الباحثة الجزائرية فيروز رشام : الكتابة مقاومة و نضال من أجل المساواة
حميد زناز
الحوار المتمدن
-
العدد: 7346 - 2022 / 8 / 20 - 17:33
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
حاورها حميد زناز
تشغل فيروز رشام منصب أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب واللغات بجامعة البويرة بالجزائر، وهي متخصصة في قضايا الأدب والدراسات النقدية. وقد صدر لها: شعرية الأجناس الأدبية في الأدب العربي: دراسة أجناسية لأدب نزار قباني، دار فضاءات، الأردن، ط01، 2016.
تعد فيروز رشام من الجيل الجديد للكتاب في الجزائر، وهي باحثة وروائية تحظى كتبها بالاهتمام والاحترام في الوسط الأكاديمي والأدبي على المستوى العربي رغم قلة ما أصدرته من كتب إلى حد الآن (ثلاثة كتب والعديد من المقالات)، ولعلها من الأسماء القليلة التي تتسم كتاباتها بالنضج والعمق إضافة إلى التميز في الطرح والأسلوب. تكتب فيروز رشام عن قضايا المجتمع والثقافة بكثير من الجرأة والوعي خاصة ما تعلق بالمرأة، فقد أصدرت في 2017 رواية بعنوان "تشرفتُ برحيلك" تدور حول معاناة النساء خلال العشرية السوداء والتحولات المجتمعية الخطيرة التي حلت بالجزائر بعد انتشار الإرهاب والتطرف الديني بأشكاله المختلفة ما غير مسار البلد كاملا نحو مصير درامي، وهي الرواية التي لقيت ترحيبا نقديا واسعا والتي يمكن القول بأنها أفضل ما كتب عن العشرية السوداء وعن وضع المرأة في المجتمع الجزائري المعاصر.
وقد أصدرت مؤخرا (سبتمبر 2021) كتاب بعنوان "تاريخ النساء الذي لم يُكتب بعد: دراسة حول الكتابة والجندر في الثقافة العربية"، وهي دراسة أكاديمية تناولت فيها أسباب تأخر النساء في مجال الكتابة في الثقافة العربية إلى غاية أواخر القرن التاسع عشر رغم شيوع التأليف منذ القرن السابع ميلادي، وحيثيات تهميش دورهن في التأريخ لأوطانهن وتجاهلهن في صياغة التاريخ المكتوب، فالذين تولوا كتابة التاريخ لم يذكروا النساء إلا في سياقات هامشية حتى بدى وكأنما لم يحققن شيئا مهمًا عبر الزمن وهو بالتأكيد مغالطة كبيرة، ومع أن الرجال قد أسهبوا في الكتابة عن المرأة وتكلموا باسمها ونيابة عنها لكنهم قدموها بشكل سلبي ومشوه واختزلوا وظيفتها في الجنس والإنجاب واتهموها بالخطيئة والفتنة ونقص العقل وبذلك تم تغييب عقلها والاستخفاف به واعتبرت غير قادرة على إنتاج المعرفة وهو تشويه يكشف عن حجم الجهل بطبيعة النساء سواء من الناحية الجسدية أو من الناحية النفسية.
في هذا الحوار تجيب الكاتبة عن بعض الأسئلة حول المرأة والكتابة والتاريخ وقضايا أخرى.
لنبدأ بروايتك الجميلة "تشرفتُ برحيلك" التي صدرت منذ حوالي خمس سنوات والتي حللت فيها التحولات الثقافية والاجتماعية التي تسببت فيها العشرية السوداء، برأيك بعد عشرين سنة من تلك العشرية الدموية هل تعافت الجزائر منها؟
للأسف لم تتعاف بعد، فما حدث قد خلخل البنى وغيّر طبيعة الأفراد ونمط حياتهم إلى غير رجعة، بل ويمكن القول إن نتائجها قد بدأت الآن في التجلي بوضوح على الصعيد السيكولوجي والثقافي وطبعا الاجتماعي. إن حجم الخراب الذي لحق بالبلد على جميع المستويات أفضع مما قد يوصف، ورغم ما تبدو عليه الحياة من استمرارية ومحاولة للنهوض من جديد غير أن الذاكرة الجمعية لم تشف بعد من الصدمة والجرح لا يزال مفتوحا، فقد تسببت تلك العشرية في انعراج مسار الحضارة والتقدم وإلى حد الآن لم نستطع إيجاد الطريق من جديد.
