دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأسيسها حتى المؤتمر الثامن .... بمناسبة 57عاماً على انطلاقتها


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 8188 - 2024 / 12 / 11 - 21:52
المحور: القضية الفلسطينية     

57 عاما من النضال ... عاشت الذكرى دامت الثورة ...
دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأسيسها حتى المؤتمر الثامن .... بمناسبة 57عاماً على انطلاقتها

محتويات هذه الدراسة :
- المسيرة التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
- ولادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومؤتمراتها حتى المؤتمر الثامن .

تقديم:
الأصدقاء والرفاق الأعزاء.. نلتقي اليومَ في مناسبة مرور سبعة وخمسين عاماً على المسيرة النضالية للجبهة الشعبية منذ انطلاقتها في الحادي عشر من ديسمبر 1967، ليس اعتزازاً وفخراً بنضالها ووفاءً لشهدائها الابطال وتحية لأسراها المناضلين فحسب، بل أيضاً نلتقي لكي يكونَ إحياء هذه الذكرى وفاءً وعهداً من كل رفاقنا صوبَ مزيدٍ من الوعي والالتزام الخَلاَّق بالمبادئِ الماركسية اللينينية والأهدافِ الوطنية والقومية التقدمية والأممية، إلى جانب القيم الأخلاقيةِ والديموقراطية التي جسدتها الجبهة ، لكي نتواصل مع هذه المبادئ والقيم كطريقٍ وحيد نحو تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة، ذلكَ هو التجسيدُ الحقيقيُ لإخلاص الجبهة ووفاءها لكل شهداء شعبنا الذين قدموا أرواحهم على درب استعادة حقوقنا التاريخية في كل فلسطين.
لذلك ونحن نحيي الذكرى السابعة والخمسين للانطلاقة اليوم مع جماهير شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية والأرض المحتلة عام 1948 والشتات، فإننا نحيي لحظة وطنية وتاريخية غامرة بروح التحدي والصمود في مجابهة المخططات الإمبريالية الصهيونية والرجعية، ما يعني أننا أمام لحظة فارقة هي الأشد خطراً في كل تاريخ شعبنا، الأمر الذي يفرض على كافة الرفاق موقفاً ثورياً حاسماً غامراً بالروح الوطنية والقومية والأممية، ينطلقوا منه صوب توعية وتحريض قطاعات واسعه من أبناء شعبنا وتوعيتهم وتنظيمهم في صفوف الحزب وحوله ليس لمواصلة دورهم النضالي التحرري والمجتمعي فحسب، بل أيضاً لكي تستعيد الجبهة دورها الطليعي في أوساط جماهير شعبنا من جهة وفي إطار قوى اليسار العربي الماركسي من جهة ثانية.
وفي هذا السياق أشير إلى أن تراكم المخاطر الناجمة عن الجرائم العدوانية الصهيونية النازية ضد شعبنا عموما وفي قطاع غزة خصوصا وتدمير اكثر من 70% من منشآته واستشهاد وفقد ما يزيد عن 55ألف اكثر من 20% منهم من الأطفال، الى جانب الصراعات والتناقضات الداخلية الفلسطينية والمخاطر الناجمة عن المشاريع والمخططات الامبريالية الصهيونية الهادفة تصفية قضيتنا، مما يفرض تفعيل وتطوير كل عناصر ومقومات النهوض بالجبهة الشعبية من أجل استعادة دورها المتميز ، كبديل ديمقراطي ثوري لكل من منهج وقيادة اليمين السياسي واليمين الديني، من ناحية، وتفعيل دورها وتحالفاتها مع القوى التقدمية في كل بلدان الوطن العربي من ناحية ثانية.
انطلاقاً من هذه الرؤية، أؤكد على أن العقل الثوري التغييري الذي تحمله الجبه...ة الشعبية لن يتراجع بسبب قوة وانتشار تيار الإسلام السياسي في المرحلة الراهنة وخاصة استيلائه على الحكم في سورية بداية ديسمبر الحالي بدعم تركيا وقطر وبعض دويلات الخليج ومن ثم توفير الفرص امام العدو الصهيوني الذي قام باحتلال مزيد من أراضي الجولان الى جانب تدمير اسلحة الجيش السوري البرية والبحرية والجوية ومعظم مراكز البحث العلمي في ظل صمت وخنوع جماعة النصرة القابضة على نظام الحكم اليوم في سوريا، ولكن رغم هذه المخاطر فان العقل التقدمي سيستمر في عقول الجبهاويين على شكل قوة موضوعية تكمن في صميم هوية الجبهة الفكرية .. الماركسية ومنهجها المادي الجدلي، وكل إمكانيات النهوض فيها في موازاة صلابة الموقف الذي تحمله الجبهة الشعبية في سفينة قوى اليسار العربي و العالمي المناضل من أجل التحرر والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية بعيدا عن سفينة الأصوليين المحكومة بقواعد التعصب والتخلف الاجتماعي ، وبعيدا عن سفينة الكومبرادور المحكومة برياح التبعية والتسوية مع التحالف الإمبريالي الصهيوني الرجعي.
فالتغيير الثوري بالنسبة للجبهة الشعبية هو مبرر وجودها، وهو أيضاً قمة النضال السياسي والديمقراطي الطبقي والكفاحي في تلاحمهما معاً، إذ انه خلال مسيرة النضال، تترابط وتتوحد القضايا السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية على أرضية صلابة الانتماء الوطني والانحياز الطبقي الصريح والصادق للعمال والفلاحين وكل الكادحين والفقراء، كشرط أساسي لتوحد وتعاظم دور الجبهة في القضايا التحررية والديمقراطية ، الوطنية والقومية والأممية، وذلك انطلاقاً من الإدراك بأن الثورة لا تنضج بمقدماتها فحسب، بل تكتمل بتوفير العناصر الموضوعية للوضع الثوري والعامل الذاتي، وهي أيضاً لا يمكن أن تندلع –بالصدفة أو بحفنة من المناضلين المعزولين عن الشعب، بل بالحزب الطليعي المؤهل، الذي يتقدم صفوف الجماهير الشعبية الفقيرة، واعياً لمصالحها وتطلعاتها وحاملاً للإجابة على أسئلتها، ومستعداً للتضحية من أجل هذه الجماهير، واثقاً كل الثقة من الانتصار في مسيرته المظفرة.
إن حجم هذه المهمة التاريخية الملقاة - بدرجة أساسية – على عاتق الجبهة الشعبية يستوجب ان تنهض بأوضاعها بما يكفل تجاوز الكثير من تشويهات وسلبيات الهمم الضعيفة، مع إدراك مناضلي الجبهة أن البديل لمنهج وأهداف الجبهة وطريقها هو استمرار غرق مجتمعنا الفلسطيني في ردته المرعبة نحو همجية تحفزها همجية التسلط الامبريالي الصهيوني الرجعي . وفي هذا السياق نقول: إن وعي هذه الحقيقة من شأنه أن يصبح بحد ذاته حافزاً للإرادة، خاصة لدى الرفاق المؤمنين بمبادئ حزبهم/جبهتهم ، بضرورة النضال بكل أشكاله السياسية والمجتمعية والكفاحية على وقف الانحدار نحو الكارثة، وشق الطريق صوب المستقبل الذي تتطلع إليه بشوق كبير جماهير الفقراء والكادحين من أبناء شعبنا.
بهذه الرؤية نعتقد أن الجبهة الشعبية ستتواصل في مسيرتها عبر تجددها الذاتي، المعرفي الماركسي اللينيني والتنظيمي والسياسي والمجتمعي، على طريق النضال والتغيير والتقدم السياسي والاجتماعي، عبر المزيد من الالتحام في صفوف الجماهير الشعبية، بما يؤكد على أهمية تحديد دورها في المجال السياسي وارتباطه الفعال بالقضايا التحررية والمجتمعية وما تتضمنه من ضرورات تحديد الموقف من الرأسمالية واقتصاد السوق الحر والعولمة المتوحشة وكل أشكال الاستغلال والاحتكار، ورؤيتها وموقفها الواضح تجاه قضايا الصراع الطبقي الاجتماعي والثقافي ، ودور هذا الصراع في كافة التحولات الاجتماعية والسياسية في مجتمعنا الفلسطيني، وفق مفاهيم الديمقراطية والمواطنة والحداثة ، وهي قضايا لا يمكن تجسيدها أو الدفاع عنها ، ومن ثم تحقيقها، بدون أن تنهض الجبهة ببنيتها وأدواتها وتوفر الاستراتيجيات والخطط والبرامج التنموية (في مواجهة تحديات الفقر والبطالة والتشغيل والموارد الضعيفة.. إلخ) والتعليمية والاجتماعية والصحية والثقافية وغير ذلك من البرامج وفق منهجية علمية وإدارية حديثة، تتوخى الموضوعية من ناحية، وعلى أساس العمل على فك علاقة الالحاق والتبعية للاقتصاد الإسرائيلي وللمعونات الغربية المشروطة، وخاصة بالنسبة لتكاليف اعمار غزة التي تتجاوز 70 مليار دولار ، وكل ذلك انطلاقاً من الرؤية الموضوعية السليمة التي تحرص على الوحدة الوطنية التعددية تحت مظلة م.ت.ف الى جانب الترابط الوثيق بين مهمات التحرر الوطني والديمقراطي بمضمونه المجتمعي والاقتصادي، بحيث تتوفر إمكانيات ومقومات اقتصاد الصمود والمقاومة مع النضال السياسي والكفاحي التحرري من أجل تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة.
وبهذه الرؤية أيضاً ستضمن الجبهة – بصورة ثورية وواقعية إلى أبعد الحدود - المزيد من التوسع التنظيمي وانتشار مبادئها وراياتها في كل بقعة من بقاع الوطن ومخيمات الشتات، الأمر الذي يتطلب من كل الرفاق والرفيقات، مزيداً من رص الصفوف والعلاقات الرفاقية الديمقراطية الدافئة، والإيمان الوحدوي العميق بأهداف الجبهة ومبادئها، من أجل توسع ومضاعفة الخلايا والهيئات الحزبية... واستنهاض اللجان الثورية والجماهيرية والمجتمعية في أوساط الفلاحين والعمال والشباب والمرأة والمهنيين وكل الكادحين والفقراء من أبناء شعبنا ... و مزيداً من تطوير العلاقات الرفاقية مع كافة الأحزاب اليسارية العربية والدولية... شرط أن تنطلق الحركة في كل ذلك من الوعي الثوري بالنظرية الماركسية ومنهجها وبكل تفاصيل واقعنا المعاش، الكفيل وحده بضمان نجاح مسيرة نضالنا التحرري والديمقراطي ... فلا حركة ثورية بدون نظرية ثورية نسترشد بها من أجل تجديد وتصليب البنية التنظيمية والكفاحية وتعميق الديمقراطية والطابع الجماهيري للجبهة الشعبية كحزب ثوري وطليعي .
إن ما ترتبه الإمبريالية والصهيونية للمنطقة عموماً ولقضيتنا الوطنية على وجه الخصوص ليس قدراً لا يرد، حتى في ظل النجاحات والانجازات النوعية والكبيرة التي حققها الحلف المعادي في ظل العدوان والقصف الهمجي الصهيوني منذ اكثر من 14 شهر وحتى اللحظة دون توقف في ظل صمت عالمي واسلامي مريب ، لكن هذا الواقع لن يكون أبدياً ونهائياً.
وبهذا المعنى فإن الحركة الثورية الوطنية والقومية وبالاستناد إلى طبيعة المشاريع المعادية وتناقضها الجذري مع حقوق ومصالح شعبنا وامتنا، قادرة على الفعل والمجابهة وبما يؤسس لمرحلة نهوض جديدة أكثر نضجاً وأكثر استجابة لحركة الواقع الموضوعية والذاتية وطنياً وقومياً.
إن المرحلة تتطلب عقول وسواعد الجميع، كما تتطلب الوعي والإرادة والتصميم على استمرار الكفاح ومواصلة العمل لنقل مشروعنا الوطني التاريخي إلى مستوى التحقيق التحرري المادي الملموس.
هذه هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها، وهو الأمر الذي يفرض الربط بكلية الوضع العربي، أي بالنضال العربي ككل، باعتبار الصراع هو صراع عربي صهيوني يكون النضال الفلسطيني في طليعته ، انطلاقاً من أن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية في الوطن العربي ضد السيطرة الإمبريالية بما فيها الدولة الصهيونية .
وفي هذا الجانب، فإن استكمال عملية النهوض الذاتي ، السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري والكفاحي للجبهة ، من أكثر المهام الداخلية إلحاحاً تمهيداً لإعادة بناء قوى اليسار الماركسي ووحدتها.
وهنا يتجلى دور الجبهة الشعبية لكي تكون قادرة على تأطير كل المناضلين الجديين، وفق رؤية تطرح للنقاش، تقوم على :
1) أن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية العربية ضد السيطرة الإمبريالية الصهيونية، والنظم الرجعية الكومبرادورية التابعة. وهنا يجب أن يتحدد دور الطبقات الشعبية الفلسطينية في إطار هذه الرؤية/ الإستراتيجية.
2) أن لا حل تاريخي وعادل في فلسطين إلا عبر إنهاء الدولة الصهيونية في إطار الصراع العربي العام. وأن البديل هو الدولة الديمقراطية العلمانية بحقوق متساوية لكل مواطنيها .
3) إعادة بناء العلاقة مع الطبقات الشعبية الفلسطينية في كل مناطق تواجدها انطلاقاً من هذه الأسس، وتوحيد نشاطها من أجل النهوض بالنضال من جديد، وتفعيل نشاطها ضد الاحتلال بمختلف الوسائل الممكنة.
ذلك إن الضياع في تفاصيل الوضع اليومي لن تقود سوى إلى التأخر عن البدء من البداية الصحيحة، وربما الفشل النهائي الذي سيفرز بدوره مزيداً من الفرص لقوى اليمين السياسي والاجتماعي للتمدد والانتشار، ما يعني إمكانية توفير المزيد من عوامل التراجع التنظيمي والجماهيري بالنسبة لليسار عموماً وللجبهة بشكل خاص ، وهو أمر يرفضه أعضاؤها وأصدقاؤها بصورة كلية واثقين من إمكانية تجدد دورها الطليعي في هذه المرحلة وفي المستقبل ارتباطاً بالتزامها بالأسس السياسية والفكرية والتنظيمية التي تُؤمن بها وتناضل من أجل تحقيقها.

