أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسين علوان حسين - علم الأخلاق الماركسي ونعيم إيليا/ 2















المزيد.....


علم الأخلاق الماركسي ونعيم إيليا/ 2


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 7986 - 2024 / 5 / 23 - 01:00
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


أولاً. نظرية الأخلاق التطورية لا علاقة لها مطلقاً بالأخلاق ولا بمسببات التطور
يقول الاستاذ نعيم إيليا المحترم في تفسيره لمنشأ الأخلاق:
"والمرجَّحُ المختار المتعين ههنا أنّ النفس هي المنبع الذي تصدر منه الأخلاق. فتكون الأخلاق بهذا الترجيح، عند البحث فيها، قضيةً من قضايا علم الحياة. ودليل ذلك أن النظر إذا توجَّه إليها على ضوء نظرية التطور الداروينية المعروفة بتناولها بالتفسير العلمي مشكلاتِ الحياة البيولوجية للحيوان عامة مذ كانت الحياة خلية واحدة؛ وجد لها مناطاً بقانون حفظ النوع. وقد يُعبَّر عن هذا القانون بكلمة (حبّ الحياة). وهو حبّ ليس بإرادة البشر أنفسهم، بل بإرادة الحياة. وهي إرادة يجهلها البشر. فلا يعلمون لماذا يجب عليهم أن يحيوا.
إن قانون حفظ النوع من الاندثار، هو القانون الموكّل الجدير بتفسير وجود الأخلاق في النفس وصدورها عنها، تفسيراً إن لم يكن حاسماً، يكن أدنى إلى تفسير حقيقتها من سواه من القوانين العلمية، وأيضاً أدنى إلى تفسير حقيقتها من التأملات الفلسفية والدينية."
انتهى النص المقتبس.

مادامت مقدرة الكائن الحي على التكاثر وحفظ النوع هي المعيار المرجح للأخلاق حسب رأي الأستاذ نعيم إيليا المحترم في النص أعلاه، فإن البكتيريا هي أسرع وأكثر الكائنات الحية مقدرة على التكاثر، وبما يفوق القدرة التكاثرية للبشر بملايين الأضعاف. فمن المعلوم أن البكتيريا تتكاثر في المقام الأول عن طريق الانشطار الثنائي، وهي عملية لا جنسية تنقسم بموجبها خلية واحدة إلى خليتين. في ظل الظروف المثالية، قد تنقسم بعض الأنواع البكتيرية – مثل (clostridium perfringens) - كل 10-15 دقيقة، لتضاعف عددها خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة جداً. ومثلما يقول الأستاذ نعيم إيليا، فإن علم الحياة يُعبِّر عن هذا القانون بكلمة (حبّ الحياة). وهو حبّ ليس بإرادة البكتيريا نفسها، بل بإرادة الحياة. وهي إرادة تجهلها البكتيريا (وليس البشر أبداً)". إذاً، البكتيريا – وفق نظرية الأخلاق التطورية هذه - هي سامية الأخلاق لأنها تحب الحياة، ولا تعرف القتل والطمع والجرائم الجنسية وغيرها من الشرور الأخلاقية في المجتمعات البشرية، خصوصاً إذا ما علمنا أن أخلاقها التطورية السامية هذه هي التي تدفع نفوسها الحية لتوفير العناصر الغذائية اللازمة لاستمرار الحياة عن طريق تحويل المركبات الذائبة - مثل كبريتيد الهيدروجين والميثان - إلى طاقة، وهي مفيدة لبيئتها، وهي ضرورية للحياة، وتوفر ما يصل إلى 50% من الأكسجين الذي يتنفسه الإنسان.. فهل توجد أخلاق أسمى من هذه الأخلاق! (1)
