ما هي المعرفة ؟[1] وما هي السمات الأساسية لنظرية المعرفة الماركسية ؟.............
غازي الصوراني
الحوار المتمدن
-
العدد: 8079 - 2024 / 8 / 24 - 10:17
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ـ
المعرفة هي الانعكاس الفعال الهادف للعالم الموضوعي وقوانينه في مخ الإنسان ، ومصدر المعرفة هو العالم الخارجي المحيط بالإنسان، فهو يؤثر على الانسان ويثير لديه الاحاسيس والتصورات والمفاهيم المعنية. فالانسان يرى الغابات والحقول والجبال، ويشعر بالحرارة ويدرك ضوء الشمس، ويسمع تغريد الطيور ويشم عبير الزهور، ولو لم تؤثر عليه هذه الأشياء الموجودة خارج وعي الانسان لما كان لديه أقل تصور عنها.
الاعتراف بالعالم الموضوعي وأشيائه وظواهره باعتبارها المصدر الوحيد للمعرفة الانسانية هو المسلمة الأساسية لنظرية المعرفة الماركسية المادية الجدلية.
بالنسبة للماركسية فإن السمة المميزة الأساسية لنظرية المعرفة الماركسية هي انها وضعت عملية المعرفة على أساس من الممارسة ومن نشاط الناس المادي الإنتاجي ففي مجرى هذا النشاط بالذات يعرف الانسان الاشياء والظواهر، والممارسة في الفلسفة الماركسية هي نقطة انطلاق، أساس عملية المعرفة ومعيار صحة المعارف على حد سواء.
ففي النشاط العملي للناس والإنتاج المادي بالذات تظهر الفعالية والتوجه للمعرفة الانسانية. فالإنسان لا يمارس تأثيرا فعالا على العالم المحيط به وحيدا ، بل بالتعاون مع غيره من الناس ، مع المجتمع ككل. وهذا يعني أنه إذا كان العالم المادي هو موضوع المعرفة ومصدرها فإن المجتمع الانساني هو الذات بالنسبة للمعرفة وحاملها، والاعتراف بالطبيعة الاجتماعية للمعرفة سمة مميزة هامة لنظرية المعرفة الماركسية.
فالمعرفة من وجهة نظر المادية الجدلية هي العملية اللامتناهية لاقتراب التفكير من الموضوع الجارية معرفته ، وهي حركة الفكر من الجهل إلى المعرفة، ومن المعرفة غير الكاملة وغير الدقيقة إلى معرفة أكثر كمالاً ودقة، وتسير المعرفة إلى الأمام كاشفة عن جوانب جديدة متزايدة للواقع ومستبدلة النظريات البائدة بنظريات أخرى جديدة، ومضيفة مزيداً من الدقة على النظريات القديمة"[2] .
- الممارسة نقطة انطلاق عملية المعرفة وأساسها[3]:
الممارسة هي النشاط الفعال للناس في تحويل الطبيعة والمجتمع، وأساس الممارسة هو العمل، الانتاج المادي، كما تشمل الممارسة كذلك النضال السياسي، الطبقي وحركة التحرر الوطني والتجارب العلمية. والممارسة اجتماعية من حيث طابعها، فهي ليست نشاط افراد معزولين بل نشاط جماعات كبيرة من الناس، نشاط جميع الشغيله، أي أولئك الذين ينتجون الخيرات المادية، إلى جانب نشاط الأحزاب والحركات الثورية.
والممارسة هي نقطة انطلاق المعرفة وأساسها :
"إن الممارسة ليست فحسب أساسا للمعرفة بل هي كذلك هدف للمعرفة، فإن الانسان لا ينكب على معرفة العالم المحيط به وكشف قوانين تطوره الا بغية استخدام نتائج المعرفة هذه في نشاطه العملي "[4].
- وحدة النظرية والممارسة[5]:
المعرفة أحد أشكال نشاط الناس، انها نشاطهم النظري، غير ان النظرية بذاتها عاجزة عن تغيير الواقع، هذا ما يميزها عن الممارسة. فالنظرية انما تعكس العالم فحسب، تعمم خبرة البشرية العملية، ولكنها إذ تعمم الممارسة تترك تأثيراً معاكساً عليها وتسهم في تطورها، فالنظرية دون الممارسة عديمة المعنى، والممارسة دون النظرية عمياء، فالنظرية تهدى الممارسة إلى الطريق وتشير إلى اكفأ وسائل تحقيق الأهداف العملية . فالوحدة بين النظرية والممارسة هي المبدأ الأعلى للماركسية .
