حديث صريح عن البورجوازية الرثة في مجتمعات الوطن العربي
غازي الصوراني
الحوار المتمدن
-
العدد: 8172 - 2024 / 11 / 25 - 22:15
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
إن تطور ونشأة الفئات الرأسمالية والبورجوازية في إطار التطورات والتحولات الاجتماعية العربية، يعطي لهذه الفئات سمات وخصائص تكوينية -تاريخياً- تميزها نوعياً، من حيث الولادة والنشأة والدور عن مجرى التطور الرأسمالي في البلدان الأوروبية، إذ لعب تزاوج رأس المال الأجنبي مع رأس المال المحلي أدواراً مهمة في تسهيل عملية توسع ونمو معظم الشرائح العليا المحلية بأنواعها (كومبرادورية، رأسمالية عقارية، مالية، ريعية، طفيلية.. إلخ) من جهة، وساهم بالطبع في ترسيخ جذور التبعية وما تعنيه من مصالح اقتصادية تعكس وتفسر طبيعة الخضوع والارتهان السياسي للنظام الامبريالي.
وهكذا نتفهم كيف تهيأت الظروف الموضوعية لنشأة الجناح الأخطر من أجنحة الرأسمالية العربية، المعروف بـ “البورجوازية الكومبرادورية ” (بالتحالف الوثيق مع بيروقراطية الأنظمة (العسكرية والمدنية).
في هذا السياق ، أشير إلى أن القوى الكومبرادوية والرأسمالية الرثة المهيمنة والمتصارعه، بجناحيها "اليميني العلماني " و" اليميني الديني او الاسلام السياسي " – في كل بلدان الوطن العربي - لا تملك في الواقع مشروعاً حضاريا او ديمقراطيا وطنياً مستقلا نقيضاً للنظام الامبريالي الرأسمالي، كما أنها لا تملك أيضاً مشروعاً تنموياً يحقق العدالة الاجتماعية وينهي التبعية ويتجاوزها صوب مبدأ الاعتماد العربي على الذات، فالتنمية عندهما هي ما تأتي به قوى السوق المفتوح والمبادرات العشوائية للقطاع الخاص المحلي الكومبرادوري الذي لا يستهدف سوى تحقيق الربح، حتى لو كان على حساب دماء الكادحين والفقراء من ابناء الطبقات الشعبية، إلى جانب حرصهما على تشجيع نشاط المستثمرين الأجانب والشركات المتعدية الجنسية الكبرى وحكوماتها التي تدعم كل من أنظمة الاستبداد وجماعات الإسلام السياسي ، وفق مصالحها في هذه المرحلة أو تلك ، بما يضمن تطبيق مقولة الاستيلاء على فائض القيمة لشعوبنا من ناحية، وإبقاء شعوبنا أسيرة لآليات التخلف والتبعية والاستغلال واحتجاز التطور من ناحية ثانية، في مقابل حرص القوى الإمبريالية على تقديم كل مقومات القوه لدولة العدو الإسرائيلي لمواصلة تنفيذ مخططاتها العدوانية لتصفية قضية شعبنا الفلسطيني وتفكيك هويته واستسلامه لشروطها، خاصة في ظروف الانقسام الكارثي الممتد منذ سبعة عشر عاما .
إلى جانب ذلك أشير إلى أنه في مجمل النظام العربي اليوم يعيش المواطن العربي أشكالاً متنوعة من القهر والقمع تتراوح درجاتها في البشاعة بين طغيان النظام الحاكم أو بشاعة ممارسات الجماعات الإسلامية المتطرفة أو كلاهما معاً. وبسبب ما تحمله هذه الشرائح الراسمالية الرثة العليا من أدوار خطيرة (سياسية اقتصادية اجتماعية وثقافية هابطة) في البلدان العربية، تذهب بعض التحليلات إلى حد القول بظهور ما يسمى ” بالدولة الكومبرادورية ” في النظام العربي الراهن ، نتيجة التداخل العضوي الوثيق بين جهاز الدولة، وبين البورجوازية الكومبرادورية، رغم التفاوت بين هذا البلد أو ذاك، ويطلق عليها في بعض هذه البلدان ”البورجوازية السمسارية ” أو ” بورجوازية الصفقات أو الكومبرادورية من النوع الرخيص التي يمكن ان نسميها “كومبرادورية بازار” كما يقول د.سمير أميـن .
وعلى هذا الأساس، فإن الصفة المميزة لجميع شرائح ” البورجوازية الكبرى ” أو الشرائح الرأسمالية الكبرى – وهو الأكثر دقة – المسماة عموماً بالرأسمالية الطفيلية، هي عدم اشتغالها بالإنتاج الصناعي الوطني بصيغة مباشرة، نظراً لإرتباط نشاطها ودورة أموالها بمجال التداول وليس الإنتاج (بالمعنى الرأسمالي المستقل والواسع). لذلك نرى أنه من الأدق الحديث عن شرائح رثة تابعة للنظام الرأسمالي الإمبريالي وخاضعة لسياساته وشروطه .. وبالتالي لا يجوز أن نطلق عليها صفة البورجوازية بحكم تبعيتها ورثاثتها (وانحطاطها وتخلفها واستبدادها) وفقدانها لاي رؤية حداثية او عقلانية او حتى ليبرالية وطنية.