أيها الرفاق الأعزاء...
إن جبهتكم الشع...بية التي قدمت أروع الأمثلة في ثباتها وتمسكها بحقوق شعبنا الوطنية والتاريخية، وفي التزامها في الدفاع عن قضايا الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين طوال مسيرتها التي قدمت فيها آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين، ستظل وفية لمبادئها وأهدافها التي انطلقت من اجلها في الحادي عشر من ديسمبر 1967 ، وستظل –قبل كل شيء- وفية لمبادئها ووفية لكل المناضلين اللذين استشهدوا ، وأولئك اللذين قدموا التضحيات الغالية من اعمارهم في سجون العدو وزنازينه .
ففي الذكرى السابعة والخمسين للانطلاقة، نقول إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي ضَمَّت بين صفوفها منذ تأسيسها إلى يومنا هذا، أجيالاً من المناضلين، ضَمَّت الجد والجدة والأب والأم والأبناء والأحفاد من جماهير الفقراء والكادحين، أجيال تعاقبت على حمل الراية، راية التحرر والحرية والعدالة الاجتماعية، راية الوطن، راية الماركسية والصراع ضد الامبريالية والصهيونية والرجعية وكافة مظاهر وأدوات الاستغلال والتبعية والاستبداد، إنها راية العمال والكادحين والفلاحين الفقراء والمثقفين الثوريين، هي اليومَ تُجددُ العهدَ .. وتُجددُ روحَها الثورية من أجل نهوضِها واستعادة دورها الطليعي ومواصلةِ النضال لتحقيقِ الأهدافِ التي استشهد من أجلها الآلاف من الرفاق المناضلين عبر مسيرتها وذلك انطلاقا من إيمانها وقناعتها ومواثيقها أن الصراع هو صراع عربي صهيوني/امبريالي بالدرجة الأساسية يكون الثوار الفلسطينيون في طليعتهم .
وانطلاقاً من هذه الرؤية، الملتزمة بأسس ومبادئ الجبهة منذ تأسيسها، سأتناول في هذه الدراسة موضوعاً رئيسياً وضرورياً في المرحلة الراهنة، تحت عنوان: التطور السياسي والفكري للجبهة منذ تأسيسها حتى اللحظة الراهنة، وذلك عبر المحاور التالية:
أولاً: المحطة الأولى أو المرحلة التأسيسية.
ثانياً: المحطة الثانية: المؤتمر الأول آب 1968 وانشقاق الجبهة الديمقراطية.
ثالثاً: المحطة الثالثة: المؤتمر الوطني الثاني - شباط 1969.
رابعاً: المحطة الرابعة: المؤتمران الوطنيان الثالث والرابع.
خامساً: المحطة الخامسة: المؤتمر الوطني الخامس.
سادساً: المحطة السادسة: المؤتمر الوطني السادس – تموز 2000.
سابعاً: المحطة السابعة: المؤتمر الوطني السابع – ديسمبر 2013.
ثامناً: المراجعة النقدية للمرحلة الراهنة والمستقبل.
تاسعاً: المؤتمر الوطني الثامن وأولوياته الفكرية والتنظيمية والسياسية.
إنَّ الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، ومنذ تأسيسها في الحادي عشر من ديسمبر/67 قد ربطت صيرورة النضال الوطني بمستقبل النضال القومي التقدمي للحركة الثورية على المستويين العربي والأممي ، إيماناً بالافكار الوطنية والقومية والأممية التوحيدية ، التي ضحى في سبيلها آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين والمناضلين من رفاقنا عبر مسيرتهم الثورية التي تواصلت مع انطلاقة الجبهة .
فالتغيير الثوري بالنسبة للجبهة الشعبية هو مبرر وجودها وهو أيضاً تجسيد النضال السياسي والكفاحي في تلاحمهما معاً، إذ انه خلال مسيرة النضال، تترابط وتتوحد القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أرضية صلابة الانتماء الوطني والانحياز الطبقي الصريح والصادق للعمال والفلاحين وكل الكادحين والفقراء، كشرط أساسي لتوحد وتعاظم دور الجبهة في القضايا التحررية والديمقراطية ، الوطنية والقومية والأممية .
أما بالنسبة لتجربة حركة القوميين العرب ودورها، فليس أفضل من التذكير بموقف الرفيق القائد المؤسس الراحل د.جورج حبش، فهو يرى أن هنالك نقاطاً أساسية علمية وعملية يجب تسجيلها في معرض تقويم الحركة ، وهي:
ان حركة القوميين العرب كانت فصيلاً من فصائل حركة التحرر الوطني العربي ، كانت في المشرق العربي بالذات الحركة الجماهيرية التي تصدت للاحلاف وساندت القيادة الناصرية ووقفت في وجه الإمبريالية بشجاعة .
ان الحركة عاشت عملية تطور متصلة في اتجاه اليسار، بدأت الحركة بطرح شعار "وحدة ، تحرر ، ثأر" وتصاعد التطور إلى حد وضع وثيقة تموز 1967 التي تشكل -في تقديري- وثيقة نظرية وضعتنا على أبواب تنظيم ثوري جذري اجمالاً على رغم ما يقال في موضوع التناقض الداخلي الذي شهدته حركة القوميين العرب .
وعلى هذا الأساس ، فإن الجبهة الشعبية – حتى اللحظة الراهنة- تعتبر أن تجربتها التنظيمية والسياسية امتدادا متقدماً لتجربة حركة القوميين العرب ، وأن التاريخ السليم للجبهة بكل ما مثلته لابد وأن يبدأ من وضع حركة القوميين العرب ليس لناحية ما تطورت وانتهت إليه فحسب، بل في ما انطلقت منه أصلا .
إن البحث في "فلسطينية" حركة القوميين العرب خارج قوميتها نوع من العبث لا يوازيه إلا البحث في قومية الحركة خارج "فلسطينيتها" أو البحث في فلسطين خارج المكان والزمان العربي وخارج سايكس- بيكو الذي أنتج وعد بلفور، الذي أعاد إنتاج تجسيد لسايكس – بيكو، وبموازاة ما يبدو لقصيري النظر التباساً، فإن تفسير مؤسس الحركة القائد الراحل جورج حبش يبقى عصياً إذا لم تستوعب المسافة بين الفرد والزمن، فهو القائل: "حين يكون العرب بخير تكون فلسطين بخير" هذه المقولة ليست مجرد وجهة نظر، بل تعبير عن حقيقة موضوعية وتجد صدقيتها في جردة حساب تاريخية طويلة كامنة ليحكم في ضوئها.

ولادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يوم 11 ديسمبر 1967:
وبدلا من المقدمة أقول بشكل مكثف ، إذا كان لكل مرحلة ظروفها الموضوعية والذاتية ، فإنني أرى هنا أهمية التأكيد على أن الظروف المرتبطة بانطلاقة الجبهة الشع...بية، كانت ظروفاً كونية تعج بالرؤى والحركات الثورية التحررية والتقدمية، التي ترى في الماركسية والاشتراكية العلمية وجهتها وبوصلتها الرئيسية ، ارتباطاً بالحالة الثورية في معظم بلدان العالم في تلك المرحلة عموماً وفي بلدان أوروبا خصوصاً، إلى جانب تفاعل المشاعر الثورية على المستوى الشعبي في كافة الأقطار العربية في سبيل النضال ضد الاستعمار والقوى الرجعية من أجل التحرر والاستقلال من ناحية، وفي سبيل التقدم والتطور الاجتماعي والتنموي والعدالة الاجتماعية من ناحية ثانية.
وفي هذا المناخ، جاءت الجبهة الشعبية لتشكل أحد أبرز الفصائل التي تفاعلت مع هذا الحراك الثوري العالمي والقومي العربي.
بالطبع لابد من التأكيد على أن انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ترتبط ارتباطا وثيقا بهزيمة حزيران عام 1967م والدروس النظرية والسياسية والتنظيمية التي أفرزتها وبلورتها تلك الهزيمة .
لقد كانت هزيمة حزيران (يونيو) 1967، بكل آثارها الفكرية، والسياسية، هي الحدث الأبرز الذي حسم تحول معظم أجنحة حركة القوميين العرب إلى الماركسية .
وقد "انطبع فكر تلك الأجنحة المتجه صوب الماركسية، خلال سنواته الأولى، بخصائص مميزة على المستويين، الايديولوجي والسياسي، كان أهم ما فيها ان تميزت بالتطرف الايديولوجي، والسياسي، والابتعاد الواضح من الماركسية السوفياتية" [1].
كما "أحدثت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 هزة عميقة في الفكر القومي الذي سيطر، سيطرة شبه تامة ، على قطاعات واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني، وكانت الهزيمة نقطة الانطلاق باتجاه تبني اعداد كبيرة ممن ينتمون إلى حركة القوميين العرب لفكر الطبقة العاملة، بديلاً من الفكر القومي، فقد كانت حركة القوميين العرب "أول حزب قومي يعترف، في أعقاب تلك الحرب، حزيران / يونيو 1967، بان ايديولوجيته وبرنامجه السياسي قد هزما، وأصبحا بلا فائدة، وانقلب القوميون العرب على ايديولوجيتهم، باعتبارها عقيدة مسؤولة جزئياً عن الهزيمة، لقد تخلوا عن كافة فرضيات وبناء الايديولوجية القديمة، وهيأوا أنفسهم ليبدأوا من جديد"[2].
وفي البيان الصادر على أثر الاجتماع الموسع الذي عقدته اللجنة التنفيذية القومية لحركة القوميين العرب ، في أواخر تموز (يوليو) 1967، حلل البيان أسباب الهزيمة ، فاعتبر انه "من خلال الهزيمة العسكرية التي أصيبت بها الجيوش (العربية)، اتضح، تماماً، ان الافق، الذي قادت البرجوازية الصغيرة ضمنه حركة الثورة العربية حتى الآن، ليس هو أفق هذه الحرب الطويلة النفس مع الاستعمار الجديد بكل قواعده المزروعة على الأرض العربية، وفي مقدمها اسرائيل". واستنتج البيان "ان متابعة الحرب مع الاستعمار الجديد، بكل أبعادها، الداخلية والخارجية، وبآفاقها الاقتصادية والسياسية والفكرية والعسكرية.. باتت تتطلب انتقال مقاليد القيادة إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة الأكثر جذرية في مقاومة الاستعمار وحلفائه المحليين، بحكم مصالحها وطبيعة ايديولوجيتها؛ وتحت هذه القيادة، سوف يكون على البرجوازية الصغيرة وكل العناصر والقوى الوطنية والتقدمية أن تسهم بدورها في معركة التحرر الوطني"[3].
ففي ظل سقوط الأرض الفلسطينية كلها في قبضة الاحتلال الصهيوني، وسقوط الرهانات والآمال الجماهيرية الفلسطينية والعربية المعقودة على أنظمة البرجوازية الوطنية ، وفي ظل واقع منظمة التحرير الفلسطينية الذي يكاد يكون مرتبطا كليا بالجامعة العربية، تبلورت فكرة انطلاقة الجبهة الشعبية التي وجدت فرصتها العملية في التطبيق عبر حركة القوميين العرب وتنظيمها الفلسطيني.
وفي 11 كانون أول/ديسمبر 1967 أصدرت الجبهة الشعبية بيانها السياسي الأول الذي تحدثت فيه عن نشوئها وفلسطينيتها، ونظريتها القومية العربية الشاملة وإيمانها بوحدة القوى التقدمية وضرورة توحيد الكفاح الفلسطيني المسلح.
وحسب البيان السياسي الأول للجبهة الشعبية، بتاريخ 11/12/1967، ضمت الجبهة كلاً من منظمة أبطال العودة، وجبهة التحرير الفلسطينية والجبهة القومية لتحرير فلسطين (منظمة شباب الثأر).
وقد كان وزن حركة القوميين العرب هو الحاسم ضمن الجبهة الشعبية التي كانت اطار تحالف جبهوياً أكثر منها تنظيماً واحداً، حيث احتفظ كل تنظيم من تنظيمات الجبهة بوجوده الخاص، في اطار الجبهة.
"وعلى هذا الاساس، وعلى ضوء هذا التكوين، لم يكن مرسوماً ان تطرح الجبهة، في المرحلة الأولى من عمرها، رؤية سياسية يسارية كاملة لمعركة التحرير، منطلقة من النظرية الاشتراكية العلمية ومستندة اليها. فما كان مفهوماً ضمناً، في واقع الأمر، هو ان تطرح الجبهة فكراً تحررياً عاماً يحمل ملامح تقدمية، تتبلور، أكثر فأكثر، مع تبلور التجربة، هذا من ناحية فكر الجبهة السياسي؛ أما من ناحية التنظيم، فإنه لم يكن مرسوماً كذلك ان تكون الجبهة، في تلك المرحلة من تكوينها، تنظيماً حزبياً واحداً".
وبالفعل، فإن البيان السياسي الأول للجبهة الشعبية خلا من أي تحديد لهوية الجبهة الفكرية والتنظيمية، وأبرز ما ركز عليه البيان هو دعوة "كافة القوى والفئات الفلسطينية (إلى) الالتقاء الوطني الثوري العريض، من أجل الوصول إلى وحدة وطنية راسخة بين فصائل العمل الفلسطيني المسلح"، والتصميم على "رفض المذلة والمهانة والتسويات لتقف، اليوم، أمام جماهيرنا الشعبية واعدة اياها بأن تقدم اليها الحقيقة"[4].
لقد مرت الجبهة الشعبية عبر مسيرتها بعدد من المحطات أو المنعطفات الرئيسية التي تركت تأثيراً واضحاً على مسار التطور الفكري والسياسي والتنظيمي للجبهة منذ تأسيسها في 11/12/1967 إلى اليوم.
وفي هذا السياق يمكن تصنيف مسيرة الجبهة إلى سبعة محطات رئيسية شكلت كل منها تحولاً وانعطافاً في مسار الجبهة .


_المحطة الأولى أو المرحلة التأسيسية
في هذه المرحلة التأسيسية ، تبلورت فكرة تأسيس الجبهة الشعبية لحركة الشعب الفلسطيني وليس كحزب سياسي يقتصر على ذاته فحسب كما جرى لاحقاً ، فقد كان هدف قيادة حركة القوميين العرب من وراء تأسيس الجبهة الشعبية تحقيق الوحدة النضالية بين كافة القوى والفصائل الفلسطينية ، إدراكا منها أن طبيعة المعركة وأبعادها والقوى المعادية فيها تحتم تكتيل كل الجهود والصفوف الثورية لشعبنا في نضاله المرير والطويل ضد أعدائه، انطلاقاً من أن النضال من أجل تحرير فلسطين هو نضال من أجل الوحدة العربية والعكس صحيح .
كما أكدت الشعبية أن قتال الجماهير الفلسطينية فوق الأراضي المحتلة هو جزء من مسيرة الثورة العربية ضد الامبريالية العالمية وقواها الرجعية العميلة في وطننا العربي، مما يستوجب ارتباطا عضويا بين كفاح شعبنا الفلسطيني وكفاح جماهير الشعب العربي في مواجهتها نفس الخطر ونفس الخصم ونفس المخططات، وأن كفاح الشعب الفلسطيني مرتبط عضويا مع كفاح قوى الثورة في الوطن العربي، ويتطلب تمتين التحالف مع كافة قوى الثورة والتقدم في العالم.

المحطة الثانية : المؤتمر الأول آب 1968 وانشقاق الجبهة الديمقراطية
في هذه المحطة ، المنعطف ، شهدت الجبهة الشعبية احتدام حركة الجدل والحوار الداخلي بين العناصر القيادية والكادرية في الجبهة ، وقد كانت حركة الجدل والحوار تدور حول قضايا نظرية وسياسية وتنظيمية، وقد انتهت هذه المرحلة بانشقاق الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
فبعد أقل من أربعة شهور على تأسيسها، تفاقمت الخلافات الفكرية في الجبهة عموماً، وفي الساحات الخارجية، خصوصاً الأردن ولبنان ومصر، حيث تزايدت وتائر الحوار والاختلاف الداخلي الحاد في صفوف القيادة والكوادر القادمة من حركة القوميين العرب ، وتمحور الخلاف حول القضايا الأيديولوجية من ناحية والموقف من البرجوازية العربية والأنظمة الوطنية من ناحية ثانية.
وبناءً على ذلك بادرت القيادة إلى التحضير لعقد المؤتمر الوطني العام ، منذ أوائل نيسان عام 1968 ، حيث تم إعداد مشروع الوثيقة الرئيسية التي عرفت بـ"وثيقة آب" وقامت قيادة الجبهة آنذاك، وقبل انعقاد المؤتمر الوطني الأول (مؤتمر آب 1968) بشهر على الأقل ، بتوزيع مشروع الوثيقة للنقاش ، حيث تم عقد المؤتمر في منطقة الأغوار في الأردن في أجواء غير مواتية إطلاقاً إلى جانب تفاقم الصراعات الداخلية والتكتلات بصورة غير مسبوقة عشية المؤتمر ، وقد شكل غياب القائد جورج حبش الذي كان معتقلاً منذ 19 اذار عام 1968 في سجون سوريا عاملاً مساعداً في مفاقمة الخلافات وعدم القدرة على الاحتواء المبكر لها .
وفي مثل هذا المناخ المشحون ، لم ينجح المؤتمر في استعادة الوحدة الداخلية ، السياسية والفكرية والتنظيمية لأعضائه، بل تكرست أسباب وعوامل الانشقاق الذي بات مؤكداً لأسباب وعوامل ذاتية ، لم تتفهم مضمون ومغزى الاختلاف الديمقراطي القائم على احترام الرأي والرأي الآخر، ولم تتفهم أيضاً مساحة التوافق السياسي والفكري بينهما، التي تجلت بوضوح في مجمل الأفكار والمقولات السياسية التي وردت في "وثيقة تموز 1967" التي قام بصياغتها القائد جورج حبش وتم إقرارها من قيادة الحركة آنذاك ، الأمر الذي كرس المظهر السلبي للعلاقات الداخلية، التي بررت نفسها عبر مواقف ورؤى أيديولوجية، يسارية طفولية أقرب إلى العدمية ، في مقابل بعض القيادات التي تشبثت بالمواقف والأفكار القومية التقليدية دون وعي منها لأهمية وضرورة تطوير الفكر القومي والتحامه بالفكر الماركسي ومنهجه.
انتخب المؤتمر لجنة مركزية جديدة سيطر عليها من اعتُبروا اليسار بنسبة عشرة إلى خمسة ، وكانت النتائج التنظيمية السبب الرئيس في تفجر الصراع بين الاتجاهين، فقد رفض الاتجاه الآخر النتيجة التنظيمية التي خرج بها المؤتمر، مع أن أفراده وافقوا على الخطة الأيديولوجية والسياسية.
وعلى أثر النتائج الأيديولوجية والسياسية والتنظيمية للمؤتمر، قرر أحمد جبريل وأحمد زعرور مع مجموعتهما "جبهة التحرير الفلسطينية" الانسحاب من الجبهة، في تشرين الأول (أكتوبر) 1968 واسسوا الجبهة الشعبية القيادة العامة. واستمر الصراع داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حتى شباط (فبراير) 1969 (21/2/1969) حتى تكريس الانشقاق، وولادة الجبهة الديمقراطية ، ونجم عن ذلك أن الجبهة الشعبية أصبحت واقعياً، هي الفرع الفلسطيني لحركة القوميين العرب .
فور الانشقاق، وإعلان ولادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، "عقدت الجبهة الشعبية مؤتمرها المقرر في شباط (فبراير) 1969، وفي هذا المؤتمر تم تبني الوثيقة البرنامجية الجديدة للجبهة المعروفة باسم "الاستراتيجية السياسية والتنظيمية"[5].
وهكذا بات الطريق ممهداً أمام الانشقاق الذي تحقق بفعل أسباب ذاتية اساساً وبمساعدة وتشجيع من قيادة فتح وقيادة البعث الفلسطيني (الصاعقة) حيث طغت هذه الأسباب وتجاوزت العوامل الموضوعية آنذاك ، ونقصد بذلك التوافق والتقاطع في الرؤى والأفكار المشتركة -من حيث الجوهر – بين وثيقة تموز 1967 وبين نصوص وثيقة آب 1968 وطروحاتها الفكرية وتحليلاتها السياسية ، حيث أن هذه الوثيقة تضمنت في نصوصها وجوهرها، مجموعة من الأفكار والمقولات والاستنتاجات التحليلية الخاصة بالنظام العربي الرسمي، وهزيمة حزيران 1967، متوافقة أو مستوحاة من "وثيقة تموز" التي صاغها القائد جورج حبش على إثر هزيمة حزيران.
وارتباطاً بذلك ، فإن الانشقاق لم يكن ناتجاً عن رؤيتين أو موقفين متناقضين، أحدهما "يميني" والأخر "يساري" بقدر ما كان انعكاساً لمواقف ذاتية ناجمة عن تراكمات سالبة تركت بصماتها على طبيعة العلاقات الشخصية التي سادت في قيادة حركة القوميين العرب تاريخياً، منذ منتصف الستينات حتى تأسيس الجبهة الشعبية وصولاً إلى انعقاد مؤتمر آب وأجواءه الانقسامية، التي حكمت العلاقة التنظيمية بين معظم أعضاء الهيئة القيادية الأولى في الحركة في تلك المرحلة، وعكست نفسها على بقية الأعضاء والمراتب الأخرى بصورة ذاتية غير موضوعية .
وهذا ما حصل بالفعل حيث تكرس الانشقاق في 22/ فبراير / 1969.
إن هذا الانشقاق الذي قد يتفق البعض على أنه مَثّل انشقاقاً فكرياً وسياسياً وتنظيمياً ، رغم كل دوافعه ومظاهره الذاتية والشكلية التي افتقدت الأسباب الجوهرية أو الموضوعية ، إلا أن نتائجه الفعلية أدت إلى تفكيك بنية الحركة وهزها من الداخل، ولكن على الرغم من ذلك الانشقاق ، وما ادى إليه من نتائج سلبية ، وما أحدثه من إرباكات اعاقت تقدم الجبهة الشعبية عبر دورها الطليعي في تلك المرحلة ، إلاّ أن القائد الراحل الحكيم ، وبعد أن تم اختطافه وتحريره من السجون السورية ، ومع رفاقه في قيادة الجبهة ، استطاعوا تجاوز نتائج الانشقاق ، عبر استعادتهم للثقة المتبادلة بينه وبين قواعد وكوادر الجبهة ، وبالتالي الامساك مجددا ً بدفة المركب أو بمقود الجبهة ، واستعادة وحدتها التي لا تتناقض مع تعدديتها الديمقراطية الداخلية، متجاوزين أسباب الانشقاق ونتائجه على الأرض رغم كل مرارتها ، وتمكنوا خلال فترة قصيرة من عقد المؤتمر الوطني الثاني للجبهة الشعبية ، الذي أقر تبني الماركسية اللينينية وتحويل الجبهة إلى حزب ماركسي ، وهو ما يؤكد ضعف وتهافت مبررات الانشقاق ودعاوي يمينية الجبهة وقيادتها.
وبالفعل عقدت الجبهة مؤتمرها الوطني الثاني في شباط (فبراير) 1969 وفيه "عالجت مسألة الانشقاق وأوضحت البرنامج السياسي والتنظيمي ، كما قامت بعملية بلورة لموقفها، عبر برنامج سياسي وتنظيمي، كما قام المؤتمر بانتخاب هيئات قيادية ومركزية جديدة حلت فيها عناصر محل العناصر المنشقة.