- من التفرج (أو التأمل) الحي إلى التفكير المجرد[6]:
المعرفة لا تقف ساكنة، بل تتحرك وتتطور على الدوام، وبحد تطور المعرفة تعبيراً عنه في حركتها من التفرج الحي المباشر إلى التفكير المجرد. يقول لينين: "من التفرج الحي إلى التفكير المجرد ومنه إلى الممارسة – هذا هو الطريق الجدلي لمعرفة الحقيقة، لمعرفة الواقع الموضوعي".
- المعرفة الحسية[7]:
تبدأ المعرفة دائماً بالإطلاع على أشياء العالم الخارجي عن طريق الحواس ، فالحواس أشبه بنافذة "ينفذ" منها العالم الخارجي إلى ذهن الإنسان، وتمكن الحواس الإنسان من معرفة ألوان وروائح وأصوات الطبيعة ومذاق مختلف ثمارها وإلخ. والإحساس هو الشكل الرئيسي للمعرفة الحسية، والإحساس ، هو انعكاس لمختلف الخصائص والسمات والجوانب للشيء، فالاشياء قد تكون ساخنة أو باردة، معتمة أو فاتحة، ناعمة أو خشنة، وكل هذه الخصائص وغيرها تولد احاسيس معينة بتأثيرها على حواسنا.
والأمر الذي يجعل الاحاسيس ذات أهمية هائلة في عملية المعرفة هو انها تعطينا المواد التي تمكننا من الحكم على الشيء، وتقوم كل عملية المعرفة اللاحقة على المعلومات التي تقدمها لنا احاسيسنا عن الشيء.
"إن خبرة الانسان اليومية ومعطيات العلم تبين أن الحواس لا تخدعنا ، فإذا ثار لدينا شك في بيانات احد هذه الحواس فإننا نلجأ إلى غيرها من الحواس، فإذا لم يصدق الانسان عينيه فإنه يلجأ إلى استخدام اصابعه، وإذا لم تكن هذه كافية فإن في خدمته اعين واصابع الاخرين، وإذا لم يكن هذا كله كافياً فإن الانسان يلجأ إلى الأدوات والتجارب والخبرة العملية.
وهكذا فإن الحواس إذ تتم مراجعتها ببعضها البعض وباحاسيس الآخرين وبالخبرة والتجربة والممارسة تقدم لنا بشكل عام فكرة صحيحة عن الأشياء المتاحة لنا.
ومن أشكال المعرفة الحسية، إلى جانب الإحاسيس ، المدركات والتصورات، فالادراك شكل أرقى من أشكال المعرفة الحسية، وهو يعكس الشيء في كليته الحسية المباشرة وفي مجموع جوانبه الخارجية وسماته المميزة.
أما التصور فهو استرجاع في ذهن الانسان لما تم إدراكه سابقاً، فنحن نستطيع ، مثلاً، أن نسترجع في ذهننا، ان نتصور، هيئة معلمنا القديم رغم اننا لم نشاهده منذ سنوات طويلة"[8].
- المعرفة المنطقية[9]:
إن الصورة التي تقدمها حواسنا غنية متنوعة للغاية ورغم ذلك فإنها محدودة بعيدة عن الكمال. فالمعرفة الحسية لا تعطينا الا فكرة عن الجوانب الخارجية للاشياء، فمن الممكن بواسطة الحواس ان نرى مصباحاً كهربائياً مثلاً ، ولكن لا يمكن أن نتصور ان الكهرباء تيار من الاليكترونات التي تتحرك بسرعة معينة. كما انه من غير الممكن ان ندرك عن طريق حواسنا سرعة الضوء الهائلة وحركة الدقائق الأولية في الذرة وكثيراً غيرها من ظواهر الطبيعة والحياة الاجتماعية المعقدة.
"وباختصار فإن المعرفة الحسية لا تستطيع ان تكشف عن الطبيعة الداخلية للأشياء ، عن جوهرها، عن قوانين تطورها، في حين أن هذا هو الهدف الرئيسي للمعرفة.
ومن المعلوم جيداً أن معرفة القوانين وجوهر الأشياء هي وحدها التي تصلح كمرشد للانسان في نشاطه العملي، وهنا يهب لنجدته التفكير المجرد أو ، كما يسمى أيضاً، التفكير المنطقي.