كنا ننتظر صدور رواية جديدة بعد نجاح روايتك الأولى وإذا بك تصدرين دراسة أكاديمية، أي نوع من الكتابتين أنسب لطرح انشغالات النساء؟
كلاهما ضروري ومهم، فثمة ما يعالج بالطرح الأكاديمي والعلمي بعيدا عن أي تحيز إيديولوجي أو عنصري ضد جنس بعينه، وهو ما تسعى إليه الدراسات النسوية ودراسات الجندر إضافة إلى كل البحوث التي تنتمي إلى حقول أوسع كالدراسات الثقافية والتاريخية والنقدية وغيرها. وثمة ما يعالج أدبيا لقدرة النصوص الإبداعية على تشخيص الأمراض النفسية والاجتماعية والثقافية بشكل أدق وأعمق من خلال الشخوص والحبكات وهو ما تستجيب له الرواية بامتياز.
كتابك الجديد حول تاريخ النساء يسائل الثقافة حول جرائمها في حق النساء بحرمانهن من الكتابة والتأريخ، أليس من المرجح أن النساء لم يهتمن بالأمر وانشغلن تلقائيا بشؤون عائلاتهن لذا لم يكتبن؟
لا أرجح هذه الفرضية فالحقائق التاريخية تؤكد أن الثقافة قد تواطأت مع النظام الذكوري لحرمان النساء من التعليم وإبعادهن بقصد وإصرار عن مراكز القوة والقرار كالولاية والقضاء والمؤسسات الدينية وقد تم ذلك بحجج مختلفة غير عقلانية تستجيب فقط لنزوات الذكورة كالقول بأن المرأة ناقصة عقل وغير قادرة على التفكير أو اتخاذ القرارات وأن دورها في الحياة لا يتجاوز تقديم المتعة الجنسية وإنجاب الأطفال. النساء لديهن فضول للمعرفة كما يمتلكن حسا فنيا وإبداعيا لا يخفى، لكن الثقافة عملت على عزلهن بحجة الخوف عليهن وما ذلك الخوف إلا اعتراف بوجود الأذية المستباحة اتجاه النساء لمجرد الظهور في المجال العام.
في كتابك تسردين حقائق حزينة حول كيفية طمس تاريخ النساء، هلا قدمت لنا فكرة؟
بدأت الكتابة باللغة العربية في الشيوع منذ القرن السابع ميلادي وبعد مرور بضعة قرون كانت قد بلغت ذروة العطاء بغزارة التأليف وتنوعه في مختلف المجالات انطلاقا من شبه الجزيرة العربية إلى شمال إفريقيا وحتى جنوب أوروبا، لكن الشيء الغريب فعلا أن الرجال يكتبون منذ أربعة عشر قرنا وتكتب النساء منذ حوالي قرن ونصف فقط، فإلى غاية نهاية القرن التاسع عشر لم يصلنا أي كتاب كامل أو مخطوط منسوب لامرأة عدا بعض الأشعار والشروح. فقد كانت الكتابة غير مستحبة للنساء بل ويتم التخويف من تعلمهن لها حتى أنه تم تلفيق بعض الأحاديث النبوية الكاذبة للقول بأن الكتابة لا تليق بالنساء وأنها تفسدهن بل ويجب منعهن عن ذلك. أما الذين كتبوا التاريخ فقد أهملوا النساء وبذلك أصبحت الكتابة كما التاريخ امتيازا ذكوريا.
الآن وقد أدركت النساء حجم التغليط التاريخي الذي حدث بخصوصهن وبعد تمكنهن من أدوات الكتابة والمعرفة هل سيتمكن من استرجاع تاريخهن وإعادة كتابته؟
سأقول حقيقة مفجعة.. إن أغلب تاريخ النساء قد ضاع بسبب عدم تدوينه في وقته، وطمس الأدلة على وجوده أصلا، حيث لا يوجد اعتراف بأن النساء قد قدمن شيئا مهما للبشرية حتى يؤرخ! القليل الذي بقي من أخبار النساء وتاريخهن موجود في التراث الشفوي على شكل أشعار وأمثال وقصص وحكايات وأشكال تعبيرية أخرى، كما يوجد في التراث المادي واللامادي ما يمكن أن يدل على تفكير النساء وإبداعاتهن من خلال العادات والتقاليد ومختلف أنواع الطقوس الاجتماعية وكذا النقوش والرسوم على الأواني والزرابي والمنازل وغير ذلك، وللأسف حتى هذا التراث في طريقه للزوال أيضا لعدم جمعه وأرشفته حيث لا يزال مهملا في ظل تطورات الحياة المعاصرة التي تمحو الذاكرة الجماعية الشفوية واللامادية.