المحطة الثالثة : المؤتمر الوطني الثاني - شباط 1969.
بعد انشقاق الجبهة الديمقراطية دخلت الجبهة الشعبية في المحطة الثالثة من تطورها في صيرورة التحول إلى فصيل شيوعي، إلى حزب ماركسي – لينيني، إلى فصيل للطبقة العاملة، وهذه المرحلة التي بدأت في شباط 1969م تنقسم إلى عدة مفاصل ومواقف لاحقة يمكن قراءتها من خلال المؤتمرات الوطنية العامة للجبهة لكون هذه المؤتمرات تجسد المحطات التي يمكن أن يقرأ من خلالها المسار الفكري والسياسي للجبهة.
ففي شباط 1969م عقدت الجبهة الشعبية مؤتمرها الثاني الذي أقر وثيقة الإستراتيجية السياسية والتنظيمية التي شكلت محطة هامة في مسيرتها وتطلعها إلى التحول إلى تنظيم ماركسي – لينيني مقاتل، وأصدرت مجلة الهدف التي ترأس تحريرها الشهيد الكاتب والروائي غسان كنفاني عضو المكتب السياسي.
إن تأكيد وثائق الجبهة الشعبية الصادرة عن مؤتمرها الوطني الثاني، على تبني الماركسية اللينينية وتحويل الجبهة إلى حزب بروليتاري، جاء في سياق استمرارها في التمسك بمواقفها الوطنية والقومية، بالرغم من أن هذا المؤتمر أسدل الستار على حركة القوميين العرب وأنهى وجودها التنظيمي في الساحة الفلسطينية، حسب ما ورد في تقريره الصادر في شباط 1969 ، فقد رسم مؤتمر شباط (فبراير) الخط الاستراتيجي التنظيمي الموجه والمرشد لمستقبل العلاقات بين الحركة والجبهة.
وهذا الخط هو العمل على انصهار تنظيم الحركة في الساحة الفلسطينية ضمن تنظيم الجبهة والعمل في نفس الوقت على انصهار تنظيم أبطال العودة ضمن تنظيم الجبهة، مع التخطيط والعمل على الارتقاء بالحياة التنظيمية للجبهة إلى مستوى الحياة الحزبية الثورية الملتزمة والمنضبطة والواعية.
وعلى هذا الأساس، لا يعود فهمنا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو فهمنا لها لدى تأسيسها – أي جبهة بالمعنى المعروف للجبهات السياسية، فكراً وعلاقات تنظيمية – وإنما يصبح فهمنا للجبهة وتوجهنا في بنائها شيء مختلف.
ويستطرد التقرير بالقول: "إن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من حيث فهمنا لها الآن وتوجهنا في بنائها، هي : الحزب الثوري المستند إلى الإستراتيجية السياسية والإستراتيجية التنظيمية التي اتضحت من خلال هذا التقرير، وأثناء عملية الانصهار التام هذه بين الحركة والجبهة، فان الشعار السليم الذي نهتدي به هو : "الحركة في خدمة الجبهة وليس الجبهة في خدمة الحركة" ، الامر الذي يفرض على الرفاق في الجبهة مراجعة ذلك الشعار ومن ثم إعادة احياء وتفعيل البعد القومي للصراع من منظور ماركسي ينطلق من الدعوة الى تمتين العلاقة الفكرية والسياسية والتنظيمية بين كافة فصائل وأحزاب اليسار في الوطن العربي ، ومن ثم البدء بإجراء الحوارات المعمقة مع كافة القوى اليسارية العربية ، بما يحقق بلورة وتأسيس الحركة الماركسية العربية الواحدة او الحركة الاشتراكية العربية الواحدة ، وتفعيل نضالها ضد أنظمة التبعية واسقاطها ومن ثم امتلاك مقومات القوة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية الكفيلة بمجابهة وانهاء الوجود الامبريالي/ الصهيوني من بلادنا، وذلك تجسيدا لأهمية الفكر السياسي كما نصت عليها وأكدتها وثيقة المؤتمر الثاني بأن " الشرط الأساسي من شروط النجاح هو الرؤية الواضحة للأمور، والرؤية الواضحة للعدو والرؤية الواضحة لقوى الثورة.
على ضوء هذه الرؤية تتحدد إستراتيجية المعركة، وبدونها يكون العمل الوطني عفوياً ومرتجلاً، لا يلبث أن ينتهي إلى الفشل".
ذلك إن ما يقرر النجاح هو الرؤية الواضحة للأمور وللقوى الموضوعية . من هنا تبدو واضحة أهمية الفكر السياسي العلمي الذي يرشد الثورة ويحدد لها إستراتيجيتها. فالفكر السياسي الثوري ليس فكراً مجرداً معلقاً في الهواء، أو مجرد ترف فكري، أو متعة فكرية يتسلى بها المثقفون، وبالتالي نستطيع إذا أردنا أن نتركه جانباً كشيء مجرد أو ترف لا ضرورة له. إنما الفكر الثوري العلمي هو الفكر الواضح الذي تستطيع به الجماهير أن تفهم عدوها، ونقاط ضعفه ونقاط قوته، والقوى التي تسنده وتتحالف معه، وبالمقابل تفهم قواها هي، قوى الثورة، كيف تعبئها وتجندها، وبأي أسلوب وكيف ؟
إن الفكر السياسي الثوري هو الذي يفسر لجماهير شعبنا أسباب فشلها حتى الآن في مواجهة العدو. لماذا فشلت ثورتها المسلحة عام 1936 ؟ لماذا فشلت محاولاتها قبل 1936؟ ولماذا حصلت هزيمة حزيران 1967. وما هي حقيقة التحالف المعادي الذي تخوض ضده معركتها؟ ومن خلال أي تحالف تستطيع أن تجابهه وبأي أسلوب؟ كل ذلك بلغة واضحة تفهمها الجماهير.
فما معنى أن نقاتل بدون فكر سياسي؟ معنى ذلك أن نقاتل بشكل مرتجل، وأن نقع في أخطاء دون أن نعي خطورتها وطريقة معالجتها، وأن تتحدد مواقفنا السياسية بشكل عفوي دون وضوح الرؤية، وينتج عن ذلك عادة تعدد في المواقف، وتعدد المواقف معناه تبعثر في القوى، وتشتيت لها، فتكون النتيجة أن تتوزع قوى شعبنا الثورية في أكثر من طريق بدلاً من أن تصب كلها في طريق واحد لتشكل قوة متراصة واحدة .
ثم تضيف الوثيقة " ولكي يقوم الفكر السياسي بهذا الدور الثوري لا بد أن يكون فكراً علمياً أولاً، وواضحاً بحيث يكون في متناول الجماهير ثانياً، ومتجاوزاً للعموميات وموغلاً قدر الإمكان في الرؤية الإستراتيجية والتكتيكية للمعركة بحيث يشكل دليلاً للمقاتلين في مواجهة مشكلاتهم ثالثاً.
لقد جاء الوقت -كما تؤكد الوثيقة- لتفهم جماهيرنا العدو الذي تواجهه على حقيقته لأنه من خلال هذا الفهم تتضح أمامها صورة المعركة ، إن هذا العدو يتمثل في : أولاً : اسرائيل، ثانياً : الحركة الصهيونية العالمية، ثالثاً: الامبريالية العالمية، رابعاً: الرجعية المتمثلة بالإقطاع والرأسمالية .
إن مثل هذه الرؤية هي التي تحدد :
1- أهمية النظرية الثورية والفكر السياسي الثوري .
2- التنظيم السياسي الحديدي الذي يقود قوى الثورة.
3- طبيعة وحجم التحالفات الثورية التي يجب تجنيدها لمواجهة كل معسكر الخصم .
أما على الصعيد الفلسطيني فتضيف الوثيقة "لابد من تحديد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني من وجهة نظر طبقية. إن القول بأن الشعب الفلسطيني بكافة طبقاته هو في نفس الوضع الثوري تجاه اسرائيل وإن كافة طبقات الشعب الفلسطيني لديها الطاقة الثورية نفسها بحكم وجودها بدون أرض وخارج وطنها هو قول مثالي وغير علمي.
إن هذا القول يمكن أن يكون صحيحاً لو كان الشعب الفلسطيني بكامله يعيش نفس هذه الأوضاع، بل يعيش أوضاعاً حياتية متمايزة فإننا لا نستطيع علمياً تجاهل هذه الحقيقة".
لذلك كله " فإننا في تحديد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني لا بد من الانطلاق من وجهة نظر طبقية، لأن الفكر اليميني في الساحة الفلسطينية والعربية يحاول أن يلغي أو يميع النظرة الطبقية للأمور، وبالتالي لا بد من دحض كافة محاولاته على هذا الصعيد، إذ أن معارك التحرر الوطني هي أيضاً معارك طبقية ، معارك بين الاستعمار والطبقة الإقطاعية والرأسمالية المرتبطة مصالحها مع مصالحه .
" خلاصة القول -كما ورد في وثيقة المؤتمر الثاني- إن نظرتنا الطبقية لقوى الثورة الفلسطينية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الوضع الطبقي في المجتمعات المتخلفة وكون معركتنا معركة تحرر وطني، كذلك خصوصية الخطر الصهيوني. ولكن ذلك يعني أن نحدد علمياً طبقات الثورة وأدوارها على ضوء هذه الخصوصيات، ولا يجوز أن يعني إلغاء النظرة الطبقية في تحديد قوى الثورة ".
" كما أن الفكر اليميني هو الذي يحاول إلغاء النظرة الطبقية لدى تحديد قوى الثورة وذلك لكي يتيح للبرجوازية إمكانية التسلل لمراكز القيادة وإجهاض الثورة عند الحدود التي تفرضها مصالحها ، لذلك يجب أن نواجه بكل قوة كافة الأفكار التي تحاول حجب الحقائق الطبقية الموضوعية بستار من الضبابية والغموض".
" فإن صعود طبقة العمال واستراتيجيتهم الجذرية الحاسمة هي وحدها القادرة على مواجهة معسكر الخصم ".
اما بالنسبة للموقف من البرجوازية الفلسطينية الكبيرة، فإن الوثيقة تؤكد في تحليلها لهذه الطبقة على أنها " في الأساس برجوازية تجارية ومصرفية تتشابك مصالحها وتترابط مع مصالح الامبريالية التجارية ومصالحها المصرفية.
كما تناولت الوثيقة دور الحزب الثوري كما يلي:
" إن الثورة الفلسطينية تتطلب بالضرورة الحزب الثوري الفلسطيني، لا حزب ثوري بدون نظرية ثورية:
إن الأساس في بناء الحزب الثوري هو النظرية الثورية_ الماركسية_ التي يلتزمها. بدون هذه النظرية يكون الحزب مجرد تجمع يتحرك على التحكم بالأحداث. إن النظرية الثورية معناها الرؤية الواضحة والنهج العلمي في فهم وتحليل الأحداث والظواهر، وبالتالي القدرة على القيادة".
وتضيف الوثيقة إن " النظرية الثورية التي تطرح كل قضايا الإنسان والعصر بشكل علمي وثوري هي الماركسية. كسلاح نظري ثوري رهن بكيفية فهمها من ناحية وبصحة تطبيقها على واقع معين ومرحلة معينة من ناحية أخرى، وإن جوهر الماركسية هو النهج الذي تمثله في رؤية الأمور وتحليلها وتحديد اتجاه حركتها. وبالتالي فإن الفهم الثوري لماركسية هو فهمها كدليل للعمل وليس كعقيدة ثابتة جامدة ".
وفي أيلول/ سبتمبر 69، قررت اللجنة المركزية تأسيس "مدرسة الكادر" كوسيلة للمساعدة على بناء "حزب العمال" . وقد افتتحت المدرسة في أوائل شباط/فبراير 1970 بإدارة المقدم الهيثم الأيوبي شارك فيها عدد من المثقفين اليساريين العرب خاصة من مصر وسوريا، . غير انه لم يكن هناك محاولة جادة لتحليل المشكلات المحددة التي تواجه الفلاحين والعمال والشرائح الاجتماعية الفقيرة.

المحطة الرابعة : المؤتمران الوطنيان الثالث والرابع.
أولاً : المؤتمر الوطني الثالث :عقدت الجبهة مؤتمرها الوطني الثالث في 8 / آذار/1972 الذي أقر وثيقة "مهمات المرحلة الجديدة" والنظام الداخلي الجديد وأعطى عملية التحول وبناء الحزب الثوري ايدولوجياً وتنظيمياً وسياسياً الصدارة، إيماناً منه بأن قدرة الثورة على الصمود والاستمرار تتوقف على صلابة التنظيم.
لقد جعل المؤتمر الوطني الثالث للجبهة بناء الحزب الثوري هو الحزب الذي يعتمد الماركسية أيديولوجية الطبقة العاملة دليلاً نظرياً، ويتشكل من طلائع الطبقة العاملة في تكوينه الطبقي.
لقد مثل عقد المؤتمر الوطني الثالث للجبهة محطة هامة على طريق تحول الجبهة من تنظيم برجوازي صغير إلى حزب ماركسي لينيني" .
أما بالنسبة للوضع الفلسطيني ، فقد تحدث التقرير باستفاضة ، وأشار إلى أن المقاومة الفلسطينية بحاجة إلى:
1. نظرية ثورية لقيادة الثورة وتحديد نهجها ومواقفها بصورة صائبة.
2. حزب ثوري يقود حركة المقاومة بأكملها.
3. تشكيل جبهة وطنية عريضة على أسس جبهوية سليمة، على أن يقودها الحزب الثوري.
وأشار التقرير إلى أن استمرار خضوع المقاومة لقيادة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة لا زال يحول دون تطبيق وتنفيذ الحاجات الملحة المذكورة.
لقد شكل المؤتمر الثالث فعلا وحقا محطة هامة على طريق مسيرة التحول، وساهم في بلورة الأسس المطلوبة لهذه المسيرة، كما ساهم في بلورة مواقف الجبهة تجاه العديد من القضايا مثل: وحدة م.ت.ف، التحالف والصراع مع الأنظمة العربية، الموقف من التناقضات داخل الكيان الصهيوني، النضال داخل الوطن المحتل وآفاقه المستقبلية، التحديد الدقيق لسياسة العدو داخل الوطن المحتل، وهو التحديد التي لا يزال يحتفظ بصحته حتى المرحلة الراهنة.