ان التفكير المنطقي هو مرحلة جديدة كيفياً وأرقى في تطور المعرفة، ودوره ان يكشف عن خواص الشيء وسماته الرئيسية، ففي مرحلة التفكير المنطقي تتحقق معرفة قوانين تطور الواقع الضرورية جداً للانسان في نشاطه العملي"[10].
المذهب الماركسي عن الحقيقة
- موضوعية الحقيقة[11]:
تقصد المادية الجدلية بالحقيقة تلك المعارف عن الشيء التي تعكس هذا الشيء بشكل صائب، أي تتفق معه، على سبيل المثال فإن التأكيدات العلمية بان "الاجسام تتكون من ذرات" وأن "الأرض وجدت قبل أن يوجد الانسان" وان "الشعب هو خالق التاريخ" إلخ. هي تأكيدات صحيحة.
على أي شيء تتوقف الحقيقة ؟ هل تتوقف على الانسان الذي تنشأ في عقله هذه الحقيقة أو على الموضوع الذي تعكسه؟ .
يرى المثاليون ان الحقيقة ذاتية، أي انها تتوقف على الانسان الذي يحدد بنفسه صحة معرفته بغض النظر عن الحالة الواقعية للأمور .
وعلى عكس المثالية ، فإن المادية الجدلية التي تعتمد على منجزات العلم وخبرة الانسان طوال قرون، تؤكد ان الحقيقة موضوعية، وبما ان الحقيقة تعكس العالم الموجود موضوعيا، فإن مضمونها لا يتوقف على وعي الانسان. ان الحقيقة الموضوعية، كما كتب لينين ، هي مضمون معرفتنا الذي لا يتوقف على الانسان ولا على البشرية. ان مضمون الحقيقة تحدده تلك العمليات الموضوعية التي تعكسها.
- من الحقيقة النسبية إلى الحقيقة المطلقة[12]:
ان المادية الجدلية باعترافها بموضوعية الحقيقة تحل كذلك مسألة أخرى هامة في المعرفة، وهي كيف يعرف الانسان الحقيقة الموضوعية: في الحال وبشكل كامل، وبلا شروط، وبشكل مطلق أو على وجه التقريب وبشكل نسبي؟ ان هذه المسألة، هي مسألة التناسب بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية.
ان الفروق بين الحقيقة المطلقة والنسبية تعود إلى أن درجة تطابق المعرفة مع الواقع ودرجة نفاذ عقل الانسان إلى هذا الواقع غير متماثلتين، وتتطابق بعض المعارف تماماً مع الواقع ، بدقة مطلقة، بينما تتطابق معارف أخرى جزئياً. فإن الحقيقة المطلقة هي الحقيقة الموضوعية بكاملها، وهي انعكاس دقيق اطلاقاً للواقع. فهل يمكن معرفة الحقيقة المطلقة بكاملها ؟ من حيث المبدأ ، نعم ، إذ أنه لا يوجد شيء لا يمكن معرفته ، كما ليس هناك حدود لقدرة العقل الانساني على المعرفة . ولهذا السبب كانت معرفة الانسان نسبية في كل مرحلة من مراحل التاريخ، وتتخذ بالضرورة طابع الحقيقة النسبية، والحقيقة النسبية هي التطابق غير الكامل بين المعرفة والواقع.
"إن الحقيقة النسبية تحتوي من كل بد بعضاً من الحقيقة المطلقة، ان معرفة الانسان مطلقة ونسبية سواء بسواء، فهي نسبية لانها ليست معرفة مكتملة، بل معرفة تتطور وتتعمق على الدوام كاشفة عن جوانب جديدة وجديدة من الواقع، وهي مطلقة لانها تحتوي عناصر من المعرفة الأبدية والدقيقة اطلاقاً"[13].
- الحقيقة الموضوعية : ديالكتيك الحقيقة المطلقة والنسبية:
إن المسألة الرئيسية في الديالكتيك ، بصفته نظرية للمعرفة ، هي مسألة : الحقيقة، فما هي الحقيقة ومم تتألف وهل يمكن الوصول إلى المعرفة الحقيقية؟ وكيف تحدث حركة المعرفة نحو الحقيقة وما هو مقياس صحة معارفنا؟ هذه هي المسائل الأساسية في نظرية المعرفة. إن الاعتراف بالحقيقة الموضوعية[14] يعني أن العالم وقنوناته متاحة للمعرفة كما هي موجودة بنفسها وباستقلال عن الوعي.
