد السيد. كما أن الأدب الشعري في العراق تناول القضايا الطبقية، وكان أحد أهم الأساليب التحريضية والتعبوية بيد اليسار خلال عقود، سواء الشعر المكتوب باللغة الفصحى أو الشعر الشعبي المكتوب باللغة الدارجة. وحتى الفن التشكيلي في العراق، كان ذا طابع يساري إشتراكي. ولم تستطع البرجوازية في العراق إنتاج أدبها الطبقي، واستمرت تنظر الى الشعراء والأدباء كمعارضة. وقد تجلى تأثير اليسار والقيم الإشتراكية حتى في الفنون التي تبدو بعيدة عن التحريض الطبقي المباشر مثل التشكيل والمسرح.
لقد عززت البرجوازية العراقية القيم العشائرية والدينية، وسعت الى تقوية الثقافة التي تستمد جذورها من العشيرة والدين. كما إنها لم تتجرأ على نشر قيم طبقية مباشرة، فلجأت الى تعزيز المراتب الإجتماعية كالشيخ أو السيد أو الآغا والإحتماء ورائها. وإزاء الضعف التاريخي للأيديولوجيا البرجوازية، يصبح بإمكان الطبقة العاملة طرح ثقافتها وقيمها كقيم ممثلة للمجتمع. إن هذا الجانب هو مرتكز تاريخي بيد الطبقة العاملة، وخاصة فيما يتعلق بمسألة الوعي الطبقي. وهذه المسألة بالذات يمكن الخوض فيها أكثر، وهي تشكل أرضية صلبة للنضال الفكري والنظري بيد الطبقة العاملة.
كيف تتجلى دينامية الصراع الطبقي في المجتمع؟
يظهر النضال العمالي في العراق، وفي البلدان المشابهة، بدءاً بنضال يومي ذي طابع اقتصادي، وصولاً الى نضال بوجه الأزمة، وهو نضال يمكن أن يتطور الى نضال سياسي واعي. إن النضال من أجل رفع الاجور، تحسين ظروف العمل أي النضال الإقتصادي، هو نسبياً محدود في العراق، ولا يكاد يصل حد المواجهات والإضرابات. إن النضال اليومي الأبرز هو ما يمكن أن نسميه نضال أزمة، أي المطالبة بالتشغيل، النضال من أجل السكن والخدمات العامة، النضال بوجه الفساد، أو المطالبة بالحريات السياسية، وصولاً الى المشاركة في الأحداث السياسية العامة.
كيف يمكن وضع نضال "الأزمة" العمالي في إطار الصراع الطبقي مع الطبقات السائدة، أو النضال بوجه السياسة الإقتصادية بوجه عام؟
إن النضال المطلبي المتواصل، وغير القابل للحل في إطار السياسة الإقتصادية الجارية، يصبح نضالاً بوجه الأزمة، أي نضال ذو طابع سياسي. وحيث أن هذا النوع من النضال يمس حياة ملايين الكادحين والمحرومين، فإن تنظيم هذا النضال، وكشف ماهيته الطبقية والسياسية، وتوسيع نطاق المطالب، ودمج أوسع الأوساط الشعبية فيه، ومحاربة الأوهام الشعبوية، ووعود السلطات، وتطوير الوعي الإشتراكي بين القادة المباشرين، كلها تشكل عناصر بناء "الذات"، وبناء الوسائل السياسية للطبقة العاملة.
مع تعقد الأزمة وعجز النظام، تتصاعد راديكالية فئات غير بروليتارية، مثل الفئات الوسطى، الكادحين، صغار الكسبة والحرفيين. وتتصاعد التيارات السياسية الممثلة لها، أو الأحرى التي تعتاش من إعتراضاتها. أو التيارات ذات النماذج المخططة العقائدية، القومي الراديكالي، كالبعث السابق أو الإتجاهات القريبة منه، التيارات الدينية أو الإسلام السياسي، الـ "بروغربي" أي ممثلي تيارات ليبرالية صغيرة موالية للنموذج الغربي، وتتخفى هذه التيارات داخل الأوساط الشعبية العامة.
وهنا يتعاظم دور النظرية الثورية، كأداة في تحليل وكشف الترابط، بين أفكار وتوجهات التيارات السياسية ومصالحها الطبقية. بل وفي توجيه الجموع للتعرف أكثر، على دور الأفكار كوسائل سياسية بيد الطبقات.
هناك الإستغلال الذي يجري بالوسائل غير الإقتصادية، مثل الإستغلال في قطاع الزراعة القائم على الإستغلال البطريركي العائلي. مثل استغلال النساء الشغيلة في الزراعة. إن الإستغلال العائلي هو انتزاع لفائض العمل، أو الأحرى السيطرة على العمل المجاني، أي العبودي وبوسائل غير اقتصادية، قائمة على الروابط العائلية. ولكن هذه الروابط وهذه الطريقة في الإستغلال تمثل علاقات انتاج. وهنا سنكون وجهاً لوجه أمام جموع مليونية من الشغيلة، غالبيتها من النساء، لاتشكل فقط طبقة بذاتها، بل إنها لا تُعرّف اصلاً على انها جزء من الطبقة العاملة. خاصة إذا عرفنا ان الزراعة هي قطاع الإنتاج السلعي الثاني في العراق من حيث المساهمة في الناتج الإجمالي، وإن الجمهور المنخرط في العمل ضمنه هو جمع مليوني. إن تطوير الوعي السياسي هنا، والنضال الطبقي بحاجة الى وسائل غير النضال الإقتصادي أو النضال في المدن.
بإختصار؛ ما زالت مسألة بناء الذات الطبقية العمالية، بعيدة عن أن تتطور الى مستوى وسيلة سياسية، أو أداة للتعبير عن مصالح وأهداف وسياسة طبقة صاعدة، طبقة تسعى لتحرير نفسها وتحرير المجتمع.
إن الإستعداد للتضحية عال وواضح، والإستعداد لمواصلة النضال يظهر بشكل يومي بلا انقطاع، ومن جانب آخر، فإن أزمة النظام السياسي تبدو مستعصية، وهو لم يتمكن من تحقيق أي إصلاح حتى مع الوفورات المالية الكبيرة.
إن الوسائل الحالية التي تتبعها أغلب المنظمات العمالية، ما زالت بعيدة جداً، ليس فقط عن بناء أدوات نضالية بيد الطبقة العاملة، بل عن هضم دينامية الصراع الإجتماعي وموقع الطبقات فيه. ولكن عمق الأزمة الإجتماعية يدفع أقساما من العمال أكثر فأكثر، الى تبني راديكالية طبقية حية قابلة للتطور.