ثانياً : المؤتمر الوطني الرابع :
في الفترة الممتدة من 28/4 – 3/5/1981م عقدت الجبهة مؤتمرها الوطني الرابع تحت شعار "المؤتمر الرابع خطوة هامة على طريق استكمال عملية التحول لبناء الحزب الماركسي اللينيني والجبهة الوطنية المتحدة وتصعيد الكفاح المسلح وحماية وجود الثورة وتعزيز مواقعها النضالية، وضد نهج التسوية والاستسلام وتعميق الروابط الكفاحية العربية والأممية" .
لقد شكل هذا المؤتمر محطة نظرية هامة على طريق استكمال عملية تحول الجبهة إلى حزب ماركسي لينيني وأصدر أربع تقارير هي : التقرير السياسي ، التقرير التنظيمي ، التقرير العسكري ، التقرير المالي .
وكان التقرير السياسي هو الأهم من بين هذه التقارير، حيث عَكَسَ بوضوح "تكوين الجبهة الماركسي اللينيني وبنيتها الأيديولوجية والسياسية".
كما أشار التقرير أيضاً إلى أن " السمة الخاصة لمرحلة كامب ديفيد ، تتمثل اليوم بانتقال عدد من الدول العربية إلى مواقع التحالف مع العدو الصهيوني.
ويضيف التقرير في تحليله للوضع الفلسطيني / القسم الثالث، بأن " نضال شعبنا الفلسطيني يشهد اليوم تعقيدات جديدة وصعوبات إضافية، ونتيجة لهذا الوضع – مضافاً إلى العجز العربي الرسمي وواقع حركة التحرر العربية – فإن عنوان المخطط المعادي هو: تصفية القضية الفلسطينية وليس تسوية القضية الفلسطينية... وتصفية الثورة الفلسطينية وليس مجرد تحجيم الثورة أو تدجينها من خلال صفقة تسوية يعقدها مع قيادة الثورة ... هذه هي خصوصية المرحلة على الصعيد الفلسطيني" .
وبالتالي فإن ما يهمنا كثورة فلسطينية – كما يضيف التقرير السياسي للمؤتمر الرابع – يتركز في نقطة جوهرية واحدة تتعلق بجوهر التحليل وجوهر الخط السياسي في الدفاع عن استراتيجية وتكتيكات الجبهة ورؤيتها ومبادئها وسياساتها ، حيث يحذر التقرير من " فرض مشروع الإدارة الذاتية من خلال محاولة تصفية مقاومة جماهيرنا داخل فلسطين " .
وفي هذا الجانب تحديداً تتجلى الرؤية الثاقبة للجبهة كما وردت في التقرير السياسي للمؤتمر الرابع الذي أكد على ، " أن سقف مشروع الإدارة الذاتية لا يتجاوز إعطاء سكان الضفة الغربية وقطاع غزة حكماً ذاتياً يقتصر على إدارة شؤونهم الحياتية ... وتبقى " إسرائيل " هي الأقدر على فرض ترجمتها الخاصة للاتفاق ، وهي ترجمة تقوم على أساس سيادة إسرائيل الكاملة على كل شبر من فلسطين ، وأن القدس هي عاصمة الكيان الصهيوني إلى الأبد، وان حق الكيان الصهيوني في إقامة المستوطنات حق لا يناقش ... إلى جانب سياسة الإلحاق الاقتصادي ومصادرة المياه والتحكم بأوضاع السوق وأملاك الغائبين وطمس الشخصية الوطنية وتبديد التاريخ والثقافة الوطنية الفلسطينية ، حيث أن الوجود الصهيوني قائم على أساس أن مستقبله مرهون بالقضاء على الشخصية الوطنية لشعبنا ، واستناداً إلى هذا الفهم الصهيوني ، تمارس سلطات الكيان الصهيوني العنصري سياساتها اليومية ".
ومن هنا " فإن المهمة الأساسية من مهمات الثورة الفلسطينية في هذه المرحلة –حسب التقرير- هي النضال الجاد والمتصل لإحباط مؤامرة الحكم الذاتي، وفي هذا الجانب أكد التقرير على ما يلي:
1. إن الثورة الوطنية الديمقراطية ، ومن ضمنها مرحلة التحرر الوطني، تمثل بمجموعها مرحلة عامة واحدة، تتلوها مرحلة الثورة الاشتراكية. ومن هنا فإن أي هدف مرحلي فلسطيني يندرج ضمن إطار هذه المرحلة الواحدة .
2.إن تحرير أي جزء من الأرض الفلسطينية يتطلب كما ذكرنا توفر ظروف موضوعية عربية غير متوفرة حالياً. وان قيام الثورة الفلسطينية نفسها ببدء تحرير الأرض الفلسطينية، يتطلب انجاز تغيير ثوري في الأردن......
في شباط 1993 ، بعد مرور 12 عاماً على انعقاد المؤتمر الرابع ، عقِدت الجبهة مؤتمرها الوطني الخامس، لعدة أيام ، وكان هذا المؤتمر وفق نصوص الوثيقة الصادرة عنه بمثابة "وقفة مع الذات، مع طروحاتنا الفكرية والسياسية والتنظيمية والعسكرية، حيث جاء المؤتمر بعد طول تحضير ، وفي ضوء ظروف فلسطينية وعربية ودولية بالغة الدقة والحساسية" .
وفي الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الخامس ، ألقى الرفيق القائد جورج حبش مداخلة مطولة تضمنت العديد من القضايا البالغة الأهمية جاء فيها، "ينعقد مؤتمرنا في ظل واقع دولي أصبحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية الاستعمارية سيد العالم ،وترافق مع ذلك انهيار النظام العربي الرسمي، واستسلامه شبه الكامل للغزوة الصهيونية وما ولدته من واقع عربي جديد كان من أخطر نتائجه على الصعيد الوطني، انحراف القيادة المتنفذة لمنظمة التحرير الفلسطينية وقفزها عن البرنامج الوطني وتعاطيها مع المشروع الأمريكي- الصهيوني، مما يمهد لتصفية كاملة للقضية الفلسطينية، خاصة وأننا اليوم نشاهد حالة استسلام رسمية شبه كاملة, اذ بات واضحاً مدى الاستعداد للاعتراف بهذا الكيان ليس على الصعيد العربي الرسمي فقط بل وعلى الصعيد الرسمي الفلسطيني كذلك." .
ثم تحدث القائد الراحل عن التجديد وضرورته في حياة الحزب، راسماً بذلك ملامح المستقبل بقوله " إن فهمي للتجديد لا يقوم على أساس أنه موضة لابد أن نمارسها ولا يقوم على أساس شكلي أو ردة فعل على أحداث جرت في هذا العالم. إن التجديد ضرورة موضوعية وعملية دائمة ومتواصلة يفرضها منطق الحياة والتطور. والتجديد ليس كلمة تقال، بل هي مضامين وتغيير جذري لأسلوب وعادات وطرائق عمل أصبحت بالية تحتاج للتغيير, لأننا لا نستطيع مواجهة المرحلة الجديدة بنفس الأساليب والأدوات والطرق القديمة. إن التجديد منهج حياة وممارسة شاملة تطال كافة جوانب العمل بهدف التطوير والتقدم الدائم للأمام, والتجديد في الهيئات القيادية التي يجب أن يتم ضخها باستمرار بالدماء والأفكار الجديدة ... إننا أمام واقع جديد ووضع جديد وبداية معالم مرحلة جديدة، تتطلب استراتيجية جديدة على ضوء المتغيرات الكبرى في العالم من ناحية, وعلى ضوء تجربة الثورة الفلسطينية وما أفرزته المرحلة السابقة من دروس, وهنا أرى أهمية تسجيل بعض النقاط والاستخلاصات الأساسية التالية :
1-التطورات السياسية النوعية التي حدثت على الصعيد العالمي والعربي الفلسطيني والإسرائيلي, والتي أدت إلى وضع يهدد فعلا بتصفية القضية الفلسطينية, تفرض علينا أن نقف أمام هذا الوضع الجديد ورسم الاستراتيجية والتكتيك السليمين على الصعد السياسية والتنظيمية والعسكرية والمالية.