إن جوهر الحقيقة، أن المعرفة لا تكون حقيقية موضوعياً إلا إذا عكست بأمانة ما هو موجود باستقلال عن الوعي العاكس. ولذا فإن النظرية تظل، موضوعياً، حقيقة بغض النظر عن عدد من يأخذ بها من الناس (كثيرون أم قليلون) وعن شخصياتهم.
ونحن، من ناحية أخرى، نعلم أن النظريات الخاطئة والعقائد البالية يمكن أن تسيطر على عقول جماهير واسعة من الكادحين لمدة طويلة، كالعقائد الدينية وبعض الأفكار التي تروجها الدعاية البرجوازية، ولكن الزيف يبقى زيفاً بغض النظر عن عدد الناس الذين يأخذون به.
كيف نصل إلى الحقيقة: أنحيط بها بتمامها دفعة واحدة أم بالتدريج؟ إن هذا السؤال يتطلب للإجابة عليه تبيان العلاقة المتبادلة بين الحقيقة الموضوعية والنسبية. إن الاعتراف بوجود الحقيقة المطلقة غير كاف بالنسبة للإنسان المادي - الديالكتيكي، إذ ان من الضروري اكتشاف الطريق الموصل إليها، والوصول إليها لا يتأتى للإنسان دفعة واحدة، وذلك لأن هذه الحقيقة تتألف من حقائق نسبية.
إن الحقيقة النسبية هي المعرفة التي تعكس الواقع بشكل صحيح من حيث الأساس، ولكن ليس بشكل تام، بل ضمن حدود معينة، وفي ظروف وعلاقات معينة، وخلال التطور التالي للعلم تزداد هذه المعرفة دقة وكمالاً وعمقاً وحسية.
إن الحقيقتين المطلقة والنسبية هما عنصرا الحقيقة الموضوعية، وهما تتباينان لا من حيث المصدر بل من حيث درجة الدقة ومن حيث تطابقهما مع الواقع ودرجة الكمال التي يعكسانه بها. فالحقيقة المطلقة تتألف من حقائق نسبية، وكل درجة في سلم تطور العلم تضيف عنصراً إلى الحقيقة المطلقة.
- الممارسة محك الحقيقة:
"إن الممارسة هي ذلك المحك الوحيد للحقيقة"[15] ، حيث يمكننا أن نناقش بلا نهاية عن صحة هذه الفكرة أو النظرية العلمية أو تلك ، لكنها هذه المناقشة يمكن حسمها فقط عن طريق الممارسة النضالية أو التنظيمية أو السياسية أو التجربة العملية والعلمية .. إلخ.
• الممارسة كأساس للمعرفة ومقياس للحقيقة :
تنشأ المعرفة على أساس حاجات الممارسة العملية للإنسان ومن أجل سد هذه الحاجات في خضم النشاط الثوري او الاجتماعي في اوساط الجماهير، وبالتالي فإن للممارسة دوراً هاماً وأساسياً في إنتاج المعرفة، إذ أن أهم نوع من انواع النشاط البشري هو الممارسة، وهي عبارة عن نشاط حسي مادي يرمي إلى تغييرواقع التخلف والقهر والاستغلال المحيط بنا ، ويتدرج في أساس كل الأنواع الأخرى من النشاط الاجتماعي والروحي بما فيه عملية المعرفة. إذن فالممارسة تنطوي ليس على عملية العمل فحسب بل على كل نشاط البشر الاجتماعي والتحويلي والثوري فالممارسة هي التي تدل على الوعي بالنظرية.