معلوم أن كل الكائنات الحية- بحكم تعريفها العام – يجب أن تتكاثر لإدامة النوع، وبدون التكاثر فإنها تنقرض. غير أن التطور يعمل على الجينات، وليس على الأفراد الذين يؤلفون كل نوع حي. ومن المعلوم أن الجينات ليست كائنات حية بحد ذاتها، لكنها هي التي تبني الكائنات الحية. الجينات هي امتدادات من الحمض النووي داخل الخلايا، وكل جين واحد هو الوحدة الأساسية للوراثة في الكائنات الحية باعتباره المورث الذي تُشفَّر بواسطته المعلومات المهمة لتكوين أعضاء الجنين والوظائف العضوية الحيويّة له. لذا فإن الحمض النووي بحكم تعريفه كمادة حامضية ليس حيًا، بل هو أشبه بدليل تعليمات لصنع الحياة، ولكونه مادة حامضية ليست على قيد الحياة فهو لا يمكن أن يموت. وتأتي الجينات في هيآة "الأليلات" (alleles)، وهي أشكال مختلفة من الجين. على سبيل المثال، يتحكم جين ABO في فصيلة الدم البشرية حيث أن هناك 3 أليلات: A وB وO. وتعتمد فصيلة الدم عند البشر على أليلات جين ABO التي يحملونها. وتُفقَد الأليلات من الصفات الوراثية للمجموعات السكانية إما عن طريق 1) الصدفة أو 2) الانتقاء الطبيعي. وإذا كان الأليل عبارة عن طفرة جديدة، وبالتالي فهو موجود في فرد واحد فقط، فمن الممكن أن يموت/يُقتل هذا الفرد عن طريق الخطأ ولن يعد هذا الأليل موجودًا في المجتمع، أو قد يكون الأليل عديم الفائدة في تلك البيئة المحددة. لذا، فإن الانتقاء الطبيعي سيحافظ في النهاية على الأليلات الأخرى لهذا الجين وسيتم فقدان هذا الأليل. (2)
ماذا يعني الوصفي العلمي أعلاه؟ أنه يعني أن المسؤول الأول والأخير عن تكاثر كل الأنواع الحية بضمنها الانسان ليس هو أبداً أي أفراد من أفراد الأنواع الحية، أنما هي الجينات التي هي جماد. إذن الجينات الجماد هي الملكة في حقل الأخلاق التطورية في المجتمعات البشرية كافة وفق تعريف الأستاذ نعيم أيليا المحترم، فبوركت على هذه الأخلاق السامية! فوفق نظرية الأخلاق التطورية هذه فإن الذي ضرب هيروشيما وناغازاكي وأباد 2% من سكان غزة ليسوا هم الأمريكان وصنائعهم، بل هي الجينات الجماد! هللويا! هكذا يكون تفسير الأخلاق، وإلا فلا!
هكذا نكتشف – بقليل من التدقيق – أن نظرية الأخلاق التطورية لا تفهم جوهر التطور أصلاً لاصرار مريديها بأن أفراد كل نوع حي هم المسؤلون عن التكاثر وليست الجينات الجماد.

