الإله -يهوه- وجذوره التاريخية
كمال غبريال
الحوار المتمدن
-
العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 21:13
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ينظر الباحثون في تاريخ الأديان والآثار إلى أصل عبادة يهوه (YHWH) على أنه موضوع معقد ومرتبط بالتطور الديني والثقافي في الشرق الأدنى القديم، خاصة في مناطق جنوب بلاد الشام وشمال شبه الجزيرة العربية.
تختلف النظريات الأكاديمية عن الرواية التقليدية الموجودة في التوراة، التي تنص على أن يهوه هو الإله الواحد الذي كشف اسمه لموسى.
إليك أبرز النقاط حول أصل عبادة يهوه قبل ومع القبائل العبرانية المبكرة:
1. أصل عبادة يهوه قبل القبائل العبرانية (الفرضيات الجنوبية)
تُشير الأبحاث والدراسات إلى أن عبادة يهوه لم تنشأ بالضرورة داخل القبائل العبرانية في بادئ الأمر، بل في مناطق تقع إلى الجنوب من كنعان، وأن العبرانيين تبنوا هذا الإله لاحقًا. وتُعرف هذه الفرضية بـ "الفرضية المديانية" (Midianite/Kenite Hypothesis).
• الأصل الجغرافي الجنوبي: تربط أقدم الإشارات غير التوراتية ليهوه بمناطق تقع في الجنوب مثل مدين، سعير، أدوم، وفاران، وهي مناطق تُشير إليها بعض نصوص العهد القديم القديمة كأماكن يظهر منها يهوه (مثل سفر القضاة 5: 4 وسفر حبقوق 3: 3).
• نقوش الشاسو (Shasu In-script-ions): أقدم إشارة معروفة لاسم يهوه خارج الكتاب المقدس تأتي من نقوش مصرية قديمة (تعود إلى عهد أمنحتب الثالث، حوالي القرن الرابع عشر قبل الميلاد). تذكر هذه النقوش مجموعة من البدو الرُّحل تُعرف باسم "الشاسو" وتحديدًا "شاسو يهوه" (Shasu of Yhw). كان الشاسو يعيشون في المنطقة الواقعة جنوب فلسطين (ربما مدين أو أدوم). هذا يدل على أن عبادة "يهوه" كانت موجودة بين بعض القبائل البدوية في الجنوب قبل ظهور مملكتي إسرائيل ويهوذا.
• إله الطقس والمحارب: في أقدم النصوص، يُصوَّر يهوه غالبًا على أنه إله محارب، وإله الطقس والعواصف، يرتبط بالجبال (مثل جبل سيناء/حوريب)، وهو إله يقود جيشه السماوي ضد الأعداء.
• المديانيون والكهنة (Kenites): تفترض النظرية المديانية أن موسى، وفقًا للرواية التوراتية، تعلم عبادة يهوه من حمويه يثرون (الذي كان كاهن مدين)، وأن هذا الإله دخل إلى الجماعات الإسرائيلية المبكرة عن طريق تجار أو قبائل مرتبطة بمدين.
2. عبادة يهوه مع القبائل العبرانية (التطور الديني)
عندما تبنت القبائل العبرانية عبادة يهوه، لم تكن ديانتها توحيدية بالمعنى الكامل، بل مرت بمراحل تطور:
أ. مرحلة تعدد الآلهة واليهوهية المبكرة (Polytheism/Yahwism)
• الآلهة المتعددة: كانت القبائل الإسرائيلية المبكرة في البداية تعبد آلهة متعددة، شأنها شأن جيرانها الكنعانيين. وكان إلههم الأعلى هو "إيل" (El)، وهو الإله الأب في مجمع الآلهة الكنعاني.
• الخلط والتوفيق (Syncretism): حدث خلط تدريجي بين الإله الجديد يهوه والإله القديم إيل، حيث أصبحت صفات "إيل" (مثل إيل عليون، إيل شداي) تُنسب ليهوه.
• الإله القومي: تحول يهوه تدريجياً إلى الإله القومي لمملكتي إسرائيل ويهوذا.
ب. مرحلة وحدة العبادة (Henotheism)
• عبادة إله واحد مع الاعتراف بالآخرين: في هذه المرحلة، التي سادت في بدايات الممالك الإسرائيلية، كان يُعبد يهوه كإله إسرائيل الوحيد الذي يُقدَّم له الولاء والعبادة، لكن لم يكن يُنكر وجود آلهة أخرى لجيرانهم (مثل بعل وعشيرة وكموش).
• الصراع على الولاء: تشير النصوص القديمة إلى صراع مستمر بين عبادة يهوه الخالصة (التي كان يدعو إليها الأنبياء) وعبادة الآلهة الكنعانية مثل البعل وعشيرة.
ج. مرحلة التوحيد (Monotheism)
• الإله الوحيد المطلق: تطور الأمر في مراحل لاحقة (خاصة بعد السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد) إلى التوحيد الكامل (Monotheism)، حيث أصبح يهوه هو الإله الوحيد الموجود، وأن آلهة الأمم الأخرى ليست سوى "عدم" أو "أصنام" بلا وجود حقيقي. هذا التحول كرَّس يهوه كإله عالمي متسامي، وليس مجرد إله قومي.
