عن اللاهوتية المزمنة في بلداننا
حميد زناز
الحوار المتمدن
-
العدد: 7240 - 2022 / 5 / 6 - 14:01
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا تترك الغيبيات أية فرصة للفلسفة أو المنطق السليم لفهم الأمور وتفسيرها عقلانيا في أغلب بلاد المسلمين. يحصل كل شيء وفق الإرادة الإلهية، كل شيء كان مسطرا، مكتوبا، مُقدرا. فالفيضانات والزلازل وأسراب الجراد المتلفة للمحاصيل والحروب الأهلية وتدافع الناس وموت المئات منهم أثناء رميهم للشيطان بالحجارة في موسم الحج ... كلها من مشيئة الله. حتى داء السيدا، لم ير فيه بعض الأطباء سوى غضب الله المسلط على عباده الزانين والمثليين ومتعاطيي الكوكايين. إذا تكلم الطبيب المؤسلم فكأن الفقيه هو الذي يتكلم فيه وليس ضميره أو علمه. حتى العوام اقتنعوا أنه ليس هو الذي يشفيهم إن مرضوا وإنما الله ربّ العالمين.
لا يسلم من “فلسفة المكتوب” حتى السلطات السياسية الرسمية وبعض رجال العلم، فترى رؤساء وملوكا ووزراء وفي بعض الأحيان علماء زلازل ومهندسين وخبراء الأحوال الجوية يعزون الكوارث الطبيعية إلى إرادة غيبية. وربما يجد التسيير الكارثي للكوارث التي تحصل في هذه البلدان تفسيره في هذه النظرة القاصرة لها. فمثلا لم ير الرئيس الجزائري المخلوع عبد العزيز بوتفليقة في البربرية الأصولية التي فتكت بالجزائريين طيلة عشرية كاملة سوى ابتلاء من الله ليمتحن إيمانهم.
في أحد خطاباته إلى الأمة الممتحنة، يلخص فلسفة التاريخ الغريبة هذه: “لقد امتحن الله الشعب الجزائري على مر العصور وفي مختلف الظروف، سواء كان ذلك عن طريق الطبيعة كالزلازل والفيضانات والجفاف أو عن طريق الإنسان كالفتنة والإرهاب الأعمى الذي زرع الخراب والمجازر في كل أنحاء الوطن، ولم يفرق بين رضيع أو امرأة أو شيخ”.
كيف يمكن أن يكون رمي الأطفال الرضع من الطابق الخامس أو السادس، وتهشيم رؤوسهم بالفؤوس وخطف القاصرات واغتصابهن وارتكاب الجرائم الشنيعة في حق البشر...امتحانا إلهيا؟ يجب أن يعطي الإنسان لعقله عطلة أبدية ليصدق مثل هذا الهراء.
لكن ألم تغير السلطات الجزائرية اسم مدينة “الأصنام” فور تعرضها لزلزال عنيف كاد أن يهدمها عن آخرها في أكتوبر 1980، لأن بعض المشعوذين رأوا في الزلزال هدما من الله للأصنام؟ أما في خطب الجمعة التي تلت الزلزال الذي ضرب منطقة بومرداس، شرق الجزائر العاصمة، في شهر مايو 2003، فقد شرح أئمة المساجد الحكومية الكارثة بردها إلى فساد أخلاق النساء وفجورهن وسفورهن!
يقول نيتشه صادقا إن المنحط هو ذلك الذي لا يقبل الواقع المرعب والمبهم كما هو، ويحاول إفقاده الاعتبار لينزله إلى مستوى هلوساته المثلى.
أليس المنحط هو ذاك الذي يعجز أمام الواقع، فيقدح فيه ويعتبره مخطئا وسيّئا؟ تتحدث “عقول” تمدرست في أرقى جامعات أوروبا وأمريكا عن عقلانية صوم رمضان وفوائد الوضوء الصحية وحكمة تعدد الزوجات والطلاق "المنصف" على الطريقة الإسلامية والميراث "العادل" في ظلم النساء..