المحطة السادسة: المؤتمر الوطني السادس – تموز 2000 بعد سبعة أعوام على انعقاد المؤتمر الوطني الخامس و ستة أعوام على انعقاد الكونفرنس الأول، عقد المؤتمر الوطني السادس في تموز 2000 في ظروف ومستجدات سياسية مغايرة – بل ونقيضه في جوهرها- لظروف ومعطيات المرحلة التاريخية السابقة منذ إعلان الكفاح المسلح الفلسطيني على أثر هزيمة 1967 حتى تاريخ انعقاد كل من المؤتمر الوطني الخامس و الكونفرنس الحزبي الأول ، حيث شهدت الساحة الفلسطينية متغيرات نوعية من منطلق سياسي هابط بدأ – كما أشرنا من قبل – منذ مؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن وصولاً إلى إعلان المبادئ في أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية في تموز 1994 ، وتواصل المفاوضات العبثية بين القيادة المتنفذة في م.ت.ف من ناحية وحكومات العدو الإسرائيلي من ناحية ثانية، في هذا المؤتمر، ألقى الرفيق جورج حبش، مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، خطابه الخاص والاستثنائي الذي أعلن فيه تسليم دفة القيادة التنظيمية لرفاقه في المؤتمر، " دون أن يعني ذلك بأي حال من الأحوال الابتعاد عن الجبهة التي أعطيتها عمري ، أو عن العمل السياسي والمهمات النضالية الأشمل وطنياً وقومياً" .
وفي هذا المناخ المفعم بالمشاعر الذاتية والموضوعية الصادقة تجاه القائد المؤسس، إلى جانب المناخ السياسي العام الزاخر بالمتغيرات والتراجعات السياسية الخطيرة ، استكملت الجبهة عقد مؤتمراها الوطني السادس الذي اصدر وثيقتين هما : الوثيقة السياسية بعنوان "نحو رؤية سياسية جديدة للمرحلة " ، والوثيقة التنظيمية بعنوان "نحو رؤية تنظيمية جديدة" .
أولاً ً : الوثيقة السياسية : نحو رؤية سياسية جديدة للمرحلة :
هذه الوثيقة هي خلاصة الحوار والتفاعل الذي شهدته منظمات الجبهة الشعبية في الوطن والشتات والذي توج في المؤتمر الوطني السادس للجبهة. وقد استهدفت هذه الوثيقة الوصول لقراءة منهجية للتطورات السياسية التي شهدها الواقع الفلسطيني منذ انعقاد الكونفرنس الوطني الأول عام 1994 .
ففي الفصل الأول بعنوان :لا حلم خارج الواقع ولا مستقبل دون حاضر وماض، تشير الوثيقة إلى "أن عملية أوسلو وما ترتب عليها مرتبطان تماماً ومستغرقان بالكامل في النتائج المادية والمعنوية التي أفضى إليها مجمل الصراع طيلة العقود السابقة، وهذا هو السبب وراء الخطوة المنهجية للجبهة الشعبية، التي ارتأت عند قراءة أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية وفي السياق أزمة الجبهة الشعبية، العودة بالظواهر والنتائج المحققة إلى مقدماتها التاريخية من اجتماعية وسياسية وفكرية...الخ. هذه الخطوة، كانت تعكس قناعة راسخة للجبهة بأن الاستمرار في ذهنية معالجة النتائج دون التوغل في الأسباب، يعني مواصلة الدوران في حلقة مفرغة عدا عن كونه يحمل مخاطر تشويه الوعي، وإشاعة الوهم، ومراكمة الأخطاء، وبالحصيلة، تبديد مزيد من الزمن ومكونات القوة والمستقبل" .
من هنا "ضرورة الوعي والتمييز لأبعاد تلك العملية وتشابكها، كونها تحفظ الشفافية والكفاءة المطلوبة لقراءة علمية هادئة لتجاربنا، وبالتالي : يجب أن يبقى ماثلاً في الذهن ونحن نحاول قراءة الواقع الراهن، أن التراجع يحمل أيضاً بعداً إنهاضياً، ويحفل بدروس قيمة، دون احترامها ووضعها تحت الضوء، وتحويلها إلى قوة فعل وإعادة بناء، تتحول إلى قوة استنزاف معنوي ومادي مدمرة. لعل النموذج الأبرز على ما تقدم، هو ما نلمسه ونعيشه اليوم كحزب وحركة وطنية، حيث تبين لنا، أن المشكلة لا تكمن، في حدوث الهزيمة فقط، وإنما فقط في عدم الوصول إلى رؤية فكرية – سياسية تتخطى الهزيمة فكراً وممارسة، وفي حالة العجز التي تلف مختلف تيارات الحركة الوطنية الفلسطينية ومسمياتها" .
وقد قاد هذا الواقع إلى شبه إحباط وشلل، وإلى تدني الثقة بين الكتلة الجماهيرية والحركة السياسية المنظمة من ناحية، وبين الأحزاب وقواعدها من ناحية أخرى، حيث تسود حالة من الإرباك والتذمر واللافعل.
وعن اتفاق أوسلو ، هل هو سلام أم إعادة إنتاج للصراع بأشكال متجددة؟ تقدم الوثيقة إجابتها على هذا السؤال عبر التأكيد على أنه " ليس مطلوباً منا الآن إعادة النقاش في المخاطر والأضرار الجسيمة المتراكمة التي لحقت بالقضية الفلسطينية، جراء اتفاق أوسلو وما تلاه، لأن ما ورد في الوثيقة السياسية الصادرة عن الكونفرنس الوطني الأول عام 1994، بالإضافة إلى ما تناولته وثائق الجبهة الشعبية الصادرة عن هيئاتها الأولى بهذا الصدد وغيرها، أكثر من كاف" . "فقد ألقت القيادة الفلسطينية المتنفذة، بعد حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفييتي، بمعظم أوراق القضية الفلسطينية وأهمها، في خانة الرهان على الولايات المتحدة الأمريكية وعلى ما يزعمه الكيان الصهيوني من استعداد للسلام" ، ما يعني استجابة القيادة المستنفذة في م.ت.ف "لمقتضيات الإستراتيجية الأمريكية – الإسرائيلية، وسمحت لديناميات تلك الإستراتيجية بأن تتحكم بها وبخياراتها" .
هذه السياسة البائسة في فهم الصراع وإدارته مع العدو، "هي الوجه الآخر لسياسة بائسة أخرى تجاه الداخل الفلسطيني، والتي تجلت في ذهنية قاصرة، تراكمت تاريخياً لتأخذ شكل بيروقراطية عاجزة ومدمرة، سلاحها الإفساد، وهو ما قاد إلى تبديد كثير من مكونات القوة الفلسطينية، وأدى إلى عدم امتلاك رؤية شاملة وبعيدة النظر لتعزيز البنية الداخلية للمجتمع الفلسطيني في مختلف مواقع انتشاره، من خلال تعزيز البنى التنظيمية والمؤسساتية والإدارية ... لهذا المجتمع" .
وأبرز نموذج على ذلك هو، "عملية تحطيم وتمزيق أهم إطار وطني فلسطيني في الفترة المعاصرة أي م.ت.ف . حيث جرى التعامل معها بصورة محزنة ومؤلمة. إن دل ذلك على شيء فإنما يدل على قصر نظر السياسة التي مورست، وخفة التعامل مع هذا الإطار الهام، الذي كان من المفروض أن يبقى بمثابة الإطار الوطني الجامع" .
كما "ترافق الواقع المشار له، مع ممارسة لا تقل خطورة وقصر نظر، تمثلت في النظرة الاستخدامية للحركة الشعبية الفلسطينية، مما أدى إلى توسيع المسافة بينها وبين السلطة السياسية، وبالتالي فقدان الثقة بالسلطة التي لم تحافظ على الحد الأدنى من الحقوق الوطنية وحمايتها، وفي الوقت نفسه لم تدل ممارساتها تجاه المجتمع الفلسطيني، ولو على حد أدنى من الاحترام والثقة، تجلت تلك السياسة وأخذت ثلاثة أشكال أساسية هي : أ- الملاحقة والاعتقال نزولاً عند إملاءات الاحتلال. ب- الانتهازية والاستخدام اللحظي المؤقت للحركة الشعبية. ج- محاولة تكييف المعارضة مع سقف السلطة وسياساتها . وكان من الطبيعي ان تقود هذه السياسة "إلى نتائج خطيرة على الحركة الوطنية الفلسطينية، ذلك أنها ساهمت في تعزيز حالة التمزق والافتراق، وإبقاء أسباب الاستنزاف والانفجارات الداخلية قائمة. كما أفرغت سياسة السلطة، مفهوم الحوار الوطني من مضامينه وركائزه، وبالتالي حولت مسالة الوحدة الوطنية، إلى ورقة مناورة، وليس خطاً سياسياً ناظماً لفعل الحركة الوطنية الفلسطينية بتلاوينها وتياراتها وتنظيماتها المختلفة" .
بناء على ما تقدم، لا تعود المشكلة في هذه الحكومة أو تلك كما يحاول البعض أن يروج، إن المشكلة تكمن بالأساس في طبيعة المشروع الأمريكي – الإسرائيلي للسلام الذي هو في الحقيقة ومن ناحية المنطق والهدف مشروع واحد، وبالتالي فأي رهان على هذه العملية إنما يعبر عن قصر نظر، أو إحباط مأساوي، أو التسليم بقضاء المشروع الأمريكي- الإسرائيلي وقدره.
ما تقدم "يفرض علينا كشعب فلسطيني وحركة وطنية فلسطينية، تعويد أنفسنا وعقولنا بأسرع وقت ممكن على التجذر والمرونة اللازمة، لتلمس واستيعاب أية حركة أو مستجد في الواقع، وأن نخفف من الصخب والضجيج، ونكثف القراءة الدقيقة والفعل المستند لرؤية شاملة ومتماسكة للصراع، الذي لم يعد سراً، أنه صراع على الوجود نفسه ويدور في حيز الواقع ويدار بناء لقانون ميزان القوى" .
ذلك "إن الوقوع في محظور الاكتفاء بالتشخيص وكشف المخاطر، يعني جعل الحزب والحركة الوطنية رهينة دوامة الديناميات التي أطلقها ويطلقها مشروع أوسلو. بكلمة أخرى، العمل بموجب سياسة رد الفعل، مما يتيح للعدو الاحتفاظ بزمام المبادرة ويسهل عليه إدارة الصراع لتحقيق مزيد من الأهداف دون مواجهة منظمة وقوى موحدة، تستند إلى رؤية واضحة شاملة وممارسة إيجابية تعرف ماذا تريد في ظل الظروف المستجدة ومعطيات الواقع التي أصبحت محدداً قسرياً للصراع الدائر وكيفية إدارته" .
لذلك ، فإن المطلوب هو "الارتقاء بالرؤية والممارسة من مستوى المناهضة الدعاوية، أو ردود الفعل المتفرقة إلى مستوى المجابهة الفعلية، بمعنى تقديم البديل التاريخي الشامل، أي مجابهة مشروع أوسلو بمشروع نقيض كامل، يتيح الفرصة للمبادرة واستثمار كامل عناصر القوة، من فاعلة وكامنة، على قاعدة التواصل والقطع في الصراع في آن معاً. التواصل مع الماضي بما يمثله من أهداف وحقائق تاريخية وطنية وقومية، والقطع مع الثغرات والأخطاء في الرؤية والممارسة الفكرية والسياسية والعملية" .
أما بالنسبة لأبرز المعطيات – المحددات التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار بوصفها سمات أساسية للمرحلة، فالوثيقة تحصرها في خمسة معطيات:
المعطى الأول : أن السمة الأساسية للمرحلة هي التراجع والانكفاء/ الدفاع، فيما المشروع النقيض في حالة هجوم.
المعطى الثاني : ويستعرض أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، حيث تؤكد الوثيقة على أن الهزيمة كشفت عمق الأزمة البنيوية التي تعصف بالحركة الوطنية الفلسطينية، والتي هي من طبيعة تاريخية تراكمية، أسفرت عن نتيجتين أساسيتين :
1- استسلام القيادة الرسمية وخضوعها لمشروع التسوية الأمريكي – الإسرائيلي.
2- عجز قوى المعارضة، وتفاقم أزمتها متمثلة بعدم قدرتها على بلورة ولعب البديل الوطني القادر، من خلال توحيد صفوفها على أساس برنامج وطني مشترك يعبر عن نفسه بأطر تنظيمية وسياسية بما يؤمن الشرعية وبالتالي المرجعية البديلة عن القيادة التي تخلت عن البرنامج الوطني.
المعطى الثالث : ويتناول موضوع التناقض الرئيس والتناقضات الثانوية، حيث تطرح الوثيقة : "إن التناقض الرئيسي كان ولا يزال مع الاحتلال والشرائح المرتبطة به وتتم مواجهته بالمقاومة، وذلك بحكم طبيعة المرحلة باعتبارها مرحلة تحرر وطني وديمقراطي كون أهداف وحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية لم تتحقق".
أما المعطى الرابع : فيتناول الواقع العربي الذي " بدأ يشهد حالة صراع بين القوى الدافعة في المشروع الأمريكي – الإسرائيلي، والقوى المتصدية لهذا المشروع. حيث يشهد الوضع العربي حالة من الحراك والتناقض الذي يتمظهر في مستويات مختلفة :
المستوى الأول : التناقض المتصاعد بين سياسة النظام الرسمي العربي الذي يميل للمهادنة وميوعة المواقف تجاه سياسات الحلف الأمريكي – الإسرائيلي وبين طموحات وأهداف الجماهير العربية .
المستوى الثاني: التناقض بين أهداف المشروع الأمريكي – الإسرائيلي للتسوية والحد الأدنى من الحقوق والمصالح القومية والوطنية للشعوب العربية .
المستوى الثالث : اتضاح حقيقة الدور الأمريكي في عملية التسوية والذي يقوم على تطويع مواقف الأنظمة العربية والطرف الفلسطيني والضغط عليها، بما يستجيب لشروط المواقف الإسرائيلية .
المعطى الخامس : ويتناول البعد الدولي حيث تشير الوثيقة إلى "تباين السياسة الأمريكية والرؤية الأوروبية لحل الصراع : مع أن التباين بين السياستين الأمريكية والأوروبية لم يصل إلى مستوى المواجهة بينهما " .
فما دام المشروع الصهيوني يهدد كل جوانب حياة المجتمع الفلسطيني، إذن المواجهة معه يجب أن تجري عند كل جانب وفي كل زاوية تتبدى المساحة الشاسعة للصراع في :
حق العودة - الدولة - القدس – السيادة - إزالة الاستيطان – المياه – الاستقلال الاقتصادي – الزراعة – حماية المؤسسات الوطنية المدنية – التعليم – الصحة – الرياضة – التنمية – الصناعة – التراث – الآثار – الحريات – البيئة – القانون – الموسيقى – السينما – المسرح – الأدب – العمل – الثقافة – التاريخ – العمارة – حرية المرأة – حقوق الطفل ..الخ. حيث يحتاج كل واحد من هذه العناوين إلى آليات وبرامج وكفاءات خاصة تتلاءم مع كل خصوصية من خصوصيات هذه العناوين، وعلى رأسها تعدد التجمعات الفلسطينية.
خلاصة القول –حسب الوثيقة- "أننا أمام لوحة واسعة متناقضة، ونشطة، متحركة ومفتوحة بالكامل على المستقبل ولنا بها بمقدار ما علينا. وبناء عليه، فمن غير الممكن التعامل معها بنجاح وبصورة متحركة باستمرار، دون وعيها على نحو كفؤ وشرط ذلك، امتلاك عقل ورؤية تصل إلى مستوى استيعاب كل حركية وتناقض ونشاط لوحة الصراع بكل أبعادها ومستوياتها الممتدة في المكان والزمان والوجدان، والتي تحكم المرحلة بما هي مرحلة تحرر وطني وديمقراطي ببعديها التحرري والاجتماعي في آن" .
وبهذا –كما تضيف الوثيقة- "تتكامل النشاطات والمبادرات الموقعية أو الاجتماعية/ الفرعية مع الأهداف العامة العليا الإستراتيجية، ويتحول الفعل الديمقراطي الاجتماعي إلى جزء عضوي من مشروع سياسي أشمل، وهو الشرط الضروري لحماية الحزب والحركة الوطنية من خطرين هما" :
(1) خطر : الانعزال في المباشر أو الخاص، أو ألمطلبي.
(2) خطر : التهويم عند الاستراتيجي أو المجرد، أو السياسي العام.
ضمن هذا الأفق، يمكن التأسيس لحركة شعبية واسعة ذات مضمون اجتماعي – ديمقراطي منظم.
وبناء على ما تقدم ، فإن مفهوم الصراع الاجتماعي الديمقراطي –كما تؤكد الوثيقة- يأخذ ترجمات متنوعة وشاملة لأبعد حد، ويشكل مدخلاً أساسياً لإعادة الاعتبار لبرنامج البديل الوطني الديمقراطي، ذلك أن التمايزات على صعيد العنوان السياسي بين تيارات قوى المعارضة تبقى متقاربة، بينما التمايز الجدي بالنسبة لنا في الجبهة يتجلى في البرنامج الاجتماعي الاشتراكي من منطق الرؤية الماركسية ومنهجها المادي الجدلي.
لهذا فإن قدرتنا في الجبهة على صياغة برنامجنا الاجتماعي على أساس ديمقراطي تقدمي، وعلى أساس معطيات الواقع، وقدرتنا على استعادة دورنا في المجتمع سيشمل اختباراً حقيقياً لجديتنا وفعاليتنا، وهذا غير ممكن بدون إعادة نظر جدية في خطابنا وممارستنا، وبدون إعادة بناء جدية على الصعيد الفكري/الثقافي لمفاهيمنا السياسية الاجتماعية،والأيديولوجية، بحيث يصبح في مقدورنا التأثير الملموس والمتدرج، لإحداث إزاحات حقيقية في موازين القوى الاجتماعية وبالتالي السياسية داخل المجتمع الفلسطيني، وبهذا الفهم يمكن لبرامجنا على صعيد العمال، والفلاحين، والعاطلين عن العمل، وعلى صعيد الاقتصاد، الصناعة ، الزراعة، المياه، كما على صعيد الشباب و المرأة والمهنيين.... إلخ ، أن لا تظل أفكاراً مجردة معزولة عن أعضاء حزبنا وعن القطاعات الشعبية ذات العلاقة من أبناء شعبنا، وإنما تصبح برامج مقبولة من جميع الأوساط إذا ما أعددناها وفق منهجية علمية متخصصة تستند إلى حقائق المجتمع وفق كل اختصاص ، وبهذا المنهج والأداء التطبيقي له سنحقق الربط الجدلي بين مختلف جوانب العملية النضالية ببعديها الوطني التحرري والاجتماعي الديمقراطي من ناحية والربط الجدلي والموضوعي بين الواقع الفلسطيني والواقع العربي القومي ببعده الأممي من ناحية ثانية .
هكذا تتكامل النشاطات والمبادرات الموقعة أو الاجتماعية مع الأهداف العليا/ الإستراتيجية، ويتكامل الآني مع البعيد والخاص مع العام، ويتحول الفعل الديمقراطي الاجتماعي إلى جزء عضوي من مشروع سياسي أشمل، وهو الشرط الموضوعي لحماية الحزب والحركة الوطنية من خطرين
- خطر الانعزال في المباشر أو الخاص أو ألمطلبي، وخطر التهويم عند الاستراتيجي أو المجرد أو السياسي العام.
أما فيما يتعلق بسؤال "منظمة التحرير الفلسطينية ...إلى أين ؟ فإن الوثيقة السياسية – الصادرة عن المؤتمر الوطني السادس – تذكرنا بالمنطلقات التي حددتها الجبهة الشعبية تجاه هذا العنوان في وثيقة الكونفرنس الوطني الأول الصادرة في حزيران عام 1994، المشار إليها في هذه الدراسة ، ثم تؤكد الوثيقة على أنه " بدلاً من أن تصبح م.ت.ف إطاراً لجذب الطاقات المادية، والكفاءات المعنوية لعموم الشعب الفلسطيني، وتدار على أساس رؤية وطنية ترتقي إلى مستوى الصراع المفتوح مع الاحتلال، جرى تحويل المنظمة بفعل السياسة القاصرة إلى مجرد إطار تستخدمه القوة المهيمنة لتوفير الشرعية لخياراتها وبرنامجها الخاص" .
في ضوء ما تقدم، تحذر الوثيقة من " اعتبار م.ت.ف إطاراً أدى دوراً ووظيفة في مرحلة معينة، والآن استنفذت ذاتها، ووصلت إلى طور السقوط والتلاشي. إن التسليم بهذا الخيار يؤدي إلى التقاطع مع هدف الاحتلال لتصفية المنظمة، إضافة أنه يضرب بصورة نهائية المضمون الأساسي للمنظمة كمعبر عن وحدة الشعب الفلسطيني وكيانيته الشرعية" .
لكن بقاء الحال على ما هو عليه، وترك المسألة برمتها تحت رحمة الواقع –كما تضيف الوثيقة - فإن النتيجة إفساح المجال أمام المشروع الإسرائيلي لتصفية المنظمة دون مقاومة من ناحية، وتركها تحت رحمة وهيمنة الفريق المتنفذ من ناحية أخرى.
نلاحظ في هذا الجانب ، أن الجبهة الشعبية ما زالت تنطلق في تعاملها مع م.ت.ف ، بأنها وبالرغم من كل ما لحق بها، "لا تزال تمثل شعبياً وقانونياً إطاراً وطنياً جمعياً، ومعبراً معنوياً وكيانياً عن وحدة الشعب الفلسطيني ، الأمر الذي يعني أن المنظمة تبقى معبراً عن معاني ومضامين وحدة الشعب السياسية، وبالتالي فهي ومضامينها ميدان لصراع القوى السياسية، دون أن يصل ذلك الصراع إلى حدود المساس بها كوجود قانوني وإطار مؤسساتي عام" .
يستدعي ما تقدم "تحويل موضوع منظمة التحرير إلى ميدان مجابهة ضد نهج يبدد دورها ومكانتها، ويواصل توظيفها بصورة استخداميه لخدمة خيار أوسلو، وهو ما يصب في خدمة محاولات الكيان الصهيوني شطب المنظمة وإنهائها. إذن فإن التعامل مع م.ت.ف مسألة متحركة ترتبط بمدى التزام المنظمة بالثوابت الوطنية الفلسطينية والدفاع عنها" .
أما القسم الخامس من الوثيقة ، وهو بعنوان "بصدد مفاوضات ما يسمى بالحل النهائي" حيث يشير إلى أنه "بعد مرور عشر سنوات على مؤتمر مدريد، وما ترتب عليه من اتفاقيات وتفاهمات بدءاً من اتفاقات أوسلو مروراً باتفاقيات القاهرة - باريس الاقتصادي - الخليل – شرم الشيخ – واي بلانتيشن – وشرم الشيخ الثانية إضافة لاتفاقية وادي عربة مع الأردن. اتضحت معالم التسوية كما يراها ويريدها الحلف الأمريكي – الإسرائيلي" .
وفي السياق ذاته عمل الحلف المعادي على فك ارتباط القضية الفلسطينية ببعدها العربي. كما استخدم الاحتلال فترة العشر سنوات الماضية لاستنزاف الواقع الفلسطيني ودفعه بصورة متواصلة إلى خط التنازل عن الحقوق الوطنية الفلسطينية وإيصاله إلى لحظة يوافق فيها الفريق الفلسطيني المفاوض على المطالب والشروط الإسرائيلية .
وهكذا نستطيع القول أن اتفاقات أوسلو قد استنفذت أهدافها المحددة، ويحاول الآن الكيان الصهيوني وبدعم أمريكي شامل، فرض تسوية نهائية يتم عبرها ضرب ركائز القضية الفلسطينية الأساسية: حق العودة – تقرير المصير – القدس – والدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة. وبهذا المعنى فإن الاحتلال يحاول بكل طاقته توظيف ما راكمه من إنجازات خلال العقود الماضية بهدف ترسيخ الاحتلال ومشاريعه .
وبهذا يكون قد قام بتصفية ثوابت القضية الفلسطينية كقضية حقوق تاريخية وكقضية تحرر واستقلال. ومن خلال هذه السياسة وهذه الرؤية يتم تكريس المشروع الصهيوني كمشروع هيمنة وسيطرة في قلب العالم العربي .
بناءً على ما تقدم فإن الجبهة الشعبية ترى بأن مفاوضات ما يسمى الحل النهائي ما دامت تقوم على قاعدة الربط بين اتفاقيات أوسلو والحل النهائي، وعلى قاعدة إبقاء عملية التفاوض مستمرة على أساس مرجعية التفرد الأمريكي – الإسرائيلي وبعيداً عن مرجعية قرارات الشرعية الدولية، وقرارات المجالس الوطنية وبرنامج الإجماع الوطني فإنها لن تقود لنتائج تفضي إلى نيل حقوقنا الوطنية الثابتة، عدا عما تحمله من أخطار المساومة عليها. وعلى هذا الأساس فإن الجبهة الشعبية تدعو إلى ما يلي :
أولاً : اعتبار اتفاقات أوسلو وما ترتب عليها من ترجمات قد انتهى عمرها الزمني، وبالتالي فليس هناك علاقة بين أوسلو ومفهوم الحل النهائي.
ثانياً : إن مرجعية الحل المرحلي للقضية الفلسطينية يجب أن تقوم على أساس قرارات الشرعية الدولية وتنفيذها بالكامل من قبل الكيان الصهيوني.
ثالثاً : التمسك بالقرار 194 كأساس قانوني لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين.
رابعاً : إن الحل النهائي كما نفهمه يقوم على ضمان حقوق شعبنا الكاملة في العودة والاستقلال والسيادة وبالتالي فإن أي مساس بحق العودة، أو عروبة القدس، أو بقاء المستوطنات، أو منح الاحتلال حرية التحرك واستخدام أراضي الدولة الفلسطينية لأغراض أمنية وعسكرية يمس بمفهوم ومعايير السيادة والتحرر، وبالتالي فإنه حل يستدعي المقاومة والنضال بمختلف الأشكال.
وهذا يطرح على قوى المعارضة بمختلف تياراتها، استحقاقات تحشيد طاقاتها، وتنظيم فعلها، وتأطير أدائها، للدفاع عن الحقوق الوطنية مع تركيز خاص في هذه المرحلة على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وقضية القدس كعناوين مركزية للصراع.
وفي سبيل ذلك، تؤكد الجبهة -حسب الوثيقة- بوضوح على أن أشكال النضال " السياسية – الاقتصادية – والعسكرية – والفكرية في ظل معطيات الحالة الفلسطينية مفتوحة على كل الأساليب بدون استثناء، التي تكفل الدفاع عن الحقوق العربية والفلسطينية واستعادتها" .
وفي تناولها لمفهوم ومضمون البديل، تطرح الوثيقة السؤال الجوهري التالي : هل نحن في الجبهة أمام مشروع ديمقراطي شامل أم إعلان سياسي للتاريخ؟ تقدم الوثيقة إجابة تحمل في طياتها حسماً سياسياً ومعرفياً عبر العلاقة الجدلية والعضوية بين البعدين الوطني والقومي معاً، وذلك في تأكيدها على " أننا أمام عملية تاريخية هائلة الزخم، وصراع شامل يطال أبعد الزوايا وأدقها. رغم تركز الصراع وكثافته في فلسطين بحكم اختيارها كمنطقة "إنزال" للمشروع الإمبريالي – الصهيوني في قلب العالم العربي، إلا أن أهداف ذلك "الإنزال" الاستعماري التاريخي أبعد وأشمل من ذلك بكثير" .
كما "تستدعي حالة التشابك المشار لها بتجلياتها وتفاعلاتها وحركتها، مستوى راقٍ من الإدارة والأداء والقيادة. وعقلاً قيادياً يملك شروط المعرفة والكفاءة للتعامل مع صيرورات الصراع واستحقاقاته. وفي هذا السياق، يمكن فهم محاولة هذه الوثيقة للارتقاء بالنقاش والفعالية الفكرية إلى مستوى هذه العملية السياسية – الاجتماعية الشاملة، وبالتالي إنضاج رؤية قادرة على قراءة المرحلة بكل أبعادها ارتباطاً بالمصالح الوطنية والقومية العليا" . وكل ذلك مشروط بقدرتنا على تجاوز ومجابهة عوامل وظواهر " تزوير وتجويف الإرادة الشعبية، وتمرير مختلف السياسات العاجزة والقاصرة دائماً باسم شرعيات شعبية، جرى ابتذالها لتصبح شرعية السلطة وأشباه الأنظمة" .
أول هذه الظواهر وأخطرها، غياب أو اغتصاب الديمقراطية الاجتماعية – السياسية، الأمر الذي أدى لكبح تطور المجتمع وتدمير روح المبادرة والإبداع فيه. أما الظاهرة الثانية فهي، فقدان الرؤية السياسية/ الفكرية/ الاجتماعية وتشوشها. الظاهرة الثالثة – حسب الوثيقة- فهي تتعلق بـ" هبوط المعايير والاستخفاف بالعقل، مما قاد إلى حالة من الفوضى الفكرية وفقدان الرؤية. هذا الواقع أدى إلى تفشي الشعبوية والبراغماتية المبتذلة في محاولات لا تتوقف لتبرير سياسات القيادة وإخفاقاتها. عمق من هذا المأزق غياب البيئة والممارسة الديمقراطية، وانتشار الفكر الفئوي على حساب الفكر الوطني، وهبوط معايير النقد العلمي وما يستدعيه من فعالية ونزاهة فكرية وأخلاقية" .
ما تقدم، "يفرض استحقاق البديل الوطني الديمقراطي وشروط قيامه بصورة قسرية. نقول بصورة قسرية، حيث إننا أمام لوحة تحكمها تناقضات الصراع التاريخية والراهنة أو التي لا تزال في رحم المستقبل. لوحة تعبر عن شمولية الصراع وتاريخيته. صراع يديره الطرف الآخر، بكل ما يملك من قوة وبراعة مستفيداً من آخر ما وصلت إليه البشرية من منجزات العلم والتكنولوجيا والإدارة على مختلف المستويات" .
"هنا تقع مكانة الحالة الديمقراطية في الساحة الفلسطينية والدور التاريخي الذي ينتظرها في هذه المرحلة الدقيقة حيث سيتقرر غير شأن مصيري ، وتملأ المساحة الفارغة التي ما زالت تنتظر إطارها التاريخي، القادر على تقديم الرؤية وتقدير اللحظة والدور والمكانة ومؤهل ليعبر عنهما:".
في ضوء المعنى الدقيق المشار إليه، "يمكن قراءة التحديات والأسئلة الكبرى التي تواجه البديل الوطني الديمقراطي، واستنتاج أننا أمام عملية عميقة وشاملة تستدعي القطع الجدي مع الفكر السائد، الذي يحصر مفهوم البديل الديمقراطي في وحدة بعض الفصائل الديمقراطية الفلسطينية. تكمن معضلة هذا الفكر في أنه لا يذهب بالمسائل إلى جذورها، بل يعيد إلى إنتاج الأزمة، لأنه يعود إلى نفس الذهنية والمفاهيم السياسية التي قادت إلى الأزمة" .
وبالتالي فإن " البديل الوطني لا بد وأن يكون من خارج أوسلو، لأن غير ذلك يضع النضال الوطني الفلسطيني ضمن دينامية سياسية اجتماعية في منتهى الخطورة، بحكم القيود والهيمنة التي كرستها إسرائيل في الاتفاقات الموقعة وما تفرضه من وقائع مادية ميدانية، الأمر الذي يتيح لها تكريس مصالحها كإطار مرجعي يمكنها من استخدام عناصر تفوقها لتعزيز إنجازاتها من جانب، وقطع الطريق على محاولات النهوض الوطني الفلسطيني من جانب آخر.
بناء على ما تقدم، "فإن مفهوم البديل الوطني الديمقراطي يعني رؤية الواقع ومستجداته وحركته، لخدمة الرؤية الشاملة للصراع الوطني التحرري والاجتماعي الديمقراطي. بهذا المعنى، تتضح فكرة القطع مع أوسلو كمنهج وخيار التصرف تجاهه كواقع معطى" .
هكذا تستقيم المعادلة وتنسجم، حيث يتجسد البديل كعملية سياسية - اجتماعية – اقتصادية – ثقافية – كفاحية نقيضه لكل من المشروع المعادي، والفكر اليومي العاجز لليمين الفلسطيني، هذه العملية مشروطة بتوفير الرؤية المنهجية للصراع القادرة على إيجاد التوازن المطلوب في كل مرحلة، وعند كل مستوى من مستويات الصراع، بحيث تترابط أبعاد وركائز البديل الإستراتيجية والتكتيكية.
يستدعي هذا الواقع "العمل لتخطي الخلل، الذي حكم ممارسة المعارضة السياسية، إلى دور الرافعة وحامل مشروع "البديل الوطني الديمقراطي". بما هو تعبير عن مشروع وطني تحرري اجتماعي ديمقراطي إيجابي في جوهره ومظهره. هكذا يجري تخطي جدار الأزمة الذي جعل مشروع البديل يتماهى مع فكرة المعارضة ورد الفعل على مبادرات وسياسات الأطراف الأخرى" .
إن تخطي الأزمة التي تعاني منها القوى الديمقراطية الفلسطينية، مشروط بقدرتها على إعادة بناء ذاتها، وفق استحقاقات البديل الوطني الديمقراطي، والانتقال بالعملية من المستوى الفصائلي الضيق إلى المستوى الوطني الشامل، ومن المستوى التنظيمي المحدود إلى مستوى فهمها كعملية بنائية ترتقي عبرها القوى الديمقراطية أو التيار الديمقراطي من مستوى الفعل المحدود لبعض القوى السياسية والشخصيات الاجتماعية إلى مستوى الحالة الديمقراطية الشاملة لعموم الشعب الفلسطيني، التي بدونها يستحيل ترجمة مفهوم البديل الوطني الديمقراطي .