الخلاصة:
تشير الأدلة التاريخية والأثرية إلى أن عبادة يهوه ربما نشأت كعبادة لإله محارب مرتبط بالجنوب (مناطق مدين/أدوم/سيناء) بين قبائل الشاسو البدوية. تبنت القبائل العبرانية هذا الإله وأعطته مركزية متزايدة، ليحل محل الإله الكنعاني إيل تدريجياً، قبل أن يتطور في نهاية المطاف ليصبح الإله الواحد الأحد في الديانة اليهودية.
الآلهة الكنعانية التي كان يتصارع معها يهوه في البداية:
بعدما أصبح يهوه الإله القومي لإسرائيل ويهوذا، فقد كان الصراع اللاهوتي والاجتماعي الأبرز في تاريخ اليهودية المبكر هو ضد الآلهة المحلية التي كانت سائدة في بلاد الشام.
كان أبرز هذه الآلهة وأكثرها تنافسًا على ولاء العبرانيين هم: بعل وعشيرة.
🌩 1. بعل (Baal) - إله العاصفة والخصوبة
كان بعل هو الإله الأكثر شعبية وتأثيرًا في العالم الكنعاني، وشكل المنافس الأكبر ليهوه في الفترة المبكرة من الاستيطان الإسرائيلي.
أصل وخصائص بعل
• الاسم والمعنى: يعني "السيد" أو "الرب" أو "المالك".
• وظيفته: كان إله العاصفة، والرعد، والمطر، والخصوبة. كان يُعتقد أنه هو الذي يجلب الأمطار الموسمية الضرورية لنمو المحاصيل.
• عبادته: كانت عبادته تتمحور حول الأماكن المرتفعة (المذابح والتلال) وأصبحت مرتبطة بممارسات تهدف إلى تحفيز الخصوبة والمطر.
• المركز الأسطوري: وفقًا لأساطير أوغاريت (المكتشفة في رأس شمرا)، كان بعل هو الإله المحارب الذي هزم يم (إله البحر والموت)، و موت (إله العالم السفلي)، ليصبح ملكًا للآلهة.
الصراع بين يهوه وبعل
الصراع بين عبادة يهوه وعبادة بعل كان صراعًا على السيادة والوظيفة الإلهية:
1. من يتحكم في المطر؟ كان الأنبياء (مثل إيليا) يتحدون كهنة بعل لإثبات من هو الإله القادر على إنزال النار أو المطر. أراد الأنبياء أن يثبتوا أن يهوه، وليس بعل، هو صاحب السيادة على المطر والخصوبة.
2. العبادة الخالصة: كانت عبادة بعل تمثل إغراءً للقبائل الإسرائيلية التي تحولت من حياة الرعي إلى حياة الزراعة في كنعان، حيث ظنوا أن إله المطر الكنعاني هو الأقدر على توفير محصول وفير.
3. النقد النبوي: يمتلئ الكتاب المقدس بالنقد الشديد لعبادة بعل واعتبارها نجاسة وخيانة للعهد مع يهوه.
🌳 2. عشيرة (Asherah) - إلهة الأمومة والخصوبة
كانت عشيرة إحدى الإلهات الرئيسيات في مجمع الآلهة الكنعاني، وكثيرًا ما تُذكر إلى جانب بعل في النقوش والآثار.
أصل وخصائص عشيرة
• وظيفته: كانت إلهة الخصوبة، والأمومة، والبحر، وتُعد في بعض الأساطير زوجة الإله الأب إيل.
• رمزها: كانت تُمثل غالبًا بشجرة مقدسة أو عمود خشبي (يُسمى عشيرة أيضًا)، يُزرع بجوار المذابح.
• عبادتها: كانت مرتبطة بطقوس الخصوبة وكانت تُعبد إلى جانب بعل في كثير من الأحيان.
الصراع بين يهوه وعشيرة
أكثر الأدلة إثارة للجدل هي النقوش المكتشفة في مواقع مثل كونتيلة عجرود (في سيناء) و خربة بيت لي (في يهوذا)، التي تعود إلى القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد.
• نقوش التوفيق: تضمنت هذه النقوش عبارات مثل: "أبارككم بيهوه وبعشيرته" (YHWH and his Asherah).
• الدلالة: تشير هذه النقوش إلى أنه في مملكة يهوذا القديمة، كان هناك اعتقاد واسع النطاق بأن يهوه لديه قرينة إلهية (زوجة)، وهي عشيرة.
• النقد اللاهوتي: هاجم الأنبياء والكتّاب اللاحقون بشدة هذه العبادة المشتركة، واعتبروا أيقونات عشيرة (الأعمدة الخشبية) رجسًا لا يجب وضعه في هيكل يهوه.
خلاصة التحدي
كان التحدي بالنسبة لليهودية المبكرة يتمثل في تحويل يهوه من مجرد إله قومي (Henotheism) إلى الإله الأوحد المطلق (Monotheism). تطلب هذا التحول محو جميع الآلهة الأخرى من الذاكرة والعبادة، وعلى رأسها بعل وعشيرة، اللذان يمثلان:
• بعل: قوة الطبيعة المادية والخصوبة الزراعية.
• عشيرة: الأمومة والخصوبة الأنثوية.