لا حل في حل البرلمان.. فرنسا نحو المجهول
حميد زناز
الحوار المتمدن
-
العدد: 8037 - 2024 / 7 / 13 - 04:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
جاء إلى الرئاسة سنة 2017 بنصبه لفخ “أنا أو اليمين المتطرف” المعتاد من طرف سابقيه، وأعاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفس السيناريو سنة 2022 ليفرض عهدة ثانية على الرغم من سخط أغلبية الفرنسيين على سياسته الاجتماعية – الاقتصادية وحتى الخارجية. وحاول إعادة الكرة بمناسبة الانتخابات الأوروبية الأخيرة يوم 9 يونيو ولكن لم تنجح كل الحملات الإعلامية في شيطنة حزب التجمع الوطني (حزب مارين لوبان) وخرج ما يطلق عليه بالحزب الفاشي فائزا بالمرتبة الأولى وبنسبة نجاح قاربت 32 في المئة من مجموع المشاركين.
كانت ضربة قاسية للرئيس ماكرون الذي كان يَعِد محبيه منذ مجيئه بوأد حزب عائلة لوبان. وبعد تلك الهزيمة التي مني بها من قبل ذلك الحزب الذي كان يريد اقتلاعه، أصابه الهلع فقرر حل البرلمان دون استشارة حتى رئيس حكومته غابرييل أتال وهو ما اعتبره أغلب المحللين والسياسيين الفرنسيين هفوة كبيرة بل هدية إلى حزب لوبان وهو في أوج شعبيته.
وقد فُسّر ذلك التصرف غير المنتظر تفسيرات عديدة بسيكولوجية متعلقة بنفسية رجل سريع الغضب أراد أن ينتقم من مقربيه، وخاصة نواب حزبه الذين لم ينشطوا بما فيه الكفاية للحد من صعود اليمين المتطرف واليسار المتطرف.
في الحقيقة كان يريد أن يفاجئ جميع الأحزاب يمينا ويسارا ويضع الكل في مأزق “أنا أو اليمين المتطرف” كما اعتاد أن يفعل في المرات السابقة معتمدا على فكرة أن ضيق الوقت الذي فرض لن يكفي الأحزاب السياسية لترتيب أمورها وإعداد قوائم ممثليها في مدة قصيرة لن تتجاوز الثلاثة أسابيع، وهي التي هجرها الناخبون والتي تعيش مشاكل داخلية في معظمها ما عدا حزب لوبان.
وقد جاءت نتائج الدور الأول كما كان ينتظر إيمانويل ماكرون إذ جاء حزب التجمع الوطني في المرتبة الأولى محققا أكثر من 33 في المئة من أصوات الناخبين. وفي الوقت الذي كان فيه ماكرون يستعد لرفع شعاراته السحرية: الدفاع عن قيم الجمهورية، الفاشية على الأبواب وغيرها من المراوغات، حدث ما لم يكن في حسبانه أبدا: ظهور فجأة ما يسمى “الجبهة الشعبية الجديدة”، مكونة من الاشتراكيين والشيوعيين والخضر واليسار المتطرف وهي حزيبات لا جامع سياسيا ولا برامجيا بينها، فلا يجمعها سوى البحث عن الكراسي.. وهكذا أفسدت على الرئيس عرسه المعنون “أنا أو لوبان” لمّا فازت تلك الأحزاب بالمرتبة الأولى في الدور الثاني.
ونتيجة السباق كما يقول الفرنسيون: لا أحد فاز بأغلبية تؤهله للحكم، علاوة على أن ماكرون المبادر بحل البرلمان قد فقد نصف نوابه بينما ضاعف حزب التجمع الوطني من عدد نوابه! كل هذا من أجل هذا.
في كلمته التي أعلن فيها عن حل البرلمان، قال الرئيس ماكرون إنه يريد بذلك توضيح المشهد السياسي بإعطائه الكلمة للشعب. فهل اتضحت الأمور وهل تعبّر تشكيلة هذا البرلمان عن رغبة الشعب وممثلة له؟ وما الجديد الذي جاءت به هذه الانتخابات المسبقة؟
في الحقيقة لقد زادت الانتخابات الطين بلة إذ بدأ الصراع على المناصب فور نهاية الاقتراع، ونحن في فرنسا نعرف منذ مدة أن أغلب السياسيين انتقلوا من الصراع الطبقي إلى صراع محموم على الكراسي. الملاحظ للتفاهمات التي تمت مثلا بين حزب الرئيس وما سمّي بالحزب الشعبي الجديد يقف على أمور لا تخطر على بال سياسي عقلاني! فالرئيس الذي قال في مناسبات عديدة إن حزب “فرنسا الأبية” بزعامة جون لوك ميلنشون خرج عن النظام الجمهوري وأصبح هو وحزب التجمع الوطني حزبين متطرفين، بل ذهب إلى وصف حزب ميلنشون بمعاداة السامية ومحاباة الإسلامية.
