عندما يكون الكذب والتدليس منهجا للإصلاح 2
عبد القادر أنيس
الحوار المتمدن
-
العدد: 5062 - 2016 / 2 / 1 - 23:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أواصل في هذه المقالة الثانية قراءة "إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي"
http://urlz.fr/30LK
بعد هذا نقرأ في هذا الإعلان: " واعتبارا لما تعانيه الأقليات الدينية بسبب هذه الأوضاع من تقتيل واستعباد وتهجير وترويع وامتهان للكرامة مع أنها عاشت في كنف المسلمين وذمتهم قرونا، في جو من التسامح والتعارف والتآخي، سجل التاريخ تفاصيله وأقر به المنصفون من مؤرخي الأمم والحضارات".
من يصدق هذا الكذب والتدليس لا بد أن ينتهي إلى نتيجة منطقية مفادها أن ما نال الأقليات في العالم العربي الإسلامي في أيامنا من ويلات على أيدي الإرهابيين هو مجرد حادث طارئ على تاريخ المنطقة تسبب فيه إرهابيون لا علاقة لهم بها ولا بما درسوه في مدارسها وسمعوه من أئمة مساجدها ووسائل إعلامها. فهذه الجرائم كما يقول الإعلان مباشرة بعد هذه الكذبة إنما "تُرْتَكب باسم الإسلام وشريعته؛ افتراءً على الباري جل وعلا، وعلى رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام، وافتياتا على أكثر من مليار من البشر؛ تعرض دينُهم وسمعتُهم للوَصْم والتشويه، وأصبحوا عرضةً لسهام الاشمئزاز والنفور والكراهية؛ مع أنهم لم ينجوا من هذه الجرائم ولم يسلموا من ويلاتها".
هو كذب لأن كل الأقليات، وفي كل زمن ومكان، ولا تشذ بلاد المسلمين عن غيرها من البلدان في المعمورة حتى أيامنا (باستثناء بلدان الحداثة والديمقراطية والعلمانية حديثا)، لم تعش "في جو من التسامح والتعارف والتآخي" كما نقرأ في الإعلان. الأقليات في كل زمان ومكان وفي جميع أصقاع الأرض المتخلفة خاصة، ما تمكنت من الحفاظ على وجودها إلا على حساب تضحيات كبيرة دفعتها من كرامتها وشرفها وعزتها خضوعا وإذعانا وتفريطا في هوياتها ولغاتها وأديانها مخافة الإبادة، مما جعلها تتضاءل على مر الأزمان لتذوب في الأغلبيات أو لتلوذ بجلدها فرارا إلى رحاب أخرى قد تجد فيها الأمن والرحمة. لقد قدمت الأقليات كل التنازلات الممكنة للاستمرار في العيش في أوطانها. العهدة العمرية، ومهما حاول البعض التستر عليها، تعبر بوضوح مقرف عن الموقف العام من الأقليات في تاريخنا القديم والحديث. نقرأ في هذه العهدة كما ذكرها موقف إسلام ويب التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية:
" إنَّا (أي أهل الذمة مخاطبين عمر بن الخطاب) حين قدمتَ بلادَنا طلبنا إليك الأمان لأنفسنا، وأهل ملتنا على أنا شرطنا لك على أنفسنا: ألا نحدث في مدينتنا كنيسة، ولا فيما حولها ديراً، ولا قلاّية (بناء كالدير)، ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خُرِّب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين، وألا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوساً، وألا نكتم غشا للمسلمين، وألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفيفاً في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليباً، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون، وألا نخرج صليبا ولا كتاباً في سوق المسلمين، وألا نخرج باعوثاً - والباعوث يجتمعون كما يخرج المسلمون يوم الأضحى والفطر- ولا شعانين (عيد للنصارى)، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، وألا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركاً، ولا نرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً، ولا نتخذ شيئاً من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين، وألا نمنع أحداً من أقربائنا أراد الدخول في الإسلام، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، وأن نجزَّ مقادم رؤوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشدُّ الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إن أرادوا الجلوس، ولا نطلع عليهم في مجالسهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا يشارك أحد منا في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيامٍ، ونطعمه من أوسط ما نجد. ضَمِنَّا لك ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكيننا، وإن نحن غيّرنا أو خالفنا عمّا شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق".
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=7497
للعلم فقد قدمت موسوعة ويكيبيديا تعريفاً بهذا الموقع: "موقع إسلام إسلام ويب هو موقع إسلامي دعوي تم تدشينه منذ عام 1998م، ويتميز بالشمولية والاعتدال والإتقان، مما يجعل من الموقع صرحا شامخا، وبناء قويا في عالم الإنترنت. ويضم الموقع مليون ونصف صفحة إلكترونية، كما أنه يحتوي على 140,970 فتوى، و 37,143 استشارة، و203,352 ملف صوتي، وبلغ عدد زائريه 70 مليون زائر خلال عام 2011 فقط زاروا خلالها 369 مليون صفحة".
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85_%D9%88%D9%8A%D8%A8
هذا الكلام في حق الأقليات مازال ينشر حتى أيامنا بدون خجل، منسوبا إلى أعدل خليفة مسلم، وفي موقع تابع لدولة عضو في الأمم المتحدة وهي مع ذلك أهم دولة عربية إسلامية تؤيد الإرهاب بالتمويل والإعلام.