فـالبرجوازية الرثّة هي البرجوازية التي لا تجذر لها في مصلحة تنموية، بل هي راكضة وراء الربح السهل والسريع وتبيع نفسها، ومعها بلادها، للتحالف الامبريالي/الصهيوني كما هو الحال اليوم مع النظام العربي .
من ناحية ثانية، قد نتفق على أن مصطلح “بورجوازية” هو مصطلح له دلاله اجتماعية/سياسية/ثقافية ، فمع تطور انتاج البضاعة والسلع الرأسمالية شرعت البرجوازية الاوروبية في التصدي لسلطة الإقطاعيين ، وطالبت بإلغاء الامتيازات والتقسيمات المراتبية ، وبرز في هذا السياق عدد من المفكرين الذين اسهموا في اغناء وتطوير الفلسفة والفكر الاجتماعي في اوروبا تحت راية التنوير والعقلانية والديمقراطية الليبرالية ، وراكموا عناصر المرجعية المعرفية العقلانية النقيضة للمرجعية المعرفية الارستقراطية ومجمل افكار المجتمع الاقطاعي بما في ذلك القطيعة المعرفية مع الكنيسة، ومن ثم شق الطريق امام عصر النهضة للبورجوازية الصاعدة آنذاك في مسار تطور المجتمعات الاوروبية السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتقدم العلمي، ومنذ تلك اللحظة التاريخية، سيتحدد مركز وقوة كل بلد في النظام الرأسمالي العالمي بدرجة نموه وتفوقه على الآخرين في التجارة العالمية، وبموقعه في نظام التخصص وتقسيم العمل الدوليين، وانتقال النظام الرأسمالي إلى مرحلة الاستعمار والإمبريالية التي بدأت مع دخول الرأسمالية مرحلة الاحتكار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث زادت درجة تركز الإنتاج ورأس المال، وأخذت المؤسسات الصناعية الكبيرة تزيح من أمامها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، منهية بذلك عصر رأسمالية المنافسة، وبرزت قوة رأس المال المالي، وهو رأسمال يستخدم في الصناعة بصورة أساسية، وتسيطر عليه البنوك والشركات الصناعية.
ولهذا فقد تميزت الفترة الممتدة من العقد الثامن من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى بصراع محموم بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية لاقتسام مناطق العالم وضمان احتوائها، للوفاء بمتطلبات استمرار عمليات تراكم رأس المال في تلك المراكز. يشهد على ذلك أنه في عام 1900 كان 90.4% من مساحة افريقيا و 75% من مساحة آسيا قد تم اقتسامها بين القوى الاستعمارية.
إن السند الرئيسي الذي استندت عليه الرأسمالية العالمية في سعيها الدءوب لتجديد علاقات التبعية والسيطرة على البلاد المتخلفة حديثة الاستقلال، كان يتمثل في استمرارية بقاء الهيكل الاقتصادي التابع والمشوه الذي ورثته هذه البلاد من الفترة الكولونياليه والاستعمارية ، وما يرتبط بهذا الهيكل من شرائح وقوى اجتماعية اعتمدت مصالحها وقوتها في المجتمع على دوام هذا الهيكل، إلى جانب حرص تلك الشرائح والقوى الطبقية على تكريس تبعية بلدانها للنظام الامبريالي.
كانت محصلة هذه العلاقة، بقاء البلدان العربية مجالا مفتوحا أمام الصادرات الاستهلاكية من البلاد الرأسمالية، ومجالاً مربحا للاستثمارات الأجنبية، إلى جانب خضوع الشرائح الطبقية الحاكمة للهيمنة والشروط الأمريكية – الإسرائيلية بصورة غير مسبوقة ، كما هو الحال في المرحلة الراهنة ، ما يؤكد على فقدان معظم هذه الأنظمة _ خاصة في الخليج والسعودية _لوعيها الوطني بعد أن فقدت وعيها القومي، ولم يعد لها من هِّمٍ سوى المزيد من استغلال ونهب ثروات شعوبها التي باتت من شدة معاناتها وحرمانها تتطلع بشوق للمشاركة في تغيير وتجاوز هذا الواقع المهزوم لتحقيق أهدافها في الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.