إن أهم أسهام ثوري للمادية الجدلية في نظرية المعرفة هو إدراك الدور الأساسي للممارسة في النشاط المعرفي واكتشاف أن الممارسة هي التي تجعل هذا النشاط ممكناً وتتيح تمييز المعرفة الحقيقية عن المعرفة الكاذبة ، بالتالي من المستحيل عملياً ونظرياً أن نفهم واقعنا الاجتماعي وأن نحوله ثورياً إذا لم نعتمد في هذه العملية الواحدة المزدوجة على الفكر الماركسي ، فهذا الفكر هو شرط إمكانية فهم مجتمعنا وبالتالي تحويله ثورياً، فلا حركة ثورية بدون نظرية ثورية، وانطلاقاً من هذه العلاقة البنيوية بين النشاط النظري والنضال العملي - كما يقول مهدي عامل - يمكن أن نفهم كذلك شكل الممارسة الفلسفية او الصراع الايديولوجي ، ففي كل فلسفة أيديولوجية وكل أيديولوجية تعكس واقعاً طبقياً معيناً وصراعاً طبقياً معيناً، وذروة التضليل في الفكر الفلسفي أن يظهر وكأنه بعيد غريب عن الأيديولوجية، بعيد غريب عن الصراع الطبقي الواقعي.
إن الممارسة الفعلية الفلسفية هي صراع أيديولوجي، ضد الأيديولوجيات الرجعية والبرجوازية التي تختفي وراء قناع الفلسفة المجردة، لأن الصراع الأيديولوجي كما فهمه لينين على حقيقته شكل من أشكال الصراع الطبقي، والصراع الطبقي في أساسه، صراع سياسي، إلا أنه يتخذ أشكالاً متعددة كصراع أيديولوجي مثلاً، وهنا بالضبط يتجلى دور الممارسة في اكتساب المعرفة وتطويرها وتجديدها وفق حركة الواقع والصراع الطبقي والوطني والفكري ضد اعدائنا.فالممارسة هي أهم نوع من انواع النشاط البشري ، وهي تنطوي ليس على عملية العمل فحسب بل على كل نشاط البشر الاجتماعي التغييري التحرري والديمقراطي والثوري .
المكان والزمان:
- المفهوم الفلسفي عن المكان والزمان[16]:
حين ننظر باهتمام إلى الأشياء التي تحيط بنا نجد أن كلا منها ليست فحسب متحركاً لكنه كذلك يمتد في المكان، وقد تكون الأشياء كبيرة أو صغيرة لكن لها جميعاً طولها وعرضها وارتفاعها، وهي تشغل مكاناً محدداً ولها حجم. والأشياء في الطبيعة لا تمتلك حجماً فحسب لكنها موضوعة بطريقة ما بالنسبة لبعضها البعض، فبعضها يقع أبعد أو أقرب لنا من بعضها الآخر أو أعلى أو أدنى أو على اليسار أو اليمين. ويعكس المفهوم الفلسفي عن المكان خاصية شاملة للأجسام المادية هي الامتداد في المكان، أي انها تشغل مكاناً محدداً وتقع على نحو خاص وسط غيرها من أشياء العالم، ولا توجد الأشياء في المكان فحسب، لكنها تتتابع في تسلسل زمني محدد، وتحتل بعض الأشياء مكان بعضها الآخر، ثم تحل أخرى مكان هذه الأخيرة وهلمجرا، فلكل شيء مدة وجود معينة، أي ان له بداية ونهاية . ويعكس المفهوم الفلسفي عن الزمان خاصية شاملة للعمليات المادية بحيث تتبع بعضها البعض في تسلسل محدد وتمتلك الاستمرار، وتتطور على مراحل وأطوار ، والزمان والمكان شكلان شاملان لوجود المادة، ومن أهم خواص المكان والزمان موضوعيتهما، أي كونهما مستقلين عن وعي الإنسان، وهذا طبيعي لانهما هما الشكلان الأساسيان للوجود ، للمادة الموجودة موضوعياً.
إن الخاصية الملازمة للمكان كشكل لوجود المادة هي ثلاثية ابعاده، وهذا يعني أن كل جسم مادي له ابعاد ثلاثة: الطول والعرض والارتفاع ، وبالتالي فإن الجسم يستطيع أن يتحرك في إطار الاتجاهات الثلاثة التي هي عمودية بالنسبة لبعضها البعض.
وعلى عكس المكان ليس للزمان سوى بعد واحد، وهذا هو السبب في أن كل الاجسام تتطور في الزمان باتجاه واحد فحسب، أي من الماضي إلى المستقبل، وان الزمان لا يعود إلى الخلف وانما هو يتحرك إلى الأمام فحسب ومن المستحيل إعادة حركته واستعادة الماضي. وهذه الحقيقة الطبيعية لا يريد الموافقة عليها الساسة الرجعيون الذين يسعون إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء تلك السيطرة التي ولى زمانها ولن تعود مطلقاً . وإن عالم القرن الحادي والعشرين يستحيل عودته إلى القرن التاسع عشر، فالزمن تغير الآن .