وحزب ميلنشون ذاته لم يترك وصفا قبيحا لم يطلقه على الرئيس ماكرون ووزيرته الأولى السابقة إليزابيث بورن، ولكن كل ذلك لم يمنع هذا الأخير من الانسحاب في الدور الثاني لصالح الوزيرة ومطالبة ناخبيه بالاقتراع لصالحها، وقد فازت بأصوات الحزب اليساري المتطرف. ومن الجانب الآخر، لقد فعل حزب الرئيس نفس الشيء مع أحد قياديي حزب ميلنشون السابقين، فرانسوا روفان، وسحب مرشحه ليترك المجال له ويفوز أيضا. ويمكن أن نذكر العشرات من الأمثلة عن هذا السلوك السياسي الغريب الذي تتحالف فيه الأضداد.
ولكن الأدهى والأمر أن يُنتخب شخص بدعم من أصوات حزب الرئيس، وسبق أن حكم عليه مرات عديدة بتهمة التحريض على الإرهاب واستعمال العنف وهو مصنف في درجة “س” في قضية الإرهاب والمقصود أنه إرهابي بالقوة. بمعنى أنه يمكن أن يرتكب فعلا إرهابيا في أيّ لحظة.
وما يثير الدهشة والتساؤل أيضا هو تلك الأرقام التي قدمتها وزارة الداخلية الفرنسية والتي تبدو غير منطقية تماما، فكيف يمكن أن يصوت 8745081 ناخبا لصالح التجمع الوطني ولا يحصل سوى على 88 مقعدا، بينما يصوت لصالح الحزب الشعبي الجديد 7005512 ناخبا فقط ويحصل على 146 مقعدا؟ ويصوت لصالح حزب الرئيس ماكرون اقل من سابقيه: 6314525 ناخبا ويتحصل على 148 مقعدا!
إن كان لا يمكن اتهام الإدارة بالتزوير، ينبغي إعادة النظر في هذا النمط من الاقتراع الذي بات يشكل عقبة أمام تشكيل جمعية وطنية تمثل فعلا ما أرادته أغلبية الناخبين.
ما يتغافل عنه المحللون، خاصة في الإعلام العمومي المسيطر عليه من قبل اليساريين، هو ما حدث من مظاهرات وعنف وتكسير فور الإعلان عن نتائج الدور الأول، وحتى قبله في الانتخابات الأوروبية في مدن كثيرة على رأسها باريس وليون ورين، حتى بات الوضع ينذر باضطرابات أمنية تشبه ما حدث من همجية وسرقة وحرق عام 2023 إثر حادثة مقتل المراهق ناهل من طرف شرطي في باريس بعد رفضه التوقف وهو يقود سيارة دون رخصة.
لقد تخوف معظم الفرنسيين من اشتعال الحرب الأهلية لو فاز حزب لوبان وربما صوتوا لصالح تلك الأحزاب التي كانت شبه مجهرية، ليس حبا في برامجها وإنما تجنبا لحرب أهلية يكون مصدرها رفض الأحزاب اليسارية ومناصريها لنتائج تكون في صالح لوبان.
يمكن القول إن جميع الأحزاب التي وصلت إلى البرلمان قد ربحت، ولكن يبقى الشعب الفرنسي هو الخاسر الأكبر. فبغض النظر عن تلك الأمور غير العقلانية التي حدثت في هذا الاقتراع وكل التلاعبات والتحالفات اللاطبيعية، الأمر الأكيد هو أن فرنسا دخلت في دوامة من صراعات لا تنتهي من أجل الحكم وامتيازاته وستشهد انسدادا محتوما تكون له تبعات اقتصادية ومالية واجتماعية خطيرة.
كان الجنرال ديغول يقول عن فرنسا: كيف تريد أن تحكم بلدا يوجد فيه 258 نوعا من الجبن؟ واليوم يمكن القول: هل يمكن أن تستتب الأمور في بلد يوجد فيه حزب واحد فقط كحزب جون لوك ميلنشون؟