حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية 2
عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن
-
العدد: 4937 - 2015 / 9 / 26 - 20:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حتى القرضاوي يريدها دولة ديمقراطية مدنية 2
أواصل في هذه المقالة الثانية قراءة مقالة القرضاوي "دولة مدنية مرجعيتها الإسلام":
http://qaradawi.net/new/library2/294-2014-01-26-18-55-04/4029-
ثم يكتب القرضاوي: "هذا الحاكم في الإسلام مقيد غير مطلق، هناك شريعة تحكمه، وقيم توجهه، وأحكام تقيده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره من المكلَّفين: رب الناس، مَلِك الناس، إله الناس. ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذه الأحكام، ولا أن يُجمِّدوها. ولا أن يأخذوا منها ويدعوا بأهوائهم. (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب:36]."
فماذا بقي للدولة المدنية إذن؟ ماذا بقي لها من مدنية مادامت خاضعة لأحكام الشريعة المتعالية على الشك والنقد والتعديل والتطوير والتغيير سواء قام على تطبيقها وإلزام الناس بها (مدنيون) أو رجال دين؟ ماذا بقي لأفراد هذه الدولة إذا كان يجب عليهم أن يتوقفوا نهائيا عن التطور في مأكلهم وملبسهم وحلهم وترحالهم حتى يظلوا على وفاق مع شريعتهم خاصة إذا علمنا أنها لم تترك صغيرةً أو كبيرةً إلا وحشرت أنفها فيها، إلا وكان لها فيها رأي واجب أو محمود أو مكروه أز مندوب، من دخول المرحاض إلى كيفية الجماع إلى كيفية التعامل عند وقوع الذبابة في اللبن..؟
القرضاوي لا يفهم من الدولة المدنية إلا أنها دولة غير كهنوتية، دولة لا يتولى فيها رجال الدين مقاليد الأمور مباشرة، وهو فهم أبعد ما يكون عن الدولة المدنية كما اصطلح على تعريفها في الفكر السياسي الحديث (تستمد شرعيتها من العشب، دولة العقد الاجتماعي بين مواطنين أحرار متساوين، دولة المواطنة، دولة التساوي في الحقوق والواجبات، دولة هي فوق ذلك كله تفصل بين الدين والدولة... الخ).
لكننا نعرف أن المسلمين عموما لا يلتزمون دائما بأحكام شريعتهم كلها، رغم أن ما التزموا به منها أوقعهم في تناقضات لا حد لها وهم يحاولون التأقلم الصعب جدا مع مقتضيات الحداثة والالتزام بالشريعة في الوقت نفسه. وهو مصدر هذا الكم الهائل من التصرفات المنافقة التي كانت دائما لصيقة بحياة المؤمنين. ولعل محمدا ومن خفله قد انتبهوا إلى ذلك باكرا مثلما نعرف حول سبب نزول آية (اتقوا الله حق تقاته) ثم نُسِخَت واستُبْدِلَت بآية (اتقوا الله ما استطعتم)، كما نعرف من مئات المرويات من الأحاديث والآيات حول طرق التكفير عن الذنوب المتراكمة نتيجة الانحراف عن الشريعة: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفِر له ما تقدم من ذنبه) أو حديث" من صام يوم عرفة غُفِر له سنةٌ أمامه وسنةٌ خلفه، ومن صام عاشوراء غُفِرَ له سنةٌ) وحديث (مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ).
بل حتى فقهاء الإسلام اضطروا إلى التحايل على الشريعة مثلما كان مع (فقه الحِيَل)، ومثلما هو اليوم مع (فقه الواقع)، ومثلما هو الحال مع ظاهرة التشكيك المتسارعة في ما ورد في أصح كتابين بعد القرآن (صحيحي البخاري ومسلم). بل في محاولات القرآنيين من التملص من سنة نبوية أصبحت اليوم غير قابلة للدفاع عنها كلها أمام فتوحات العلم وضغوطات حقوق الإنسان.