قرأت عن مهندسين وعلماء يعيشون في بلاد العم سام حكاية توصّلهم عن طريق الحاسوب إلى اكتشاف وجود أكثر من 120 مليونا من الملائكة، طالبوا الحكومات العربية والإسلامية استخدامها للنهوض بالتنمية.. وهو ما سبقهم إليه أحد أقطاب النظام الإسلامي في السودان .. وعلى نفس الوزن يصرح أبو جرة سلطاني لجريدة الخبر الجزائرية (03/09/2003) حينما كان يتولى وزارة مهمة في حكومة الجمهورية الجزائرية الديمقراطية والشعبية أنه لا يجد أية صعوبة في تسيير البشر في وزارته بعدما سيطر على الجن لسنوات طويلة. ربما استعان بالجن في عودته الى الواجهة اليوم بعد سقوطه مع بوتفليقة فهل يستعمل الجن وهو سيناتور اليوم في السيطرة على مجلس الامة؟
في الجزائر اليوم ألوف المحاربين للجن بواسطة القرآن،..ونعرف مصير كل بلد حينما يسقط بين أيدي أهل “طرد الجن والنجس وكل مكروه”، ونعلم نتيجة الحروب التي كان فيها معاونو عبد الناصر يستعينون بالجن لرسم الإستراتيجية القتالية لمواجهة الجيش الإسرائيلي.
كلنا في الدروشة شرقُ. من يتجوّل في مدن المغرب الأقصى ويقف على مدى انتشار الشعوذة لا يجد ما يرد به على مقولة “الشرق العرفاني والغرب العقلاني” الجابرية سوى القهقهة.
تسخير الجان لمنفعة الإنسان” و “مرشد الإنسان في رؤية الجان”، عنوانان لكتابين لم ينشرا في المرحلة اللاهوتية وإنما في سنة 2003 من طرف دار نشر تسمي نفسها “المكتبة الثقافية” وتوزعهما عن طريق الأنترنت، فسبحان من يجمع بين الجن والوينداوز!
يكاد الميثوس أن يقضي نهائيا على اللوغوس ويظهر ذلك جليا في قلة عدد المقبلين على شراء الكتب الأدبية والفلسفية في معارض الكتاب التي تنظم هنا وهناك في المنطقة وتضاعف عدد المقتنين والمكدسين للكتب التي تحكي عن الجن والعفاريت ويوم القيامة و“وقاية الإنسان من شر الجن والشيطان".
"إذا بدأنا في إدخال إرادة الله في تفسير سببية السيرورة، يقول عالم الأحياء جان روستان، لا يمكننا أن نؤسس علما”. أصاب المعري كبد الحقيقة أيضا عندما أشار إلى انقسام سكان المعمورة إلى نوعين: الذين يملكون عقلا بدون دين والذين يملكون دينا بدون عقل.
أجيال عربية جديدة تدق الأبواب. والجيل الذي لا يبدع نماذجه الثقافية التي تعبر عن معاناة عصره إنما هو جيل بين الحياة والموت، ومعقوليته في حالة تحنط، وهذه إحدى المهمات الكبرى للكتابة الفلسفية، هذا ما نقرأ في افتتاحية مقال حول “الفلسفة وميلاد معقولية جديدة”، كتبه في مجلة “الثقافة” الجزائرية أستاذنا في جامعة الجزائر، المفكر الفلسطيني، محمد الزايد، سنة 1979.
مرت 43 سنة كاملة على ما اشترطه صاحب “المعنى والعدم” و“اللحظة العدمية المتعالية”، وها نحن نعيش “لحظة سَلفية سُفلية”، تعيش العقلانية فيها أحلك أيامها، فلم نعجز عن ابتداع معقولية جديدة فحسب بل أجهزنا على ما كان قائما من عقل و فلسفة وعدنا إلى المرحلة اللاهوتية زرافات ووحدانا وباتت الجزائر ومعظم أخواتها «المسلمات" مشلولة لا تستطيع حراكا.
في كتابه “هذه هي الأغلال” وضع المفكر عبد الله القصيمي، على الغلاف الخارجي عبارة :“سيقول مؤرخو الفكر أنه بهذا الكتاب بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل”. “أيها العقل من رآك” في خضم الغارات اللاعقلانية المتتالية وفي عز زمن الإذعان للمألوف؟