مهما كان الشيء المادي الذي نتناوله فهو دائماً ذو امتداد ما: إنه طويل أو قصير، عريض أو ضيق، عالٍ أو منخفض، ولا وجود لشيء خالٍ من امتداد على شكل طول أو عرض أو ارتفاع، خالٍ من أي حجم كان. إن كل شيء في هذا العالم المحيط بنا قائم في مكان ما بين أشياء أخرى.
إن كل شيء من أشكال حركة المادة مرتبط، بالضرورة، بالتنقل المكاني الذي نقوم به، لأجسام صغيرة أو كبيرة، أي أن المكان هو الشرط الأساسي لحركة المادة، وعلى هذا فالمكان هو الشكل الحقيقي موضوعياً لوجود المادة المتحركة. ثم إن العمليات المادية لا تتم فقط في أماكن مختلفة وفي أزمان متباينة،وإن كون المراحل المتباينة للعمليات ذات أزمان متباينة، أي أنها مفصولة عن بعضها بفترات ما، يعتبر الشرط الأساسي لوجود هذه العمليات، فلولا هذا الامتداد الزمني، لولا هذا التباين الزمني بين المراحل المختلفة لعملية واحدة، لما وجدت هذه المراحل ذاتها، وبالتالي لما حدثت أية تبدلات تنقل الظواهر من مرحلة إلى أخرى، ولما أمكن تطور الظواهر والعمليات، وانتقالها من الأشكال الدنيا إلى الأشكال العليا، وهذا يعني أن حركة المادة غير ممكنة خارج الزمن وبشكل مستقل منه. وعلى هذا فالزمن هو الشكل الحقيقي موضوعياً لوجود المادة المتحركة، ولا تستطيع هذه المادة المتحركة أن تتحرك من غير إطار من الزمان والمكان".
إن أي شيء مادي لا يمكن أن يوجد في المكان فقط دون أن يكون في الزمان، أو أن يوجد في الزمان دون أن يوجد في المكان، وأي جسم كان هو دائماً وفي كل مكان موجود في المكان كما في الزمان. ورغم أن الزمان والمكان هما شكلان لوجود المادة على حد سواء إلا أنهما شكلان متباينان لوجود المادة، فبالرغم من أنهما يتمتعان بخصائص مشتركة متعددة، إلا أنهما يتباينان عن بعضهما كثيراً، إن ما يجمع بينهما هو أنهما: موضوعيان، موجودان بشكل مستقل عن وعينا، خالدان بسبب خلود المادة، لقد كانا موجودين، وهما موجودان، وسيظلان موجودين، لأن المادة لا يمكن أن توجد من دونهما، انهما غير محددين وغير نهائيين، إن اللا محدودية واللا نهائية هما ميزتان متباينتان للمكان والزمان.
إن مكان الكون ليس غير محدد فحسب، بل هو غير متناه أيضاً، وليست هناك أية معطيات تثبت، بشكل لا يقبل الجدل، أنه مكان مغلق. لنقل على سبيل المجاز أنه لو قدر لنا السير في الكون في اتجاه واحد لما رجعنا أبداً إلى نقطة انطلاقنا، وسنستمر في سيرنا، دائماً على أماكن كونية جديدة.