بعد صدور كتاب "أصل الأنواع" لداروين عام 1871 – أي قبل اكتشاف "الجين" المسؤول الأول والأخير عن التطور -سعى كبار الداروينيين الاجتماعيين في القرن الثامن عشر مثل هربرت سبنسر وويليام جراهام سومنر إلى ترحيل دروس التطور البيولوجي من ميدان الأحياء في الطبيعة إلى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات وذلك بزعمهم أن التقدم يحدث في الطبيعة من خلال عملية قاسية من الصراع التنافسي و"البقاء للأصلح". لذا، فإن التقدم البشري لن يحدث إلا إذا سمحت الحكومة بالمنافسة التجارية غير المقيدة ولم تبذل أي جهد لحماية "الضعفاء" أو "غير المؤهلين" "عن طريق اصدار قوانين الرعاية الاجتماعية. كان الترحيل التلفيقي ذاك للداروينية من علم الأحياء إلى المجتمع يقدم تبريراً متسربلاً بأكفان العلم المخادع يخدم بالضبط وتماماً مصالح البرجوازية بتقديمه تبريرا لدكتاتوريتها الشمولية البربرية. ولكن سرعان ما انبرى الفلاسفة والمفكرون الغربيون مثل توماس هنري هكسلي، وجي إي مور، وويليام جيمس، وتشارلز ساندرز بيرس، وجون ديوي وغيرهم الكثير جداً لتوجيه النقد الشديد لأي محاولة في استخلاص الدروس الأخلاقية والسياسية من الداروينية. وبحلول العقود الأولى من الداروينية الاجتماعية في القرن العشرين، بات يُنظر إلى الداروينية الاجتماعية على نطاق واسع على أنها قد فقدت مصداقيتها كلياً. كما كشف العديد من النقاد بأن غالبية الفرضيات المطروحة لشرح الطبيعة التكيفية للسمات السلوكية البشرية هي "مجرد سوالف وحكايات" غير قابلة للاثبات البتة. إنها تفسيرات تكيفية أنيقة لتطور سمات معينة لا تعتمد على أي دليل يتجاوز منطقها الداخلي الملفق الذي يعتمد على الزعم القائل "هذا هو ما حصل". يقول نعوم تشومسكي موضحاً التلفيق البات في منطق الأخلاق التطورية:
"إذا وجدت أن الناس يتعاونون، فتقول: "نعم، هذا التعاون يساهم في إدامة جيناتهم". فإن وجدتهم يتقاتلون، فستقول: "بالتأكيد، هذا أمر واضح: إنه يعني أن جيناتهم هي التي تدوم وليست جينات شخص آخر". في الواقع، يمكنك اختلاق "قصة ما" حول أي شيء تجد." (3)
وكان أشهر من قال بنظرية الأخلاق التطورية (evolutionary ethics) هو الفيلسوف الوضعي الإنجليزي هربرت سبنسر(1820-1903) وذلك بطرحه فكرة تطور العالم الذي يمتد من الطبيعة إلى المجتمع دون أن يميّز بين الأخلاق في الحياة الاجتماعية والعلاقات في عالم الحيوان لاعتباره الأخلاق التطورية هي ذلك السلوك المحدد الذي يميّز جميع الكائنات الحية، وهي النتيجة النهائية للتطور التطوري. في كتابه الموسوم: "مباديء الأخلاق" (مجلدان، 1879- 1893) يقول سبنسر "إن الحقيقة الأخلاقية، حسبما يتم تفسيرها الآن، تثبت أنها التطور للحقيقة الفسيولوجية.... إن القانون الحيوي للكائن الاجتماعي... الذي يتجه نحوه الخلق... يمكن اعتباره قانونًا من قوانين الطبيعة." في حينها، لم يكن الجين الناقل للصفاة الوراثية - الذي اكتشفة مندل عام (1909) – معروفاً بعد. وعلى غرار دعاة النظرية النفعية في الأخلاق، رأى سبنسر أن الأخلاق تقوم على التطلع إلى السعادة التي هي لحظة تطور عالمي. وفي سياق هذا التطور، تعمل الأخلاق كوسيلة لتهدئة الصراع بين الأنانية والإيثار الذي يتميز به المجتمع والطبيعة بشكل متساوٍ. ويمر السلوك الإنساني تاريخياً