ماذا كانت الكتابة ستضيف للنساء لو أنهن انخرطن فيها منذ زمن مبكر؟
بالتأكيد كانت ستضيف الكثير.. كانت صورة المرأة في الثقافة ستكون أكثر إيجابية وحقيقية بعيدا عن الإشاعات والاتهامات الباطلة ضد النساء بتعبيرهن عن أنفسهن بأنفسهن عوض أن ينوب عنهن الرجال، وكانت ستشارك النساء في إنتاج المعرفة وحتى في الولاية والقضاء والإفتاء وسواها من مراكز القوة والقرار التي تتحكم في الشؤون المصيرية، وكانت العلاقة بين الجنسين ستكون أفضل والمجتمع أكثر توازنا، ولكان التاريخ قد كتب بشكل آخر بل وقد حدث بشكل آخر أيضا!
ماذا عن الأمر حاليا، هل ترحب الثقافة بكتابات النساء وهل النساء حقيقة مهتمات بالكتابة؟
طبعا مهتمات! وإذا كان عدد الكاتبات قليل سواء في الجزائر أو في سائر البلدان العربية فذلك عائد لحداثة تجربة الكتابة لدى النساء بسبب ارتباطها المباشر بحداثة تعليم البنات والتحاقهن بالمدارس، فإلى وقت قريب لم يكن التعليم إجباريا وكانت المجتمعات تفضل تعليم الذكور على الإناث. كل ما تقوم به المرأة ويخترق تقاليد الثقافة الذكورية غير مرحب به ولو ضمنيا والكتابة من بين ذلك، والكاتبات اللواتي يكتبن بشكل مباشر عن قضايا النساء ويفضحن جرائم المجتمع والثقافة في حقهن يتعرضن لأشد أنواع التنمر والنقد والسخرية وما حدث للكاتبة والمناضلة النسوية نوال السعداوي مثال على ذلك.
برأيك لماذا لا توجد حركات نسوية قوية في البلدان العربية؟
في كل مرة تظهر فيها حركة نسوية -فردية أو جماعية- يتم تشويهها إعلاميا وخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويتم اتهامها بالانحراف والتخطيط لإفساد المجتمع أو خدمة أجندة أجنبية مع أن قضاياها واضحة ومباشرة تتعلق أساسا بتفعيل القوانين لحماية النساء من العنف الأسري والاجتماعي وبمراجعة القوانين المدنية الجائرة المتعلقة بحضانة الأطفال وبعض الحقوق الزوجية وهي شؤون تسبب معاناة حقيقية للنساء في أرض الواقع، لكنهم جعلوا من النسوية تهمة ويا لها من تهمة!
هل تتوقعين حدوث ثورات نسوية مستقبلا؟
الثورة قائمة أصلا لكن ثورات النساء بلا رصاص ولا دماء! فكل يوم هناك معارك نسوية في مختلف بقاع العالم، كل امرأة تقود معركتها في دائرتها المحدودة لتنتزع حقها في التعليم أو العمل أو اختيار شريك الحياة أو حضانة الأطفال وحتى أشياء أخرى في منتهى البساطة كحق التنقل أو التعبير أو المعاملة الكريمة! تبدي النساء اليوم اهتماما كبيرا بالتعليم في جميع الأطوار وجميع التخصصات، وبالنظر للإحصاءات المدرسية والجامعية فإن نسبة نجاح الإناث يفوق نسبة نجاح الذكور بكثير ما يعني أن النساء قادمات على خطوات كبيرة في السنوات القادمة.