إن هذه الحالة من الخضوع والاستتباع والتخلف، المنتشرة اليوم في مجتمعاتنا العربية، جاءت انعكاساً لظروف موضوعية وذاتية تاريخية وراهنة ، فقد خضعت مجتمعاتنا – كما هو معروف – لأشكال عديدة من السيطرة الخارجية التي كرست تخلفها، خاصة الحقبة العثمانية، ثم الحقبة الاستعمارية، وصولا الى السيطرة الامبريالية التي أدت إلى مفاقمة أشكال ومظاهر التخلف والتبعية وصولاً إلى خضوعها وارتهانها واحتجاز تطورها الاجتماعي (الطبقي) والاقتصادي ومن ثم تحولها إلى سوق استهلاكي عبر اداوت كومبرادورية أوشرائح رأسمالية عير منتجة، وجدت في العلاقة مع النظام الامبريالي ملاذاً آمناً لها، يضمن مصالحها الطبقية الأنانية، بمثل ما يضمن ويحمي أنظمتها السياسية الحاكمة، التي كرست كل مظاهر وأدوات الاستبداد والاستغلال والتخلف، إلى جانب دورها في مجابهة وقمع وخنق القوى والحركات التنويرية العقلانية النهضوية عموماً ، والحركات الديمقراطية واليسارية خصوصاً، في مقابل تكريسها –بالتنسيق مع الامبريالية الأمريكية- لما يسمى باليقينيات المطلقة –الغيبية- بكل تلاوينها ومذاهبها وطوائفها ومفرداتها وحركاتها الاسلاموية الرجعية التي أوصلتنا إلى حالة المأزق أو الانسداد الراهن.
وبالتالي لا يمكننا أن نطلق على هذه الشرائح الراسمالية الكومبرادورية والطفيلية والريعيية الحاكمة في بلادنا اليوم ، صفة البورجوازية بالمعنى النهضوي أو الليبرالي او بالمعنى الانتاجي، لانها شرائح رأسمالية لا علاقة لها بالانتاج السلعي الصانعي، بحكم تبعيتها وارتهانها للمراكز الرأسمالية ، ونظراً لإرتباط نشاطها ودورة أموالها بمجال التداول و ليس الإنتاج (بالمعنى الرأسمالي المستقل والواسع) يكون من الأدق الحديث عن شرائح للرأسمالية وليست للبورجوازية، الى جانب فقدانها لأي شكل من اشكال الوعي النهضوي التنويري العقلاني، ولا نبالغ لو قلنا بأنها فاقدة اليوم لوعيها الوطني بعد أن فقدت منذ عقود وعيها القومي ، وهنا بالضبط يكمن سبب وصفنا لها إنها بورجوازية رثة، بحكم فقدانها لكل عناصر الانتاج والنهوض والوعي الوطني ، وتعيد إنتاج التخلف وتجدده في مجتمعاتنا بذرائع دينية وتراثية ، وبوسائل القمع والاستبداد الداخلي عبر انظمتها الحاكمة.
وفي هذا الجانب، اعتقد أن التطور الاجتماعي / الطبقي لم يتبلور بعد في مجتمعاتنا العربية بصورة محددة ( ما زال في حالة من السيولة الطبقية)، وبالتالي فهو تطور محكوم بالعلاقات الرأسمالية المشوهه، حيث نلاحظ أن الصراع الطبقي في بلادنا ليس صراعا حصريا بين البروليتاريا والبورجوازية كما هو في البلدان الصناعية، بل هو صراع تختلط فيه العوامل الاقتصادية مع العوامل الدينية / الطائفية/ القبلية العشائرية والعائلية، ضمن تطور اجتماعي تختلط فيه الانماط الطبقية القديمة والحديثة والمعاصرة (النمط القبائلي وشبه الاقطاعي والرأسمالي التابع والكومبرادوري)، مما يعزز القول بأن الشرائح الرأسمالية في بلادنا هي بورجوازية رثة (منحطة بالمعنى الاجتماعي وعاجزة عن حل أي مشروع تنويري أو تحرري) ، وهذا يعني أيضا أن الرؤى الليبرالية لدى بعض الاحزاب والقوى الحاكمة في النظام العربي الراهن، تعكس ما نسميه ايضا ليبرالية رثة .
أخيراً، لا بد من إزالة اللبس والخلط في المفاهيم السائدة حاليا في الكتابات العربية بين تعبيري “البرجوازية” و “الرأسمالية” … فهما تعبيرين غير متعادلين على الصعيد المفاهيمي، ولذلك من الادق القول عن البورجوازية في بلادنا ، إنها “رأسمالية طفيلية” أو “بورجوازية كومبرادور” او سمساره او وسيطة او بورجوازية صفقات ، مما يعني أنها شرائح للرأسمالية وليست للبورجوازية ، لأن سماتها الاساسية عدم اشتغالها بالانتاج المادي بصفة مباشرة ، وانما يرتبط نشاطها ودورة اموالها بمجال التجارة والخدمات والعقار والتداول او الوساطة و السمسره، وهنا تتجلى رثاثتها. إنها بورجوازية تابعة ورثة ، لا تملك وعيا نهضويا او تنويريا ، ولا تسعى من اجل اعادة توظيف ثرواتها في انشاء الصناعة ، بل في التجارة او في البنوك الامبريالية وبالتالي، استمرار دورها في اعادة انتاج وتجديد التخلف الاجتماعي والاقتصادي والثقافي واستعدادها للتحالف مع القوى الرجعية العشائرية والاسلاموية من ناحية ومع القوى الامبريالية والعدو الصهيوني من ناحية ثانية ، وهكذا صوب مزيد من الاحتواء كما هو المشهد العربي المنحط في اللحظة التاريخية الراهنة بسبب عوامل كثيرة من اهمها رثاثة البورجوازية في مغرب ومشرق الوطن.