أما بالنسبة لموقف الجبهة من قوى الإسلام السياسي ، فإن "الوثيقة تؤكد على ما تضمنته وثيقة الكونفرنس الوطني الأول تجاه قوى الإسلام السياسي انطلاقاً من أن تلك الرؤية لا تزال تحتفظ بصحتها، وتضيف الوثيقة "إن قوى الإسلام السياسي هي مكون طبيعي من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية على الرغم من أية خصوصيات تمثلها، وعلى هذا الصعيد يهمنا أن نؤكد بأن الجبهة الشعبية ترى في تلك القوى إحدى دوائر الفعل والتفاعل الوطني، وذلك على قاعدة الوحدة والصراع كقانون يجب أن ينظم العلاقات بين القوى الوطنية في أوساط الشعب الفلسطيني" .
وفي ضوء ما تقدم فإن العلاقة مع القوى الإسلامية هي علاقة تقوم على الاحترام وتحشيد الطاقات والجهود في مواجهة التناقض الرئيسي مع الاحتلال والشرائح المتحالفة معه من جانب، وعلى الصراع الديمقراطي فيما يتعلق بالتناقضات الاجتماعية والثقافية وما تعكسه من برامج وممارسات وقيم.
إن هذا الفهم وهذه الرؤية لا يتناقضان مع خيار الجبهة لبناء البديل الوطني الديمقراطي، بل أن صياغة العلاقة مع مختلف القوى في الساحة الفلسطينية بما فيها قوى الإسلام السياسي على قاعدة الوضوح هو شرط واستحقاق دائم على القوى الديمقراطية أن تتعامل معه وتستجيب لأسئلته وإشكالاته بصورة خلاقة، وإلا ستفقد السياسة التحالفية عوامل نجاحها وتأثيرها.