بعدد من المراحل التي تظهر خلالها وتتحسن المشاعر والمفاهيم الأخلاقية حيث يتطور الشر بشكل متناغم إلى خير، والرذيلة إلى فضيلة. ثم يتكيف سلوك الإنسان تدريجياً مع ظروف الحياة لتحقيق هدف الحفاظ على النوع البشري. علاوة على ذلك، فقد كان سبنسر يرى بأن خير المجتمع وصالح الفرد يتطابقان بشكل متزايد، حيث يقترب السلوك من المثل الأعلى الذي، عند تحقيقه، سوف يلغي التناقض بين الفرد والمجتمع ليقيم التوازن بينهما: أفعال الفرد الموجهة نحو إشباع احتياجاته سوف تساهم في نفس الوقت في إشباع احتياجات المجتمع بأكمله. اي أن سرقة الرأسمالي لقوة العمل الاجتماعي هي عمل أخلاقي يصب في مصلحة كل المجتمع رغم أن رأس المال قوة جبارة غالبة تمكن حائزيه من اعدام كل وأي فرصة لتحقيق أي نوع من العدالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين مصالح النخبة القليلة جداً من فاحشي الثراء(1% أو أقل من السكان) وبقية الـ 99% من سواد المجتمع التي لا تملك والتي ليس لها صوت ولا تأثير اقتصاجتماسي البتة. هنا لدينا نفس التبرير الوضعي العتيق لارسطو الذي اعتبر أن العبودية تصب في صالح العبد نفسه، وبالتالي كل المجتمع. وهكذا صاغ سبنسر القاعدة الأساسية للحياة: "الحصول على السعادة الخاصة... بما يتوافق مع الشروط التي تقتضيها الحالة الاجتماعية". الأخلاق، من وجهة نظر سبنسر، تقوم على المبادئ المجردة للعدالة والإحسان. والعدالة في نظره هي حق كل فرد في الحرية المطلقة التي يجب أن تكون متوافقة مع حرية الأفراد الآخرين، والاحسان يعني تفضل القوي على الضعيف لوجه الله. وأخيراً، فقد اعتبر سبنسر الدولة شرًا لأنها تقيّد حرية الفرد.
ولكننا نجد الاستاذ نعيم إيليا المحترم يأخذ بأسوأ ما في نظرية الأخلاق التطورية الوضعية لكونه يعتبر الأخلاق مفهوماً لا تاريخياً ثابتاً، بل وقافزاً فوق حركة التاريخ رغم أن مصطلح التطور في "الاخلاق التطورية" يقول بالتطور عبر التكيف مع البيئة. فما دامت الاخلاق لا تتطور رغم تغيرات البيئة الاجتماعية، فما الحاجة للقول بنظرية التطور الأحيائية أصلاً؟
ما المشكلة في نظرية الاخلاق التطورية؟
المشاكل المعرفية والعلمية في نظرية الأخلاق التطورية لها أول وليس لها آخِر. سأستعرضها بإيجاز شديد أولا، لكي أختتم هذه الحلقة بتقديم التفسير الماركسي العلمي الذي يوضح الجوهر الكامن في فساد تلفيقيتها. (4)
أهم اعتراض على نظرية الاخلاق التطورية هو حقيقة أن التطور الطبيعي وتطور الأخلاق الاجتماعية لا جامع يجمعهما قط. لا تستطيع الطبيعة التطورية الحصول على "ما يجب أن يكون" في المجتمع من ما "هو كائن" فعلاً في علم الأحياء. علم التطور الأحيائي يصف الطريقة التي يكون بها العالم الطبيعي، لكنه لا يخبرنا كيف ينبغي له أن يكون. أي أنه لا يمكنه إنتاج ما "ينبغي" مما هو "كائن". لا يمكن استخلاص القواعد المعيارية للأخلاق من الحقائق الأحيائية لأن الأخيرة تخص "ما يكون" في عالم المعرفة، في حين أن القيم الأخلاقية تخص "ما يجب أن يكون" في عالم القيم. فإذا ما تم استبدال عالم المعرفة العلمية الوصفية بعالم القيم الأخلاقية المعيارية مثلما تلفق الداروينية الاجتماعية، فإن مثل هذا الاستبدال التحكمي سيحول العلوم كلها من الوصفية الى المعيارية، وهذا ما ينسف العلوم برمّتها من الجذور.