الخطاب الديني المتطرف استخدم دائما النساء كوسيلة للسيطرة على المجتمع، هل مازال على حدته وعنصريته ضد المرأة رغم وجود خطاب تنويري وحداثي موازي؟
الأمور غير واضحة تماما، فمن جهة بدأ الخطاب الديني المتطرف في التراجع بعد إفلاسه ونفور الناس منه ومن جهة أخرى لا تزال هناك ارتدادات لتأثيره السلبي على العقول والسلوكات بعدما تمكن من السيطرة على الثقافة لسنوات طويلة. أما الخطاب التنويري والحداثي فلا يزال يتخبط ويتقدم لكن من المبكر إعلان انتصاره، والنساء بين هذا وذاك يقاومن بما يستطعن متحديات جميع أشكال العنف والقمع ويفرضن أنفسهن في عدة مجالات.
قلت في كتابك بأنه رغم كثرة ما كتبه الرجال عن النساء لا تزال معرفتهم بهن ضئيلة جدا، كيف ذلك؟
ما أُلف عن المرأة في الثقافة العربية شيء هائل سواء من منظور أدبي أو ديني، وقد استعار الرجال لسان المرأة وتحدثوا باسمها كما أسهبوا في وصفها وفي إملاء المواعظ عليها، لكن المرأة التي قدموها في نصوصهم ليست واقعية إنما هي مزيج من الأسطورة والتوهمات التي تكشف حجم الجهل بطبيعتها السيكولوجية والجسدية فتارة هي مقدسة وتارة فاتنة وملعونة. ما كتب عن المرأة لا يمثل النساء ولا يستجيب لمتطلباتهن بل هو تشويه لصورتهن وتقزيم لقدراتهن التي اختزلت في المتعة والإنجاب.
ولكن أليس للمرأة بعض الأصدقاء من الرجال الذين يسعون لتحريرها ودعمها؟
بالتأكيد يوجدون سواء من الكتاب أو من غير الكتاب لكنهم فئة قليلة مغلوبة على نفسها وتلقى السخرية والاستهزاء من الأغلبية الذكورية التي تتهمهم بالانحلال. أن يكون الرجل نسويا أي يحترم المرأة ولا يتعدى على حقوقها بل ويناضل معها لتكون في ظروف أفضل هو خلق إنساني يفترض أن يتحلى به جميع الرجال تلقائيا وليست خدمة تقدم لها كنوع من الشفقة، وللأسف فإن التربية الذكورية حالت دون ذلك.
أعجبتني عبارة قلتها في الكتاب وهي: (أن تكون المرأة نسوية فتلك هي الفطرة، أما أن تكون ذكورية فذلك خروج عن كل طبيعة. إن أسوأ ما فعلته ثقافة الذكورة في النساء أنها جعلتهن ذكوريات أيضا!) هل يفهم من ذلك أن النساء الذكوريات كثيرات في المجتمع؟
إنهن موجودات حقيقة بغض النظر عن كثرتهن أو قلتهن، وهن يعرقلن بطريقة ما تقدم النساء، فبعد كل هذه القرون من الهيمنة والقمع تشبعت النساء بثقافة الذكورة فاعتقدن بأنها قانون من قوانين الحياة التي يجب تقبلها وأصبحن يعدن إنتاجها بشكل غير إرادي لذا يحرصن على استمرار بعض العادات الذكورية البحتة رغم ما فيها من أذية للمرأة كما يقدمن امتيازات غير مبررة لأبنائهن الذكور على حساب الإناث وقد تصادف منهن من تعتقد بأن ضرب المرأة وتعنيفها حق شرعي للرجل، لذا فإن المناضلات النسويات يجدن مقاومة وصد من النساء الذكوريات وتلك مأساة أخرى.
افتتحت كتابك بعبارة قوية تقولين فيها: (لو يكف الرجل عن اعتبار نفسه أعلى شأنًا من المرأة، وتكف المرأة عن اعتبار نفسها أقل شأناً من الرجل، سيتبين للاثنين كم هما متساويان!) أرجو أن توضحي لنا نوع المساواة التي تقصدينها.
المساواة الإنسانية أولا وأخيرا، فلا جنس أعلى ولا جنس أدنى، ثم تأتي بقية التفاصيل التي تحقق التكامل بينهما.
أنت كامرأة ماذا تعني لك الكتابة شخصيا؟
تعني أشياء كثيرة سيطول إحصاؤها لذا وباختصار سأقول بأنها طريقة للمقاومة والنضال وطبعا متعة واكتشاف.