ثانياً : الوثيقة التنظيمية : "نحو رؤية تنظيمية جديدة"
وفي هذا الجانب تؤكد الجبهة الشعبية على ضرورة الربط الجدلي بين المستويين السياسي والتنظيمي ، حيث تشير الوثيقة التنظيمية إلى " أننا قد حددنا في الوثيقة السياسية نواظم وركائز ومحددات الرؤية السياسية للمرحلة الراهنة ، غير أن هذه تبقى تعاني من نقص جوهري إذا ما توقفت عند هذا المستوى ، يعود ذلك إلى أن الرؤية السياسية مهما كانت جميلة و سليمة ، تبقى مجرد كلام إذا لم تتجلَّ في بنى و مؤسسات و هيئات و منهجيات و آليات وممارسة تنظيمية ، هي جزء عضوي و مكون داخلي أصيل من أية رؤية شاملة . و بهذا المعنى ، فإن تناغم الرؤية السياسية –الفكرية و الرؤية التنظيمية ، هو بمثابة شرط لازم للعمل و النجاح" .
وبالمقابل " فإن الاختلال في الرؤية السياسية الفكرية ، إنما يعكس اختلالاً جذرياً في رؤية الواقع و شروط الصراع و محدداته ، و أما اختلال الرؤية التنظيمية ، فإنه يعكس وجود عدم تناسب خطر بين الرؤية التنظيمية و بين الرؤية السياسية –الفكرية ، أي بين السياسة و الهدف و بين أداة تحقيقها . وعليه ، يجب الانتباه كي لا تقع الرؤية السياسية –الفكرية في وهم التماسك المنطقي الشكلي الذي قد يبدو بناءً جميلاً ، و لكنه لسوء الحظ ليس البناء المطلوب و الملائم لاستحقاقات الواقع ، وهذا لا يعني تغيب الانجازات التي تحققت في سياق النضال الوطني الفلسطيني ، ولكننا نتحدث عن واقع مأزوم ، يحتاج لجرأة عالية لتخطي دوائر المراوحة و التذمر و محاولات تبرير الفشل ، باتجاه التأسيس لعمليات نهوض لا بد منها ، كوننا كشعب و قوى وطنية لا نزال ، على ما يبدو ، في جولات الصراع الأولى رغم كل عقود النضال التي انقضت حتى الآن" .
يشترط هذا حكماً ، -كما توضح الوثيقة التنظيمية للمؤتمر السادس- "ضرورة توفير مجموعة محددات و نواظم ، دون توفرها ستبقى العملية أسيرة العفوية و ضيق الأفق . و هنا تطرح الوثيقة ثلاثة محددات رئيسية هي " :
أولاً : إن وعي الأزمة و الاعتراف بها دلالة حيوية و صحة ، و ليس دليل عجز أو إحباط ، كما أنه دليل مقاومة و صفاء و ثقة بالذات و بالمشروع الوطني ، هو بمثابة الشرط اللازم لإنقاذ التنظيم من خطر مميت إذا ما واصل التصرف ، و كأنه في أحسن حال . إنه و الحال هذه ، بالضبط مثل مريض يعطي بعدم وعيه الفرصة للمرض ليواصل الفتك بالجسد و الروح ببساطة و سهولة . أما وعيه و عدم الاعتراف به فهو بمثابة انتحار .
وعي هذه الحقيقة و العمل بموجبها هو ضمانة أساسية لتجنيب الحزب دفع كلفة باهظة سياسياً و معنوياً و مادياً ، كان بالإمكان تجنبها بثمن زهيد و هو التصحيح في الوقت المناسب و على النحو المناسب . أو بكلمات أخرى يكثفها مأثورنا الشعبي : درهم وقاية خير من قنطار علاج.
ثانياً : ضرورة التمييز أثناء مواجهة المعضلات و القصورات التنظيمية ، بين النقد العلمي و القراءة العميقة لجذور تلك المعضلات الفكرية و السياسية و العملية ، و عمليات الندب و النواح. يؤسس المظهر الأول لديناميات تطور و نهوض ، و يؤشر المظهر الثاني لبؤس معرفي و معنوي، و يقود في حال استفحاله إلى تبديد المزيد من الطاقات و الاستنزاف الداخلي ، و تعطيل العقل و إشاعة مناخ من اليأس و الإحباط .
ثالثاً: وعي العملية التنظيمية و ما يرافقها من معضلات على أنها عملية وطنية و اجتماعية موضوعية و تاريخية ، إذ يمثل وعي هذه الحقيقة ، أهمية قصوى كونه يرتقي بالمسألة التنظيمية من مجرد عملية فنية إدارية و بعض الآليات و القواعد و النصوص الجامدة ، التي يتعامل معها البعض و كأنها خاصة به و بعاداته و مستواه ، إلى مستوى اعتبارها انعكاساً كثيفاً للرؤية الاجتماعية و الفكرية .
هكذا يمتلك الحزب المواصفات المطلوبة التي تكفل دوره الإيجابي و ممارسته ، الطبيعية داخل التنظيم الأشمل و الأعقد و الأغنى ، أي المجتمع .
بهذا الفهم –كما تضيف الوثيقة- يتم إنقاذ العملية التنظيمية من محاولات الهبوط بها و كأنها صراع أشخاص يمارسون عبرها هواياتهم .
وفي هذا السياق تقر الوثيقة بحجم الثغرات والأخطاء في مساحة السنوات المنصرمة الفاصلة بين مؤتمرين التي لم تستثمر كما يجب ، بل إن تلك السنوات "كانت حافلة بالثغرات والأخطاء ، وبتواصل ضغط عناصر وتجليات الأزمة الوطنية والداخلية. غير أن ذلك لم يحرف الاتجاه العام الذي بدأ بطور الاعتراف بالأزمة، مروراً بسيادة مظاهر النقد، ثم الانتقال لطور وعي الأزمة وقراءتها العميقة من خلال عمليات ووقفات ووثائق مراجعة شاملة، وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي تمثل عملية التهيؤ للدخول في ديناميات النهوض" .
"و بناءً عليه ، تصبح الجبهة الشعبية ، ارتباطاً بالرؤية التنظيمية ، أمام جملة استحقاقات و اشتراطات بعضها يعود للمرحلة السابقة ، و معظمها يتجه للواقع و المستقبل . يتمثل أهم استحقاق ناظم على الصعيد التنظيمي في قدرة الجبهة الشعبية على تطوير بناها و مؤسساتها و أدائها ، بما يلبي الوظيفة و الدور التاريخي الذي يجب أن تقوم به" .
و لذا ، يجب أن تتم العملية وعياً و ممارسة بوصفها صيرورة تقوم بوظيفتها و دورها المحدد ، من خلال عمليات تركيم و إزاحات متتالية تصل إلى لحظة التقدم النوعي بعد تأمين مقدماتها :-
أولاً : تأمين الديمقراطية الداخلية ، التي تعني توفير البيئة القادرة على استيعاب مجمل العمليات التنظيمية الداخلية ، بحيث تغدو الديمقراطية نظام حياة . هكذا لا تكون الديمقراطية مناسبة ليرقص كل من يشاء وفقاً لفكرة فوضوية خطرة "أنا حر" . هنا لا بد من التشديد على أن لا أحد ، مهما كان ، هو حر بالمعنى المطلق ، لأن الديمقراطية مشروطة بالوعي و مصلحة الجماعة ، مشروطة بالنواظم المنهجية الملاءمة . الديمقراطية التي تحمي ذاتها من الفردية و الأنانية و الانغلاق و في ذات الوقت من الابتذال و الانفلات و إلحاق الضرر بالجماعة . ما لم يتوفر هذا الشرط التأسيسي فإن كل حديث عن "الديمقراطية الجماعية" مجرد لغو أو لهو .
ثانياً : تؤمن البيئة الديمقراطية المناخ المناسب لإطلاق أوسع فاعلية فكرية في الحزب .
ثالثاً : توفر البيئة الديمقراطية و الفاعلية الفكرية الحل المناسب لإدارة تناقضات الحزب الداخلية بهدف إنضاجها و حلها و توظيفها إيجابياً .
فالتنوع و صراع الأفكار هو مصدر إثراء و إغناء طبيعي لمن يقدرها و يعرف كيف يستفيد منها ، لأن التطابق و التماثل لا يعني سوى الموت و الركود الذي يقود إلى دكتاتورية الرأي الواحد، فيتحول الحزب إلى قوى طاردة بدل أن يكون مركزاً جاذباً للطاقات الاجتماعية .
وعن كيفية توفير شروط الفعالية القصوى والوحدة الصلبة، تضع الوثيقة التنظيمية سبيلاً لذلك عبر " توفير البيئة الديمقراطية و ترجماتها الملموسة في معايير و نواظم و آليات ، إلى جانب إطلاق الفعالية الفكرية ، ووعي التناقضات الداخلية ، و احترام الآراء و التعامل معها كعنصر قوة للارتقاء بدور الحزب و رؤيته و ممارسته ، و احترام علاقات الخاص و العام ، تؤمن الأسس و الشروط الضرورية ، لتركيز وحدة الحزب على بنى و نواظم و آليات و قناعات عميقة ، و فعالية سياسية و فكرية متواصلة" .
هكذا "تتخطى وحدة الحزب مصيدة توليف المواقف و توازنات القوى و الكتل و تمويه التناقضات و سياسة التراضي و مزاج الأفراد و الانفعال . إن وضع الحزب تحت رحمة هذه المناهج و العقلية ، يؤدي بصورة حتمية إلى هبوط مريع في الأداء و المعايير، هذه العملية السلبية تفتح الباب واسعاً أمام توليد بيئة ملاءمة للنفاق و فقدان الجرأة و الصراحة و اللعب على التناقضات و شخصنتها ، و فقدان القدرة على المحاسبة و النقد الجريء .و بالحصيلة ، إغراق حياة الحزب و ما تواجهه من أسئلة و معضلات و مهام كبرى فكرياً و سياسياً و كفاحياً في المناورات و الحسابات الأنانية التافهة" .
"وتكمن المأساة في مثل هذه الحالة ، في أن الحزب هو الذي يدفع الثمن من رصيده السياسي و المعنوي ، على شكل فقدان الشروط الضرورية لتأدية دوره ووظيفته السياسية و الاجتماعية على المستوى الوطني ، و يخل ببنيته كعقد اجتماعي . هكذا تصل الوحدة الشكلية إلى نهايتها المحزنة ، على شكل نزف داخلي مستمر ، و فقدان للثقة و الهيبة داخلياً و خارجياً وصولاً إلى تصدع البناء الحزبي بالكامل ، و في أحسن الأحوال ، تحوله لتنظيم هامشي و تابع ، يتخطاه الواقع و التاريخ عاجلاً أم آجلاً" .
وبالتالي "فإن إنقاذ الحزب ووحدته من مثل هذه المصيدة المميتة ، يأتي من خلال عملية واعية لأقصى حد بإطلاق دينامية معاكسة و نقيضة للأول تماماً" .
خلاصة القول ، -كما تضيف الوثيقة- أن وحدة الحزب الحقيقية ، إنما تأتي كحصيلة إجمالية لفاعليته القصوى سياسياً و فكرياً و كفاحياً و هذا غير ممكن ، إلا إذا تم الارتقاء دوماً بالممارسة الديمقراطية و بالمعايير التي تحكم العمليات التنظيمية المتنوعة ، لتصبح بمستوى الرؤية السياسية، التي بدورها ترتبط بمعايير الصراع الأشمل و أداء الطرف النقيض .
على أن الوصول بالعملية لهذا المستوى الراقي يتوقف، "على مدى الانضباط للقيم و الممارسة الديمقراطية ، و احترام العقل الجمعي و الفردي ووعي التناقضات الداخلية كمظهر طبيعي و شرط للتطور و الارتقاء "، وفي سياق هذه العملية تتراجع عقلية التوليف و تمويه التناقضات و تفقد مراكز القوى –بما هي تعبير سلبي يتمظهر على شكل أحزاب صغيرة في إطار الحزب الأشمل- البيئة التي تحتضنها و التربة التي تغذيها" .
وهنا تطالب الوثيقة بوجوب "التمييز جيداً بين مفهوم مراكز القوى السلبي كظاهرة تحتضن الضعف و العجز لتأمين الحماية لذاتها ، و بين الاصطفافات الطبيعية ، التي تظهر في سياق العملية الإيجابية القائمة على إطلاق الفعالية الحزبية ضمن الشروط الناظمة التي أتينا على ذكرها . بهذا المعنى نفهم مقولات من نوع "في التناقض حياة" ، "التناقض جوهر الديالكتيك" ، هكذا يتاح المجال لقانون التناقض كي يفعل فعله في الحزب بحرية كاملة كمدخل للتطور و التقدم" .
وفي هذا السياق تستنتج الوثيقة "أن وحدة الحزب المتجسدة في بنى و نظم و هيئات و أفراد و ممارسة ، يجب أن تتناغم مع الرؤية السياسية-الاجتماعية ، وإن عملية التناغم تلك شرط ناظم لتطور الحزب و إخراجه من مأزق الاستنزاف الداخلي، ذلك أن "العمليات المشار إليها هي بمثابة الصيرورات التي لا تتوقف ، وأي ممارسة أو تدخل سلبي لحسبها تحت سقف معايير هابطة، يعني التأسيس لديناميات الأزمة، وبالتالي فإن وعي واستيعاب تلك العمليات بصورة صحيحة، مشروط بمستوى كفاءة الهيئات والأفراد والممارسة، وتبعاً لذلك يرتبط مستوى الكفاءة بشرط القدرة على مواكبة واستيعاب تطور الواقع المادي والعملي والمعرفي. هذا ينقل النقاش لعنوان آخر من عناوين المسألة التنظيمية، نقصد عملية التجديد الحزبي" .
وحول مفهوم التحول والتجدد أو الضمور والتلاشي ترى الوثيقة أن أي نجاح أو إخفاق لأي حزب ، يتقرر بمدى قدرته الدائمة و المتجددة على مواكبة حركة المجتمع المعقدة و المتشابكة لأبعد حد ، و بالتالي القدرة على تلبية مصالح و أهداف ذلك المجتمع ، في كل مستوى و مرحلة " .
"فالحزب ليس فوق المجتمع أو خارجه أو تحته ، بل هو مكون داخلي أصيل من مكونات المجتمع ، و ميزته الحاسمة تتجلى في وعيه لدوره ووظيفته كجسم عالي التنظيم و الأداء ، لصالح الأصل / المجتمع ، سواء على الصعيد البنائي الداخلي ، أو على صعيد الصراع ضد عدو قومي كالعدو الصهيوني" .
إن "نجاح الحزب في تأدية وظيفته و دوره ، يوفر شرطاً حاسماً ليصبح الحزب دائرة جذب ، تقوم على القناعة و الثقة و الاحترام من قبل أوسع الطبقات و الفعاليات و القوى الشعبية، هذا يفرض ضرورة التحرك الدائم لتلبية استحقاقات عملية الجذب تلك ، بما تعنيه و تحمله هذه العملية من تناقضات جديدة ، و أسئلة جديدة ، و مهام جديدة ، وصولاً للحظة القطع الثوري " .
"هنا يجب الانتباه لمخاطر جدية ترافق هذه العملية الحيوية تتمثل في وهم التسرع و القفز عن تشابكات الواقع و بالتالي إقحام الحزب و المجتمع في عملية صراع داخلي مبكرة " .
ثمة خطر آخر هو ، استمرار العمل بنفس المعايير و الأداء و الأدوات السابقة ، الأمر الذي يقود الحزب إلى دائرة العجز عن استيعاب حركة الواقع ، و بالتالي إضاعة فرص ثمينة لتجديد بنيته و رؤيته و ممارسته، يتأتى هذا الخطر الجدي ، عن عقلية قاصرة و نرجسية ، تفسر نجاح الحزب و تستخدمه باعتباره نجاحاً شخصياً ، الأمر الذي يعني السقوط في وهم أن البنية و القيادة و الممارسة و الآليات التي أتى النجاح في ظلها في لحظة أو مرحلة ما ، صالحة لكل زمان و مكان. إن الوقوع في أسر هذا المحظور الخطر ، يؤشر على خلل منهجي و معرفي تجاه بديهيتين هما :
1. إغفال مبدأ التجديد كخط ناظم يعبر موضوعياً عن مبدأ تعاقب الأجيال بصورة طبيعية في المجتمع و الحزب . إن إغفال هذا المبدأ و عدم وعيه بعمق ، ينقل فعله من ديناميات التركيم و التكامل و التواصل بالمعنى الإيجابي ، إلى ديناميات الصراع و الصدام .
2. القفز عن بديهية أن المجتمع يملك طاقات و كفاءات مبدعة أكثر من كل الأحزاب السياسية مجتمعة . يقود إغفال هذه الحقيقة إلى البيروقراطية و علاقة فوقية مع المجتمع.
هكذا تصل الوثيقة إلى نتيجة مفادها " إن عملية التجديد في الحزب ذات طابع موضوعي ، مستمرة و متواصلة باستمرار و شاملة لكل الجوانب . يستدعي حماية عملية التجديد من مصيدة الشكلية ، و الفهم الضيق ، الذي يحصرها في الحراك و التبادل الحزبي الداخلي ، و إعادة النظر الشكلية في النصوص بصورة مجردة ، إلى مستوى التعامل معها ، مفهوماً و ممارسة ، كعملية تبادل فعالة بين الحزب و المجتمع . إن التجديد الحقيقي يكون بإضافة طاقات جديدة ، لم تكن أصلاً موجودة داخل الأطر الحزبية . هذا يعني بالضرورة ، الارتقاء بمعايير التجديد لتصبح متناغمة مع أفضل ما يضمه و يختزنه المجتمع من كفاءات ، و إلا سيجد الحزب نفسه في لحظة معينة أمام مشكلة جدية ، تتجلى في تراجع مستوى معايير قيادته و كوادره و أعضائه و بناه و ممارسته " .
وبناء على ذلك، كما تضيف الوثيقة " فإن عملية التجديد بقدر ما هي عملية موضوعية تعكس قوانين الحياة ، بقدر ما يجب أن تتم في الحزب بصورة واعية ، و إلا ستتحول إلى عملية عفوية ، تجري تحت ضغط الأزمات و الأحداث مع ما يرافق ذلك من نبذ للكفاءات ، و نزيف داخلي ، و فقدان للهيبة و الثقة على أكثر من مستوى، لأن الأمر لن يقف عند حدود التذمرات الداخلية والاستنكاف، بل –وهذا هو الأخطر- سيتعداها إلى تآكل الحزب كمشروع سياسي –اجتماعي- تحرري. وتبعاً لذلك، فقدان المبادرة، والتخلف عن صيرورات المجتمع، واستحقاقات الصراع الأشمل " .
"إن عملية التجديد الحزبي تشمل أيضاً التجديد على صعيد الرؤية السياسية و الفكرية و الاجتماعية ، و البنى و الأطر و البرامج ، بصورة مستمرة و متواصلة ارتباطاً بحركة الواقع و شروط الصراع ، و الأهداف الوطنية و القومية ، و تبعاً لذلك التجديد في وظيفة الحزب و دوره" .
إن عملية التجديد من ناحية المبدأ ، هي عملية موضوعية ، لكنها يجب أن تتم في الحزب بصورة واعية ، هذا يعني ، أن هيئات الحزب القيادية ، يجب أن تملك الوعي و الكفاءة و الصبر لإدارة هذه العملية بنجاح و إنقاذها من مزاجية الأفراد ،ومما يتراكم من هبوط في المعايير مع مرور الزمن، وما تفرضه عملية احتدام الصراع من إعادة نظر في المعايير بصورة متواصلة، وإلا ستتخلف عن مواكبة الأحداث واستحقاقات المشروع بجانبيه التحرري والاجتماعي، وهو الأمر الذي يقود لتأسيس ديناميات كبح داخلية حفاظاً على سقوف الوعي والأداء والبني القائمة" .
وترى الوثيقة بحق " أن نجاح القيادة في إدارة هذه العملية و إطلاق فعالياتها لأقصى مدى ، هو معيار عمق وعيها لدورها ووظيفتها في إطار الحزب كمشروع وطني شامل و ممتد و متواصل و متجدد باستمرار، كظاهرة اجتماعية عمرها من عمر المجتمع و ليس الأفراد، هذا الأمر يعني حكماً أن ثقل دور القيادة و مكانتها في صفحات تاريخ الحزب و الوطن ، مرتبطان بقدرتها على شروط استمرار الحزب و تطوره ، ارتباطاً بدوره ووظيفته كحامل لرؤية سياسية-اجتماعية متطورة باستمرار تبعاً لتطور الواقع الموضوعي والذاتي، وتبعاً لتطور الأهداف من مرحلة لأخرى" .
حيث تؤكد الوثيقة على أن هذا الدور المطلوب من الهيئات القيادية مرهون بعمق وعي هذه الهيئات، إن وعي الهيئات القيادية أفراداً و جماعة يعني أن تقوم بتوفير شروط ارتقائها بذاتها باستمرار ، عبر التغذية المستمرة للعقل ، و التجديد المستمر للذات بتوظيف كفاءات جديدة و إخلاء من لم يعد لديه القدرة على التقدم ، أو من تثبت الممارسة عجزه و تخلفه سواء بحكم عوامل موضوعية أو ذاتية". لان القيادة –كما توضح الوثيقة – " تحتل، عبر هذه العملية و النجاح في تأمين شروطها ، دورها و مكانتها في تاريخ الحزب و الشعب و لا تختلسه اختلاساً في غفلة من الحزب أو الزمن، لأنها تستعيد في هذا المجال مضامين وأبعاد الفكرة التي أطلقتها الجبهة الشعبية في مرحلة متقدمة، من تاريخها ألا وهي : "مبدأ التحول"، بما هو عملية شاملة ومتواصلة دائماً وأبداً ، وحيث يتماهى التحول تماماً مع مبدأ التجديد الذي أتينا على ركائزه ونواظمه الموضوعية والذاتية" .
أخيراً تستذكر الوثيقة موضوعة التحول – كحزب ماركسي- بقولها " إن إعادة الاعتبار للتحول، بما هو عملية تجديد مستمر، تحفظ للجبهة الشعبية تاريخها وحقوقها، وتسلحها بمبدأ أن يكون التجدد جوهر حياة الحزب ومصدر شبابه. إن التاريخ مدعاة للفخر، ولكن الفخر الأكبر هو في الاستمرار بالمستقبل عبر عطاء متواصل وكثيف ، وهذا غير ممكن إلا إذا واصل الحزب تجدده بصورة دائمة كحامل لمصالح وأهداف الشعب الوطنية والاجتماعية العليا، ليس في مرحلة ما ، بل في كل المراحل. إن شرط ذلك، وكما هو معروف، تحضير الذات، وعبر التجدد، للمستقبل .
وتضيف الوثيقة مخاطبة كافة الرفاق في الجبهة " إن واجبنا جميعاً ، سواء في هيئات الحزب و منظماته و أعضائه أو أصحاب فكر و مسؤولية وطنية الارتقاء لمستوى هذه المهمة الإنهاضية الكبرى ، بوصفها شأناً وطنياً قبل أن تكون مسألة حزبية ، بهذا نؤسس جميعاً في الداخل و الخارج فكرياً و عملياً ، للانتقال من مرحلة الأزمة و المراوحة و الإحباط و اليأس و التذمر إلى مرحلة النهوض عبر تلبية اشتراطاتها و استحقاقاتها التي نحن على ثقة أننا قادرون عليها ، فيما لو قمنا بما نستطيع .كما أننا على ثقة أن الحزب يملك ممكنات النهوض ، على الرغم من كل الأثقال التي يعاني منها و التحديات الوطنية الكبرى التي تواجهه ، و مفاعيل الأزمة التي يعيشها" .
أخيراً ، يهمنا أن نشير إلى أن عملية التحول عاشت نوعاً من المفارقة او الثنائية المتناقضة ، فالجبهة الشعبية وعلى الرغم من توجهها الماركسي الصادق ، إلا أنها لم تستطع الموائمة أو التفاعل الايجابي بين هويتها الماركسية المعلنة وفق وثائق مؤتمراتها ، وبين سياساتها وبناها التنظيمية التي لم تستطع توفير الأسس المطلوبة لعملية التفاعل أو التزاوج بين النظرية من ناحية وتلك البنى التنظيمية من ناحية ثانية، ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة الذهنية السائدة في معظم الهيئات والكوادر القيادية المقررة في الجبهة في تلك المرحلة ، والتي ظلت كما يبدوا أسيرة لماضيها ، خاصة فيما يتعلق بالتزامها بالمفاهيم القومية التقليدية و عدم قدرتها في فهم واستيعاب طروحات النظرية الماركسية ومنهجها ، إلى جانب استمرار ظاهرة الخلط وعدم التمييز بين الأهداف الاستراتيجية الكبرى والأهداف التكتيكية، وبالتالي الانشداد في أغلب المحطات لما هو استراتيجي ، ما يعني جموداً على تلك المواقف بعيداً عن ضرورات الحركة المطلوبة - في تلك المرحلة وكل المراحل – ضد منطق الثبات مما أثر على فعالية الجبهة وأدى في بعض الاحيان إلى عزلتها ، إلى جانب أن عدداً من القرارات أو الممارسات التي أكدت أن تجربة الجبهة التاريخية –واللاحقة فيما بعد- لم تخلُ من أخطاء على حد قول المؤسس الراحل د.جورج حبش حينما أكد على "أننا لم نستعمل عقلنا كما يجب، كنا نقاتل بسواعدنا أولاً وبقلوبنا ثانياً ... أما العقل فلم نستعمله بما فيه الكفاية" ، وفي قوله أيضاً "إن إلتزام الجبهة بالفكر الماركسي لم يمنع وقوعها في بعض الأخطاء والفهم الميكانيكي للمسائل" ، ولذلك فإن دروس وعبر مؤتمرات الجبهة وقراراتها الخاصة بموضوع التحول ، تتجلى في ضرورة النظر إلى عملية التحول ، كعملية جدلية في إطار المنظومة الفكرية والسياسية والتنظيمية المتكاملة، بحيث لا يجوز للكادر أن يكتفي فقط بقراءة العديد من الكتب الماركسية دون أن يتعاطى مع القضايا الأخرى ، السياسية والتنظيمية ، والمجتمعية ، والجماهيرية برؤية شمولية مترابطة ، فالقراءة أو التثقيف الحزبي ، على أهميته وضرورته وأولويته القصوى ، إلا أنه يظل طريقاً أو بعداً أحادياً لا يمكن ان يحقق تأثيره أو نتائجه المأمولة في عملية التحول بدون التفاعل مع كافة القضايا الأخرى بصورة شاملة ومترابطة ، بحيث يمكن عندئذ الحديث عن تحول النظرية الماركسية إلى منهج عمل ، وإلى سياسات وأوضاع وهياكل تنظيمية متلائمة مع شروط التحول، وبدون ذلك تظل الماركسية مجرد لافتة حمراء أو شعاراً مرفوعاً محكوماً للشكل أو المظاهر بعيداً عن الجوهر الحقيقي الذي توخته أو استهدفته عملية التحول منذ المؤتمر الأول للجبهة.

