ماذا تبقى من جان ماري لوبان
حميد زناز
الحوار المتمدن
-
العدد: 8221 - 2025 / 1 / 13 - 04:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
صال وجال على مدى عقود، جان ماري لوبان شخصية أثارت جدلا كبيرا على الساحة السياسية الفرنسية والأوروبية في حياته وبعد مماته، إذ لم يحدث أن احتفل شباب في فرنسا في الشوارع فرحا برحيل أحد إلا هو. فمباشرة إثر إعلان وفاته خرج الكثير من مناهضي عائلة لوبان يحتفلون في مدن فرنسية عديدة وعلى رأسها العاصمة باريس. ولئن كانت مشروعة إدانة أفعال جان ماري لوبان الإجرامية في الجزائر إبان حرب التحرير وأقواله العنيفة ضد المهاجرين واليهود والسود، فهل من المعقول أن يبتهج إنسان بموت إنسان آخر مهما كانت سمعته والخصومة معه؟
ولكن بغض النظر عن هذا الأمر الذي يشير إلى عطب اجتماعي واحتقان سياسي في البلد، فما هو الإرث الذي تركه لوبان بعد 60 سنة من الصراع ضد النظام القائم؟
من أهم ما ترك جان ماري لوبان “حزب الجبهة الوطنية” الذي تقوده اليوم ابنته مارين تحت اسم “التجمع الوطني”، ذلك الحزب الذي أصبح قوة سياسية من الصعب تجاهلها في المشهد السياسي الفرنسي وحتى الأوروبي، إذ تم عبره تطبيع الخطاب الشعبوي والقومي والتأثير على اليمين التقليدي إلى درجة أصبح هذا الأخير يجري لاهثا وراء أفكار لوبان لكي يبقى في المنافسة الانتخابية والإعلامية حتى أصبح بعض المحللين يتحدثون عن “لوبننة العقول” في فرنسا. وقد أعادت الأحزاب صياغة خطاباتها لتتكيف مع الوضع الجديد ومواجهة صعود حزب جان ماري لوبان.
تغلغل فكر لوبان بين فئات كثيرة من الشعب الفرنسي أهمها ذات الدخل المحدود وسكان الأرياف الفقيرة والعاطلون عن العمل. استطاع لوبان نشر خطاب يمزج بين القومية ومعارضة الهجرة وانتقاد الاتحاد الأوروبي والمطالبة بـ”الأولوية الوطنية” وإثارة مشكلة انعدام الأمن باستمرار. وقد تخللت كل ذلك تصريحات عنصرية أحيانا، معادية للسامية أحيانا أخرى واستفزازية وصادمة دائما. ولكن، على الرغم من الإدانات القضائية الكثيرة، أعطى لوبان رؤية جديدة لأفكار اليمين المتشدد التي كانت مهمشة جدا قبلئذ. وقد أثر على الطريقة التي تناقش بها قضايا الهوية والهجرة، فأصبحت موضوعاته مألوفة وتسربت تدريجيا إلى النقاشات السياسية داخل اليمين وحتى خارجه.
في 2002 تمكن لوبان من الوصول إلى نهائي الرئاسيات الفرنسية ونال آنذاك ثقة خمسة ملايين ناخب. وبعد عشرين سنة وصلت ابنته مارين للمرة الثانية على التوالي إلى الدور الثاني في الرئاسيات الفرنسية وبلغ عدد الذين نالوا ثقتها 15 مليون ناخب. وكشف ذلك عن وجود قاعدة انتخابية كبيرة كانت مهملة، مشغولة بقضايا الهوية والسيادة والأمن وهي قضايا كثيرا ما تجاهلتها الأحزاب التقليدية.
وبقي هذا التأثير متواصلا حتى إلى يومنا هذا، فإريك زمور على سبيل المثال وبعض الشخصيات داخل بيت الجمهوريين يستلهمون عناصر الخطاب الذي حمله جان ماري لوبان، بل هناك شخصيات من اليمين تحالفت مع حزب لوبان في الانتخابات التشريعية الفائتة مثل إريك سيوتي وغيره. قد ظهرت أحزاب تستلهم من أفكار لوبان مثل “فرنسا الواقفة” تحت رئاسة نيكولا إينيان.
انطلاقا من كل هذا، يمكن القول إن جان ماري لوبان قد نجح في تغيير ملامح الحياة السياسية في فرنسا وأصبح الحزب الذي أسسه سنة 1972 مع أصدقائه – كان بعضهم جنودا في صفوف جيش نظام فيشي المتعاون مع النازية – رقما يحسب له ألف حساب في فرنسا، إذ لم يعد أحد يستطيع منعه من الاستلاء على الأغلبية المطلقة في أي اقتراع دون تحالف كأحزاب اليسار والخضر وبعض اليمين ضده مثلما حدث في الانتخابات التشريعية الماضية.
ترك جان ماري لوبان حزبا سياسيا أصبح مع مرور الوقت الحزب الأقوى في فرنسا وهو الذي يأتي بالمطر ويصنع الصحو، كما تقول العبارة الفرنسية. وليس من المستبعد أن يصل إلى سدة الحكم في مستقبل قريب.
PartagerWhatsAppTwitterFacebook