لكن، من جهة أخرى، هل القرضاوي يجهل أم يخادع وهو يقول هذا الكلام؟ هل حقا وُجِدَت في شريعة الإسلام قيمٌ توجه الحكام، وأحكامٌ تقيدهم؟
نحن، مثلا، نعرف أن الحضارة اليونانية والرومانية قد تطورتا على مر العصور حتى أبدعتا أنظمة سياسية جديرة بهذا الاسم بينما كان الظلام الدامس يخيم حولهما، رغم أنها سبقت الإسلام بألف عام. طبعا لا يمكن أن نقارن نوعية تلك الأنظمة بما أبدعه البشر في أيامنا من ضوابط قانونية ودساتير ومواثيق لا يتوقفون عن تطويرها وإقامة التحصينات ضد إمكانية التحايل عليها، ولكن، من جانب آخر، لا يمكن مقارنة النظام السياسي الإسلامي بذلك الذي أبدعه اليونان والرومان. القول الذي أوردتُه آنفا منسوبا إلى أبي جعفر المنصور يلخص طبيعة الحكم في الإسلام طوال أربعة عشر قرنا، ومازال ساري المفعول حاليا في بلداننا، خاصة تلك التي تحتكم إلى شريعة الإسلام. قال ("أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه ورشده، وخازنه على ماله، أقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، وقد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني، فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه، في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه، إذ يقول: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا، أن يوفقني للصواب، ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم، والإحسان إليكم، ويفتحني لإعطائكم، وقَسْمِ أرزاقكم بالعدل عليكم، فإنه سميع مجيب" .
http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=1163&idto=1163&bk_no=59&ID=1332
ثم يكتب القرضاوي كذبة أخرى يهتز منها عرش الرحمن (لو وُجِد فعلا). قال: (وهناك أمة هي التي اختارت هذا الحاكم، وهي التي تحاسبه، وتقوِّمه إذا اعوَجَّ، وتعزله إذا أصر على عِوَجِه، ومن حق أي فرد فيها أن يرفض طاعته إذا أمر بأمر فيه معصية بيّنة لله تعالى. بل من واجبه أن يفعل ذلك، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: "السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يُؤْمَر بمعصية، فإذا أُمِرَ بمعصية فلا سمعٌ ولا طاعة"، والقرآن الكريم حين ذكر بيعة النساء للنبي، وفيها طاعة النبي وعدم معصيته: قَيَّد ذلك بقوله: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ). هذا وهو المعصوم المؤيد بالوحي (يقصد محمد)، فغيره أولى أن تكون طاعتُه مقيدة).
فمتى وُجِدت في تاريخ الإسلام الطويل العريض أمةٌ اختارت هذا الحاكم، أو حاسبته، أو قَوَّمته إذا اعوج، أو عزلته إذا أصر على عِوَجِه"؟
ما وُجِد فعلا هو أن البيعة، كما اتفق الفقهاء، هي مرة واحدة ومن خرج على الحاكم استحق القتل. ما وجد فعلا هو كثرة كثيرة من الأحاديث تأمر المسلمين المحكومين بالطاعة العمياء.
هذا غيض من فيض من النصوص الإسلامية التي تأمر بطاعة الحكام، بما فيها الظَلَمَة: "اسمعوا وأطيعوا وإن استُعْمِل عليكم عبد حبشيٌّ كأن رأسه زبيبة" (!) (رواه البخاري). "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يُؤْمَر بمعصية، فإذا أمِرَ بمعصية فلا سمعٌ ولا طاعة" (رواه البخاري ومسلم). "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يُطِعِ الأميرَ فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جُنّة يُقاتَل من ورائه ويُتَّقَى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه. (رواه البخاري).
هذا إذا عرفنا مدى زئبقية مصطلح المعصية التي يضعها الفقه الإسلام كشرط للطاعة والتي لا يتفق حول مداها اثنان. لكننا نجد بين نصوص هذه الشريعة أحاديث تأمر بطاعة الحاكم حتى عند المعصية مخافة الفتنة: "يكون بعدي (بعد محمد) أئمةٌ لا يهتدون بهداي ولا يستَنُّون بسنتي وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبُهم قلوبُ الشياطين في جثمان إنس قال: قلتُ: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك، قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمعْ وأطعْ (رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي والألباني):
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=107887
وحديث نبوي عن مسلم: "خيارُ أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا نُنابِذهم (نعاديهم) عند ذلك، قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا من وُلِّيَ عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة". هي الطاعة المطلقة إذن.
أين نحن إذن من كلام القرضاوي: "(وهناك أمة هي التي اختارت هذا الحاكم، وهي التي تحاسبه، وتقومه إذا اعوج، وتعزله إذا أصر على عوجه، ومن حق أي فرد فيها أن يرفض طاعته إذا أمر بأمر فيه معصية بيّنة لله تعالى. بل من واجبه أن يفعل ذلك، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". خاصة إذا عرفنا أن معصية الحاكم تختصر في مدى التزامه بأحكام شريعة هي أصلا ظالمة لعموم الناس، ومع ذلك لا يرى الفقهاء وجوب الخروج عليه مخافة الفتنة فقال (ظلم غشوم خير من فتنة تدوم".