المؤتمر الوطني السابع:
بتاريخ 28/11/2013 تم عقد المؤتمر الوطني السابع ،وقد تم افتتاح المؤتمر بكلمة المناضل الأسير الأمين العام أحمد سعدات بدأها بتوجيه "التحية إلى ذوي الشهداء والجرحى والأسرى مصدر اعتزازنا ومعين صمود شعبنا ، معاهداً الجميع مواصلة الاستمرار في خنادق النضال، حتى تحقيق أهداف شعبنا في التحرير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والوحدة"، ثم تطرق الأمين العام إلى التحولات العالمية قائلاً " ينعقد مؤتمرنا الوطني السابع، ونحن على عتبة تحولات كبرى على الصعيد الكوني والقومي. فالجماهير التي طالما كانت ولا زالت رهاننا الأول، وموقع الثقة والأمل، تعبر عن إرادتها في لحظة ظن البعض أنها لن تقوم أبدا"
في قراءته للأوضاع العربية، أشارت وثيقة المؤتمر السابع إلى الحالة المأساوية التي تعيشها البلدان العربية طوال العقدين الماضيين، حيث فقد العرب سيادتهم وقوتهم وأمنهم، وبات الوطن العربي من أكثر المناطق تأثراً بسلبيات الهيمنة الامبريالية الأمريكية المعولمة ، حيث تكرست مظاهر الاستبداد وغياب الديمقراطية، وضرب الحريات العامة، إلى جانب المزيد من مظاهر الفساد والإفقار والبطالة وتفاقم الأوضاع الاجتماعية والتفاوت الهائل في الثروات والدخل في ظل غياب أي سياسات للتنمية المستقلة المعتمدة على الذات.
وارتباطاً بهذه الاستنتاجات، دعا المؤتمر إلى ضرورة المراجعة الشاملة لمسيرة حركة التحرر العربي، من خلال إعادة الاعتبار للفكر التقدمي الديمقراطي، وفتح حوار شامل –بين كافة أطراف هذه الحركة- حول الإشكالات الكبرى والمصيرية ،كما أكد المؤتمر، على أننا بحاجة لصيغة جديدة للثورة العربية، ذات بُعد اجتماعي طبقي وتوجه ديمقراطي تلتصق بالجماهير.
بالنسبة للوضع الفلسطيني، فقد أكد المؤتمر على أن "ما تَعَرَّضَ له شعبنا من متغيرات خطيرة أصابت ثوابته وأهدافه الوطنية منذ توقيع اتفاق أوسلو 1993 وتراكماتها المتفاقمة حتى لحظة انعقاده، تفرض علينا في الجبهة الشعبية أن نناضل –بصورة ديمقراطية- لتفعيل دورنا عبر رؤيتنا السياسية وبرنامج الجبهة في ممارسة كل أساليب الضغط والمواجهة الديمقراطية داخل مؤسسات م.ت.ف، ضد كافة السياسات الهابطة وكل مظاهر الهيمنة البيروقراطية والتفرد، وذلك من أجل تجديد بنية م.ت.ف والحركة الوطنية الفلسطينية وتخليصها من هيمنة القوى الطبقية والسياسية اليمينية المتنفذة .
كما أشار المؤتمر الى الأزمة المعقدة التي دخلتها الحركة الوطنية الفلسطينية ،وعجزها عن تحقيق عملية التحرر الوطني وفق مواثيق م.ت.ف.، ورضوخ قيادتها للشروط الأمريكية والإسرائيلية، والتخلي عن برنامج الإجماع الوطني واستبداله بالبرنامج السياسي والطبقي (أوسلو) المعبر عن مصالحها الأنانية الضيقة، إلى جانب عجز البديل اليساري عن النهوض، وتفاقم الصراع على السلطة والمصالح بين الهوية الوطنية الديمقراطية العلمانية لشعبنا، وبين هوية الإسلام السياسي القائمة على رؤية ماضوية، يمينية، تفتح الطريق أمام الاستبداد والإكراه الاجتماعي، وكل هذه الأسباب والعوامل، التي وقف أمامها المؤتمر تشخيصاً وتحليلاً، هي التي دفعته إلى التأكيد على عملية التجديد في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية في م.ت.ف، وفق رؤية وطنية ثورية وديمقراطية،
ومن ناحية ثانية، أكد المؤتمر على أن الإعلاء المتعمد لمكانة السلطة الفلسطينية على حساب مكانة ودور ومرجعية م.ت.ف. قد سدد ضربة قاسية لمكانتها نتيجة فقدانها الحفاظ على الأفكار الوطنية التوحيدية الناظمة لوعي شعبنا وأهدافه الوطنية الكبرى.
اخيرا ضرورة المراجعة النقدية للمرحلة الراهنة والمستقبل قائلاً "
إن الجبهة الشعبية، بالرغم من كل ما رافق هذه المسيرة المليئة بالانجازات والالتواءات والانكسارات، والمطبات السياسية وغير السياسية، استطاعت الحفاظ على دورها، رغم كافة تعقيدات الوضع الفلسطيني المأزوم الراهن ، الذي بات يقض مضاجع الجميع، وباتت الجبهة الشعبية أمام أسئلة مستجدة، تدعوها لإزاحة وتجاوز مشكلاتها الخاصة ، وهي قادرة للنهوض بدورها الطليعي في جبهة اليسار والتيار الديمقراطي النقيض لقوى اليمين في حركتي فتح وحماس .
ولعل المهمة الملحة التي يتوجب أن يتصدى لها عموم الرفاق في هذه المرحلة هي مهمة ردم الفجوة بين القضايا السياسية والفكرية والتنظيمية كما أقرتها وثائق المؤتمرات الوطنية من ناحية ، وبين الواقع السياسي والفكري والتنظيمي من ناحية ثانية ، ففي ظل موازين القوى الدولية والعربية المختلة لصالح التحالف الإمبريالي الصهيوني وموقفه النقيض للحد الأدنى من ثوابت وأهداف شعبنا الوطنية ، بات واضحاً، أن التصوّر الصهيوني يتمسك بلاءات خمسة هي: لا انسحاب من القدس ، لا انسحاب من وادي الأردن، لا إزالة للمستوطنات، لا عودة للاجئين، ولا للدولة الفلسطينية المستقلة، الأمر الذي يفرض على الجبهة الشعبية أعباء ومسئوليات كبرى ارتباطاً بدورها في المرحلة الراهنة عموماً ودورها المستقبلي الطليعي على وجه الخصوص، وهذا يتطلب إسهام الجميع في مناقشة القضايا المطروحة بكل مسئولية ووعي – من اجل بلورة الأسس الفكرية والسياسية والتنظيمية التي تكفل نهوض الجبهة ، بما يمكنها من بلورة الأهداف الوطنية والمجتمعية المعبرة عن مصالح شعبنا وتطلعاته.
إن ما تقدم، يتطلب من الجبهة ترسيخ الأسس العلمية الصحيحة لبناء حركة ثورية صحيحة تطرد كل مظاهر الأزمة الفكرية والتنظيمية والسياسة ، بما يمكنها من مواجهة هذه التحولات السريعة المعقدة على المستوى المحلي و القومي والعالمي، و إلا فإن مسيرتها التحررية الوطنية الديمقراطية ستضل الطريق، إذا لم تلتزم بصورة واعية وخلاقة بعيدة عن الجمود، بالأسس التي يقوم عليها الحزب الثوري وهي تحديداً أربعة أسس :
1) الأساس التنظيمي.
2) الأساس الأيديولوجي.
3) الأساس السياسي.
4) الأساس الكفاحي بكل مضامينه التي يتوجب أن تجسد بوعي عميق وإرادة صلبة جوهر الأسس الثلاثة السابقة.
فإذا تعرضت هذه المبادئ لأي شكل من أشكال التعطيل أو الرخاوة، فلا معنى لذلك سوى تعريض الحزب بهذه الدرجة أو تلك لحالة من الركود أو التراجع والشلل ومن ثم الخضوع للنزعات الانتهازية والشللية المدمرة لأفكار الحزب ومبادئه وفاعليته.
إن الحاجة الموضوعية لاستنهاض اليسار ورص صفوفه وتقوية بنيانه في فلسطين وكل أقطار الوطن العربي، تبرز كضرورة ملحة في الظروف الراهنة المحكومة بكل عوامل الهبوط السياسي والتراجع الاجتماعي مع كل مظاهر القلق والإحباط، التي باتت تشكل مساحة واسعة في الذهنية الشعبية في بلادنا كما في كل البلدان العربية، وبالتالي فإن هذه الحاجة الملحة لنهضة اليسار عموماً ، والجبهة الشعبية على وجه الخصوص تزداد إلحاحاً في الظروف الراهنة للمجتمع الفلسطيني" .
إن المرحلة الراهنة بكل محدداتها ومتغيراتها العربية والإقليمية والدولية تشير بوضوح إلى أن آفاق النضال القطري الفلسطيني بدون ارتباطه ببعده القومي، شبه مسدودة، بعد أن بات واضحاً أن الخيار الذي قام على أساس أنه يمكن أن يحصل الفلسطينيون على دولة مستقلة عبر طريق التسوية الذي سارت عليه القيادة المتنفذة وأوصلها لاتفاقيات أوسلو كان وهماً، قاد إلى النهاية التي نعيشها، أي تراجع المقاومة وتوسع السيطرة الصهيونية على الأرض، وأيضاً انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتفكك النظام السياسي الفلسطيني ومعه تفككت أوصال المجتمع الفلسطيني الذي يبدو أنه ينقسم إلى مجتمعين، أحدهما في الضفة والآخر في غزة، في ظل أوضاع تشير إلى أن البنية والنهج – المتحكمان- بدرجة واسعة في صيرورة الحركة التحررية الفلسطينية، يعانيان من أزمات مستعصية مرتبطة إما باليمين السياسي / فتح أو اليمين الديني / حماس أو بكليهما معاً، وهنا بالضبط تتجلى مهمة الجبهة في إدراك طبيعة المرحلة والقوى المؤثرة فيها، ومن ثم – وهذا هو الأهم– العمل على استنهاض وبناء أوضاعها الذاتية بحيث يصبح التطابق والتفاعل بين هويتها الفكرية وسياساتها -الوطنية والقومية والأممية- ودورها النضالي، التحرري والديمقراطي قائماً ومنسجماً بما يضمن تمايزها في الفكر والسياسة والممارسة المجتمعية، بعيداً عن كافة المواقف التوفيقية أو الانفعالية من ناحية ، ونقيضاً سياسياً وديمقراطياً لقوى اليمين في كل من السلطة الفلسطينية والتيارات الدينية من ناحية ثانية.
أن تناولي الاستشرافي للنتائج المفترضة المنبثقة عن المؤتمر الثامن يؤكد على انه بات واضحاً أن الخيار الذي قام على أساس أنه يمكن أن يحصل الفلسطينيون على دولة مستقلة عبر طريق التسوية الذي سارت عليه القيادة المتنفذة وأوصلها لاتفاقيات أوسلو كان وهماً، قاد إلى النهاية التي نعيشها، أي تراجع المقاومة وتوسع السيطرة الصهيونية على الأرض، وأيضاً انفصال قطاع غزة عن الضفة الغربية، وتفكك النظام السياسي الفلسطيني ومعه تفككت أوصال المجتمع الفلسطيني الذي يبدو أنه ينقسم إلى مجتمعين، أحدهما في الضفة والآخر في غزة، في ظل أوضاع تشير إلى أن البنية والنهج – المتحكمان- بدرجة واسعة في صيرورة الحركة التحررية الفلسطينية، يعانيان من أزمات مستعصية مرتبطة إما باليمين السياسي / فتح أو اليمين الديني / حماس أو بكليهما معاً، الى جانب حالة الانحطاط وتفاقم تبعية وخضوع مجمل النظام العربي للشروط الامبريالية /الصهيونية ، وهنا بالضبط تتجلى مهمة الجبهة في إدراك طبيعة المرحلة والقوى المؤثرة فيها، ومن ثم – وهذا هو الأهم– العمل على استنهاض وبناء أوضاعها الذاتية بحيث يصبح التطابق والتفاعل بين هويتها الفكرية وسياساتها -الوطنية والقومية والأممية- ودورها النضالي، التحرري والديمقراطي قائماً ومنسجماً بما يضمن تمايزها في الفكر والسياسة والممارسة المجتمعية، بعيداً عن كافة المواقف التوفيقية أو الانفعالية من ناحية ، ونقيضاً سياسياً وديمقراطياً لقوى اليمين في كل من السلطة الفلسطينية والتيارات الدينية من ناحية ثانية.
إن ما نريده من هذا المؤتمر، أن يشكل محطة نوعية لإعادة النظر في فهم إدارة الصراع ضد المشروع الصهيوني والمخطط الإمبريالي والرجعي من جانب، وأبعاد ومضامين وأشكال أدائنا تجاه ذلك الصراع من جانب آخر، وبما يُؤَمّن القدرة على استثمار ما تملكه الجبهة من مخزون أو أرصده نضالية راسخة في ذهنية قسم هام من أبناء شعبنا، يضاف عليها ما تملكه من رؤى ومواقف سياسية ومنطلقات فكرية هي الأكثر تعبيراً في مسيرتها الراهنة والمستقبلية –من حيث المصداقية- عن طموحات الأغلبية الساحقة من شعبنا."
يالتالي فان ضرورة استكمال عملية النهوض الذاتي، السياسي والفكري والتنظيمي والجماهيري والكفاحي للجبهة، باعتبارها من أكثر المهام إلحاحاً ، تمهيداً لإعادة بناء قوى اليسار الماركسي العربية ووحدتها، وهنا يتجلى دور ووظيفة ومهمة الجبهة الشعبية، لكي تكون قادرة على تأطير كل المناضلين الجديين، وفق رؤية تطرح للنقاش، تقوم على:
1. إن الصراع هو صراع الطبقات الشعبية العربية ضد السيطرة الإمبريالية الصهيونية، والنظم الكومبرادورية التابعة. وهنا يجب أن يتحدد دور الطبقات الشعبية الفلسطينية في إطار هذه الرؤية/ الإستراتيجية.
2. السعي الجدي والحقيقي نحو تأطير وتوحيد كل القوى اليسارية والديمقراطية، كشرط رئيسي لتحشيد القاعدة الشعبية في إطار المواجهة التاريخية الشاملة مع العدو الصهيوني.
3. أن لا حل تاريخي وعادل في فلسطين إلا عبر إنهاء الكيان الصهيوني في إطار الصراع العربي العام، وأن البديل هو دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية بحقوق متساوية لكل مواطنيها.
ختاما ، ان الدعوة الى تحفيز الرفاق أعضاء الجبهة عبر هذه الدراسة تستهدف ترسيخ انتمائهم والتزامهم، وتعميق وعيهم ، وتفعيل ممارساتهم النضالية والسياسية والفكرية والتنظيمية ، استناداً إلى العلاقة الجدلية والعضوية بين أهداف النضال الوطني التحرري الفلسطيني وأهداف النضال الثوري التحرري الوطني والقومي الديمقراطي من ناحية ، وبين الأهداف الأممية الإنسانية من ناحية ثانية وبما يضمن أيضاً ، تفعيل وممارسة الحوار الداخلي بدرجة عالية من الموضوعية والحس العالي بالمسئولية ، بروح رفاقية ترتقي بالدافعية الذاتية ، ومن ثم الجماعية ، الهادفة إلى تطوير وتجديد بنية الجبهة لتتبوأ مكانتها وموقعها الريادي الطليعي اليساري ، في إطار النضال الوطني التحرري والديمقراطي من أجل تحقيق أهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة ، وفي إطار النضال الاجتماعي من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.