الدور الحاسم للعمل في ظهور الوعي[17]:
يختلف وعي الانسان كيفياً عن نفسية الحيوانات، فما هو مبعث هذا الفارق؟ يرجع هذا الفارق إلى ان نفسية الحيوانات هي نتاج للتطور البيولوجي وحده في حين أن وعي الإنسان نتاج للتطور التاريخي، الاجتماعي. ويقول ماركس ان حواس الانسان الخمس هي نتاج لكل تاريخ العالم، فأُذُن الانسان الموسيقية وعينه التي تتأمل جمال الطبيعة، وتذوقه الرفيع، وغيرها من الحواس قد تطورت على أساس الخبرة الاجتماعية التاريخية. والعمل أي انتاج القيم المادية هو العامل الحاسم في ظهور الانسان، وفي تطور وعيه. ويؤكد انجلس ان "العمل خلق الانسان نفسه"، فبفضل العمل تحول سلفنا القديم، الشبيه بالقرد، إلى الانسان المعاصر- Homo Sapiens، ووفر العمل للانسان الطعام والملبس والمأوى، ولم يحمه فحسب من القوى الطبيعية العاتية، بل مكنه من اخضاعها ووضعها في خدمته، وخلال العمل تغير الانسان نفسه إلى حد يفوق التصور، كما غير كذلك معالم كوكبنا، فالعمل هو اثمن ما يمتلكه الانسان، وهو شرط لا غنى عنه لحياته وتطوره. وقد توفرت لدى القرد الشبيه بالانسان مقدمات للعمل ، فكانت القردة تستخدم العصى والاحجار وغيرها من الأشياء البسيطة للحصول على الطعام، لكنها كانت تفعل ذلك بطريقة عرضية غير واعية، فليست القردة ولا أي حيوانات أخرى بقادرة على صنع ابسط أدوات العمل، أما الإنسان فيصنع أدوات الانتاج ويستخدمها بصورة واعية، الأمر الذي يشكل الخاصية الكيفية لعمله، ولكن تعلم الانسان فعل ذلك استغرق مئات الآلاف من السنين التي جرت طوالها عملية معقدة للغاية هي عملية تكون الانسان وتشكل وتطور وعيه .
اللغة والتفكير[18]:
كانت للغة والكلام المنطوق أهمية كبيرة في تكون وعي الانسان، فقد كانت اللغة التي ظهرت مع الوعي على أساس العمل قوة جبارة مكنت الإنسان من الخروج من ملكوت الحيوان وتطوير تفكيره وتنظيم الانتاج المادي. وقد سمى ماركس اللغة الواقع المباشر للفكر، وقد فعل ذلك لأن الفكر لا يمكن ان يوجد الا في الغلاف المادي للكلمة أو الاشارة والرمز اللذين يحلان محلها، فسواء فكر الانسان في نفسه أو عبر عن أفكاره بصوت مسموع، أو كتب هذه الأفكار ، لأن الأفكار تتجلى وتتجسد ويتم نقلها وإدراكها عبر الكلمات المنطوقة، ولولا اللغة المنطوقة والكتابة لكانت الخبرة القيمة للاجيال العديدة ستضيع، ولاجبر كل جيل جديد على ان يبدأ من جديد عملية شاقة للغاية لدراسة العالم .
نظرية التطور الديالكتيكية :
إن قوانين العالم الموضوعي - وفق الرؤية الفلسفية الماركسية- هي قوانين الحركة والتطور ولا يمكن فهم الأشياء والظواهر فهماً صحيحاً، ولا تفسيرها تفسيراً صائباً إلا إذا درست في سير عملية نشوئها وتطورها.
إن المادية الديالكتيكية تفهم التطور فهماً متلائماً مع الواقع القائم موضوعياً، تفهمه على أنه حلول الجديد محل القديم، على أنه موت القديم ونشوء الجديد، وهي تكشف التناقضات الداخلية التي تحدث في الأشياء المتبدلة، وترى في حل هذه التناقضات وتطورها القوة الرئيسية المحركة للتطور.
نظرية التطور الديالكتيكية تدلنا على الطريق الصحيح للمعرفة، وبالتالي، على الطريق الموثوق للسيطرة على قوانين وقوى الطبيعة والمجتمع.
________________________________________
[1] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص155
[2] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 156 - 157
[3] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 157
[4] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص158
[5] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 159
[6] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 160
[7] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 160-161
[8] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 162
[9] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص162
[10] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 162-163
[11] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 169
[12] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 170
[13] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 171
[14] يسمى شكل مضمون معارفنا وتصوراتنا هذا، الذي لا يرتهن لا بإنسان بعينيه ولا بالبشرية عموماً بالحقيقة الموضعية .يسمى شكل التعبير عن الحقيقة الموضوعية، الذي يتوقف على الظروف التاريخية الملموسة، والذي يميز مستوى دقتها وصرامتها واكتمالها المحقق على مستوى المعرفة المعنى بالحقيقية النسبية.وتسمى المعرفة الدقيقة، الشاملة، الوافية، والكاملة تماماً لظاهرة ما من الظواهر بالحقيقة المطلقة. " الدائرة الثقافية".
[15] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص 175
[16] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص49
[17] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص64
[18] افاناسييف - كتاب: أسس المعارف الفلسفية – دار التقدم – موسكو – 1979 – ص66