و قد يكون التطور الدارويني قادرًا على تلفيق وصف ما بالتعكز على كليشة وجود "غرض تطوري خاص ما" لأنماط السلوك الماضي، لكنه يفتقر إلى الموارد اللازمة لوصف السلوك المستقبلي. وكما يقول جريج كوكل: "سؤال واحد لا يمكن الإجابة عليه أبداً من خلال أي تقييم تطوري للأخلاق: لماذا يجب علي أن أكون أخلاقياً غداً ؟ لماذا تفشل نظرية الأخلاق التطورية تقديم أي إجابة على هذا السؤال حول أخلاق المستقبل؟ لأن تقديم الاجابة على هذا السؤال المهم جداً تتطلب التوفر على معيار موضوعي مبرهن عليه تجريبيا، وهو ما يتجاوز حدود اشتغال العالم الطبيعي. نظرية الاخلاق التطورية لديها تفسير واحد لكل ظاهرة أخلاقية ونفسية مهما كانت، ألا وهي: "هذا حاصل لوجود غرض تطوري خاص ما". ومن المعلوم لدى العارفين في فلسفة العلوم أن أي كليشة تصلح للاستخدام في تفسير كل شيء، لا تفسر في الواقع أي شيء بالمطلق؛ وهي تلفيقية ومعادية للعلم، مثلما أن استحضار "إرادة الرب" في تفسير كل حدث في الأكوان والمجتمعات هو تلفيق غير علمي. كل الذي تفعله نظرية الأخلاق التطورية هو استبدال كليشة "هذا حاصل بإرادة الرب" بكليشة "هذا حاصل لوجود غرض تطوري خاص ما"!
كما أن التطور الأحيائي هو اعتباطي على طول الخط، في حين أن علم الأخلاق معياري قصدي في الممارسة .علاوة على ذلك، فإن التطور لا يوفر أساسًا ثابتًا للأخلاق في المستقبل. وبما أن التطور هو عملية تغيير، فإن الأخلاق يجب أن تتغير أيضاً. فإذا كان التطور هو مصدر الأخلاق، فما الذي يمنع الأخلاق من التطور (التغير) إلى الحد الذي يصبح فيه الاغتصاب والسرقة والقتل في يوم من الأيام أخلاقياً؟ يكشف هذا عن سخافة محاولة إرساء الأخلاق على التطور الطبيعي. فما هو محظور أخلاقيا اليوم قد يصبح ملزما أخلاقيا غدا، مثلما نراه اليوم في العلاقات الجنسية المثلية والشاذة.
التطور يدور حول بقاء الأنواع. هذا يعني، من وجهة النظر التطورية، أن المعتقدات الأخلاقية موجهة نحو اللياقة أو المقدرة على التكيف البيئي، وليست موجهة نحو الحقيقة والتغيير عبر الممارسة. أي أننا نتوصل إلى المعتقدات أخلاقية التي تنبني على ما من شأنه أن يمنحنا ميزة البقاء وليس على ما يتوافق مع الواقع. في حين أن الواقعية الأخلاقية هي وجهة النظر القائلة بأن هناك حقائق أخلاقية موضوعية مستقلة عن العقل. ولسوء حظها، فإن الداروينية تفشل كلياً في أن تشرح لنا كيف يمكن أن تكون هناك حقائق أخلاقية؛ لذا نجدها تحاول شرح كيف أصبحت البشرية تؤمن بشكل خاطئ بالحقائق الأخلاقية. من وجهة النظر التطورية، ليس هناك أي سبب للثقة في قناعاتنا الأخلاقية. ففي النهاية، إذا كنا نتمسك بمعتقداتنا الأخلاقية بسبب اللياقة التي يمنحها السلوك الناتج، فيبدو أننا كنا سنمتلك تلك المعتقدات سواء كانت صحيحة أم لا. وهذا يعني على الأقل أننا لا نستطيع أبدًا معرفة ما إذا كانت معتقداتنا الأخلاقية تتوافق مع الحقائق الأخلاقية، ولا معرفة نشأة قناعاتنا الأخلاقية، لنصطدم بالشك الأخلاقي وجهاً لوجه. وهذا ما يجعل النهج التطوري ليس في الحقيقة تفسيرًا للأخلاق؛ بل إنه الإنكار للأخلاق. كان تشارلز داروين نفسه متشككًا بحق في إمكانية العقلانية في ضوء التطور الطبيعي. لذا، نجده يكتب: "ينشأ معي دائمًا شك رهيب حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، التي تطورت من عقل الحيوانات الدنيا، ذات قيمة أو جديرة بالثقة على الإطلاق. هل يمكن لأحد أن يثق في قناعات عقل القرد، هذا إذا كان هناك أي قناعات في مثل هذا العقل؟" (5) وهذا يشمل بالطبع القناعات الأخلاقية. وفق وجهة النظر التطورية، ليس هناك سبب لثقة البشر في قناعاتهم الأخلاقية.