قول إعلان مراكش بأن هذه الجرائم "تُرْتَكب باسم الإسلام وشريعته؛ افتراءً على الباري جل وعلا، وعلى رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام، وافتياتا على أكثر من مليار من البشر؛ تعرض دينُهم وسمعتُهم للوَصْم والتشويه، وأصبحوا عرضةً لسهام الاشمئزاز والنفور والكراهية؛ مع أنهم لم ينجوا من هذه الجرائم ولم يسلموا من ويلاتها". فيه من الكذب الشيء الكثير.
فمن الكذب القول بأن هذه الجرائم "تُرْتَكب باسم الإسلام وشريعته؛ افتراءً على الباري جل وعلا، وعلى رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام"، فكثيرة هي آيات القرآن وأحاديث محمد التي تشجع المسلمين على احتقار غير المسلمين باعتبارهم صُمّاً بُكْماً عُمْياً كفارا ملعونين مصيرهم جهنم وبئس المصير، بما في ذلك أهل الأديان المعترف بكتبها على أنها سماوية، لكن بعد أن تحكم عليها على أنها محرّفة، وبالتالي فمعتنقوها على ضلالة.
وهذا ما يقرأه المسلمون في كل صلاة. فجميع المفسرين متفقون على أن المقصود بالآية التي وردت في سورة الفاتحة: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، هم اليهود والنصار
ى.
هذا موقف إسلام ويب مرة أخرى يغنينا عن البحث، حيث يقول: "فقد سبق أن ذكرنا بالفتوى رقم :11233 أن المقصود بـ : المغضوب عليهم: اليهود، والمقصود بـ: الضالين: النصارى، وذكرنا قول ابن كثير أنه لا يعلم اختلافا في تفسيرهما بذلك (!!!)، ومثله قال ابن أبي حاتم فيما نقل عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، ونقل الحافظ عن السهيلي أنه قال: وشاهد ذلك قوله تعالى في اليهود: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ (البقرة: 90) وفي النصارى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا (المائدة 77) وروى الإمام أحمد في مسنده عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى".
فإذا كان الله قد حكم على هؤلاء البشر هذا الحكم، وكذا حكم رسوله، فما ذنب المسلمين، إذا أطاعوا الله ورسوله، وهم فوق ذلك مطالبون بالطاعة العمياء (وما كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) (سورة الأحزاب، 36)؟ لكن لحسن الحظ أن المسلمين البسطاء كما أعرفهم والذين يقرأون الفاتحة في كل ركعة طوال النهار وشطر من الليل قلما يفهمون المقصود بالضالين والمغضوب عليهم، الجماعات الدينية تفهم ذلك وتحاول ما استطاعت التقيد به في حياتها وتعمل على تفعليه عندما تتمكن من ذلك. مع ذلك فالمسلم يتربى منذ نعومة أظافره على كراهية المختلف، خاصة المختلف دينا. منذ صغري، مثلا، كنت أسمع الناس حولي، بمن فيهم ذويّ، كلما ذكروا أو ذُكِرت أمامهم كلمة يهودي أو يهود، قالوا (عليه أو عليهم اللعنة)، بينما النصارى بالنسبة إليهم كفار في نار جهنم.
وعليه فالإسلام، كتابا وسنة، ليس بريئا كما يدعي أصحاب الإعلان.
قول إعلان مراكش بأن مليار ونصف من المسلمين: " تعرض دينُهم وسمعتُهم للوَصْم والتشويه، وأصبحوا عرضةً لسهام الاشمئزاز والنفور والكراهية؛ مع أنهم لم ينجوا من هذه الجرائم ولم يسلموا من ويلاتها". فيه كذب وفيه طمس لجانب من الحقيقة، فدين المسلمين لم يتعرض للوصم والتشويه إلا لأنه وصم الآخرين وشوّه معتقداتهم في نظر أتباعه، بل وحثهم على كراهية الآخر المختلف دينا ومذهبا (الصراع بين السنة والشيعة مثلا، بل حتى الصراع بين الجماعات الإرهابية). أما ما صار يتعرض له المسلمون من (الاشمئزاز والنفور والكراهية)، فهذا مرده إلى أن الجماعات الإرهابية وهي تتقيد بالإسلام وتعيث فسادا في الأرض مهتدية بتعاليم هذا الدين، قد لفتت انتباه غير المسلمين إلى الإسلام فتوجهوا إليه ليتعرفوا عليه، واكتشفوا المستور. اكتشفوا الزيف والتضليل الذي عمل على إخفائه الإسلاميون وهم ينشرون الإسلام عبر الخداع والانتقائية:
لاحظوا هذه النكتة:
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=577151065776004&set=a.388855481272231.1073741828.100004433466520&type=3
طبعا بوسع أي قارئ أن يتحداني ويأتيني بنصوص أخرى مناقضة. هذا ممكن. لكن مشكلتنا تمكن أصلا في هذه الانتقائية الماكرة إلى أن ينقلب السحر على الساحر. فإذا كان أصحاب هذا الإعلان يبيحون لأنفسهم ممارسة الانتقائية والتدليس وهم يوهمون الناس بأن نصوص الإسلام تتفق مع مطالب حقوق الإنسان الحديثة، فإنه سيكون من حق الإرهابيين أن يمارسوا حقهم في الانتقاء ويقدموا للناس نقيض ذلك. ألم يقلْ قائلُهم منذ 14 قرنا بأن "القرآن حمال أوجه". فما العمل مع حمال الأوجه؟ أكيد أن الأخذ بأوجه دون أوجه ليس حلا إلا في ظل وضع استبدادي يفرض رؤية واحدة وحيدة كما كان الوضع سائدا في عصور الاستبداد قديما وحديثا، ولكن إلى حين فقط..
يتبع