ثم يقول القرضاوي إفكا آخر: "ولم نر أحدا من الخلفاء في تاريخ الإسلام، أضفى على نفسه، أو أضفى عليه المسلمون: نوعا من القداسة، بحيث لا ينقد ولا يُقَوَّم، ولا يؤمر ولا ينهى".
هذا الحاكم لم يوجد أبدا، وإذا وجد فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه. الحكام في دولة الإسلام لم يختلفوا أبدا عن غيرهم من حكام أزمنتهم. هم آلهة أو أنصاف آلهة، لا يكادون يمشون على الأرض.
أما عن بعض المشاهد مثلما يسرد لنا القرضاوي عن أبي بكر: "إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، فبوسعنا أن ننسبها مباشرة إلى قرب نظام الحكم يومئذٍ من بداوة كان عليها الناس، ولكنها سرعان ما اختفت ليحل محلها حكام لا يرون أنهم يستمدون شرعيتهم من الرعية بل من الله حتى يتعالوا عن المحاسبة أمام البشر، كما قال عثمان "لن أنزع قميصا سربلينه الله". بل حتى أبو بكر لم يقبل الاعتراض على توليه السلطة، فعندما تخلف علي بن أبي طالب عن المبايعة بعث إليه عمر بن الخطاب فانتهك بيته وجاء به مقيدا وطلب من أبي بكر ضرب عنقه إذا امتنع.
ثم يقول القرضاوي: "أتمثل هذه الدولة -وهذا منهاجها، وهؤلاء أفرادها- دولة دينية تحكم بالحق الإلهي؟ أم هي دولة يحكمها بشر غير معصومين، تقيدهم شريعة الله، وتراقبهم الأمة، وتحاسبهم، وتعتبرهم أجراء عندها كما قال أبو مسلم الخولاني لمعاوية".
فهل كان معاوية أجيرا عند الأمة كما يكذب القرضاوي، وهو الذي حوّل الخلافة إلى ملك عضوض احتكره بنو أمية وتداولوه مثلما تُتَداول الكرة، كما أوصى أبو سفيان "تَلَقَّفُوها الآن تَلَقُّفَ الكرة فما من جنة ولا نار"؟ هل عٌرِف في تاريخ الإسلام فصلٌ بين خزينة الدولة وخزينة الحاكم الشخصية أو بتعبير ذلك الزمان: بين مال الله ومال الحاكم؟ هل عرف يوما في تاريخ الحكم الإسلام نظام مالي جدير بهذا الإسلام. بل حتى عثمان بن عفان كان قد ضرب ابن مسعود خازنه على بيت المال لأنه حاول محاسبته محتجا على إنفاق الأموال في صالح قرابته.
ثم يستشهد القرضاوي بقول عبده: (إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدِّينية ... التي عرفتها أوربا ... فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر ... وهي سلطة خوَّلها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم ... والأمة هي التي تولي الحاكم ... وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة، عند المسلمين، بما يسميه الأفرنج (ثيوكرتيك)، أي سلطان إلهي ... فليس للخليفة -بل ولا للقاضي، أو المفتي، أو شيخ الإسلام- أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي ... فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه ... بل إن قلب السلطة الدِّينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أجَلِّ أصول الإسلام؟!).
ومع أن ما قاله عبده هو مجرد أمنية لا علاقة لها بواقع الحكم الإسلامي أراد بها الحث على ضرورة تبني نظام الحكم الغربي باعتباره نظاما من صميم نظام الحكم الإسلامي، بل لعل قولة عبده مجرد إسقاط متعمَّد بنية حسنة لنظام الحكم الغربي على واقع الحكم الإسلامي، خاصة ونحن نعرف قولته المشهورة التي لا يقبلها الإسلاميون: "ذهبتُ إلى الغرب فوجدتُ إسلاماً ولم أجد مسلمين ولما عدتُ إلى الشرق وجدتُ مسلمين و لكن لم أجد إسلاماً" (مقالتي):
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=482509
مع هذا فالقرضاوي حرص على النأي بنفسه من الالتزام بمضمون قولة عبده بقوله: "لكن نفي (الوصف الدِّيني) -أعني الكهنوتي والثيوقراطي والحكم بالحق الإلهي بواسطة طبقة بعينها- لا يعني نفي (الوصف الإسلامي) عنها. فهي دولة (مدنية) مرجعيتها الشريعة الإسلامية".
وهو ما يعني حرصه على ضرورة ربط الدين بالدولة حتى يظل بعيدا عما يمكن أن يتهم به من تقصير في حق الدين لصالح العلمانية لو سكت عن عبده.
يتبع