بالنسبة لعالم الطبيعة، تمثل كل مشكلة من هذه المشكلات تحديًا خطيرًا. ومع ذلك، إذا أخذنا هذه القضايا معًا، فلا يمكن الدفاع عنها. فبدلًا من إنكار الأخلاق، ينبغي لعالم الطبيعة أن ينكر المذهب الطبيعي.
نأتي الآن على شرح أهم انجاز علمي للماركسية والذي يجعلها ترتقي فوق غيرها من النظريات الاجتماعية. الماركسية تقول على نحو بات وقاطع بأن قوانين العلوم الطبيعية كافة – الأحياء والفيزياء والكيمياء والفلك وعلم الأرض – لا تشتغل على ظواهر المجتمع البشري قط. وكل ترحيل للمفاهيم من أي من هذه العلوم الطبيعية لتفسير الظواهر الاجتماعية – مثل تشبيه المجتمع بالجسد العضوي وترحيل قوانين التطور والميكانيك إليه، إلخ. - إنما هو تلفيق في تلفيق بائس. هذه القوانين لا تشتغل على المجتمع البشري بتاتاً، لأن التعريف العلمي الوحيد للمجتمع البشري هو ليس كونه مجموع الأفراد في الزمكان، بل أن " المجتمع البشري هو المجموع الكلي للعلاقات المتنوعة القائمة بين أفراده". المجتمع ليس كائناً من الكيانات الطبيعية لكي تشتغل عليه العلوم الطبيعية، بل هو شبكات معقدة جداً من مختلف أنواع العلاقات.
السؤال الآن هو: أي القوانين تشتغل على العلاقات الاجتماعية؟ الجواب: وحدها قوانين ديالكتيك المادية التاريخية هي التي تشتغل على حركة المجتمع والفكر البشري. لذا نجد أن كل المعايير الأخلاقية هي متضادات ثنائية تشتغل معاً في الجذب والطرد ضمن وحدة متصارعة من الارادات البشرية تلخصها وحدة الخير/الشر كقاسم مشترك أصغر. ولهذا نجد أيضاً أن أعظم العلماء – من آينشتاين وجُر – هم ماركسيون لأن التفسير الماركسي للأخلاق كجزء من البناء الفوقي المرتكز على قاعدة علاقات الانتاج الاجتماعي القائمة وحده القادر على تقديم التفسير العلمي لكيف تنشأ العلاقات وكيف تتغير وتتطور.
يتبع لطفاً
***
مراجع مختارة
(1)
https://en.wikipedia.org/wiki/Bacteria
2
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC345072/pdf/pnas00609-0153.pdf
Evolution and INFORMATION - the Nylon Bug!
. https://web.archive.org/web/20031001230124/http://www.nmsr.org/nylon.htm
. Mutations and new features.
(3)
Plotkin, Henry. 2004 Evolutionary thought in Psychology: A Brief History. Blackwell. p. 149.
(4)
جاك مونود، الصدفة والضرورة (لندن: كولينز، ١٩٧١)، ١١٠.
فرانسيس ج. بيكويث وجريجوري كوكل، النسبية: أقدام مزروعة بقوة في الجو( جراند رابيدز، ميشيجان: بيكر بوكس، 1998)، 162.
بول كوبان، "جيناتي جعلتني أفعل ذلك: هل الأخلاق مبنية على التطور البيولوجي؟"، مدونة مجلة الإثراء، 24 ننسان 2014.
http://enrichmentjournal.ag.org/201404/201404_024_Genes_ Made_Me_Do_It. cfm.
فرانك توريك، السرقة من الله: لماذا يحتاج الملحدون إلى الله ليثبت قضيتهم؟ كارول ستريم، إلينويNavPress، 2014))
فرانك توريك، "التطور لا يمكن أن يفسر الأخلاق"، مدونة Cross Examined ، 1 تموز 2008 http://crossexamined.org/evolution-cannot-explain-morality.
(5) تشارلز داروين، حياة ورسائل تشارلز داروين ، المحرر. فرانسيس داروين (1897؛ مندوب، بوسطن: إليبرون، (2005)، 1:285.

يتبع، لطفا.



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هوّا عُذر؟ أم عَرْكة؟
- علم الأخلاق الماركسي ونعيم أيليا/ 1
- من حكايات الحاخام موشي بن عزرا
- خمريات الشاعرة الكبيرة وئام ملا سلمان: بلوغ الأرقى (4-10)
- المكالمة الهاتفية لبايدن مع نتنياهو
- خمريات الشاعرة الكبيرة وئام ملا سلمان: بلوغ الأرقى (3-10)
- خمريات الشاعرة الكبيرة وئام ملا سلمان: بلوغ الأرقى (2-10)
- خمريات الشاعرة الكبيرة وئام ملا سلمان: بلوغ الأرقى (1- )
- الإبادات الامبريالية تتفاقم، ولكن كل الطرق تؤدي إلى الحرية
- سعر الفائدة واعفاء الديون: اكتشافان سومريا فشلت الرأسمالية ف ...
- -الوعد الحق- ضربة معلم ضد الكيان الصهيوني النازي
- السوداني في واشنطن: لا في العير ولا النفير
- ألمانيا كضحية جانبية للحرب الباردة الأمريكية الجديدة
- حكايتان عن الدودة
- مجزرة جديدة للارهابيين بايدن – سوناك – زيلينسكي في موسكو (2- ...
- مجزرة جديدة للارهابيين بايدن – سوناك – زيلينسكي في موسكو (1- ...
- بصدد -نمط الانتاج الكولونيالي- و -رأس المال الكولونيالي-
- بايدن الفاشي لبيغن النازي: اقتلوا النساء والأطفال (1982) (3- ...
- بايدن الفاشي لبيغن النازي: اقتلوا النساء والأطفال (1982) (2- ...
- بايدن الفاشي لبيغن النازي: اقتلوا النساء والأطفال (1982) (1- ...


المزيد.....




- انتخابات بريطانيا.. اختبار للعلاقات بين حزب العمال والمسلمين ...
- هل يعترف حزب العمال البريطاني بفلسطين إذا فاز بالانتخابات؟
- فرنسا: تصدعات بتحالف اليسار وبلبلة ببيت اليمين التقليدي والح ...
- المسألة النقابية منذ عام 1955 ودور الاتحاد الوطني للقوات الش ...
- الطبعة الثانية من ثلاثية إسحاق دويتشر عن تروتسكي: النبي المس ...
- مظاهرة حاشدة في برلين للتنديد بالإرادة الجماعية التي يتعرض ل ...
- كيف خلقت كرة القدم الطبقة العاملة
- أفريقيا كميدان ورهان للصراع بين الإمبرياليات
- مظاهرة ضد اليمين المتطرف بباريس: -علينا تجنب الصراعات فيما ب ...
- -انتفاضة ديمقراطية-.. تظاهرات عارمة في فرنسا ضد اليمين المتط ...


المزيد.....

- ليون تروتسكى فى المسألة اليهودية والوطن القومى / سعيد العليمى
- كيف درس لينين هيغل / حميد علي زاده
- كراسات شيوغية:(الدولة الحديثة) من العصور الإقطاعية إلى يومنا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية:(البنوك ) مركز الرأسمالية في الأزمة.. دائرة لي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رؤية يسارية للأقتصاد المخطط . / حازم كويي
- تحديث: كراسات شيوعية(الصين منذ ماو) مواجهة الضغوط الإمبريالي ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كراسات شيوعية (الفوضى الاقتصادية العالمية توسع الحروب لإنعاش ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسين علوان حسين - علم الأخلاق الماركسي ونعيم إيليا/ 2