عدوانية الصور الابراهيمية
رندا قسيس
الحوار المتمدن
-
العدد: 3004 - 2010 / 5 / 14 - 12:37
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
حالة من الشرود تغزو عقلي، فينتج عنها عطل دماغي عاجزعن القيام بأي عمل او تركيز، ابحث جاهدة في ترتيب معطياته لتبوء محاولاتي بالفشل قبل بدئها، افكر للحظات قليلة عن الداء و الدواء، فلا اجد الا رغبة جامحة بالتشرد، ليتوه عقلي في بعض الازقة الانترنيتية، عله يجد ما يبحث عنه.
اقرر بدء التجوال في المواقع المتبعثرة على ارصفة الانترنيت، فلربما اجد ما يشبع ظمأي، فذهني محتاج الى كوب من مشروب فكري حر. انتقل من موقع عربي الى آخر، فلا يصيبني الا الاحباط و العزلة، فجميع مشروباتهم الفكرية مغشوشة بسموم تهدف للقضاء على الفكر و الجسد في آن واحد. اصابتني حالة من الغثيان الذهني لاقرر العودة الى واقعي الملموس، الا انني في اخرمحطة من التنقل الباحث عن بعض قطرات الانتعاش قبل الرحيل، اجد حانتي المليئة بالافكار الشابة الهادفة... رابطة شبابية مغربية، تملك من الحماس و الجرأة كي تستطيع اجتذاب كل حالم بالتغيير.
تطالب هذه الجمعية "شباب من اجل فصل الدين عن التعليم" بالغاء مادة الدين في المدارس مع عقلنة التعليم و تشجيع البحث العلمي، تأمل في تنظيف المناهج الدراسية من التعاليم الدينية لانشاء ثقافة احترام الاختلافات الفكرية، و العقائدية بين الافراد.
رعشة ذهنية تغزو عقلي لانتقل بلمسات خفيفة و سريعة لتصفح صفحات موقعهم، فأشعر باللذة الفكرية، اتحسس عباراتهم و افكارهم و كأنني المس جسداً استكتشفه للمرة الاولى، لذة تساوي لذة الجسد عند اقتراب ذروة النشوة.
استيقظ من افكاري لانفض احاسيسي جانباً، و لأتطرق الى هذا الموضوع عن طريق التجارب العصبية التي قامت بدراسة اثر الصور العقلية اللاواعية على سلوكيات الافراد.
وضح لنا علم الاعصاب الية انتقال الصور العقلية المكتسبة من الخارج و النائمة في لاوعينا الى الوعي، عند اتاحة عوامل معينة لها للظهور، خصوصاً عند تواجد سلسلة من الاحداث و التجارب المترابطة فيما بينها، فإذا تمعنا في الصور العقلية الموجودة في الكتب الدينية، نراها مكونة من عناصر عدوانية مدموجة بصور القتل و العقاب. فمثلاً نجد (في العهد القديم) صورة الذبح، عندما اراد ابراهيم ذبح ابنه فداءً للاله، لنجد ان هذه الصورة قد ترسخت في لاوعي المؤمنين الابراهيميين، فلا يجدون بها اي ضرر او عنف مادامت عملية الفداء مقدمة للاله، حيث لا يرون بها اية جريمة مرتكبة من قبل ابراهيم تجاه ابنه (بغض النظر عن صحة هذه الاسطورة او عدمها)، فالمؤمن يجد في هذه الصورة كرماً الهياً و اخلاصاً بشرياً للاله، بينما لو تمعنا بشكل ادق في صورة الفداء و الذبح، و تحررنا من مفهمومها المنغرس في عقولنا ، سنراها تعبر عن جريمة بشعة ترتكب بحق البراءة و الطفولة.
هذه الصور المحللة لقتل الاخر مهما كانت مكانته لارضاء الاله، تدفعنا الى ممارسة العنف و الكراهية لاي فرد لا يتوافق معنا، فليس من الغريب ان نجد المجاهدين في سبيل الله يستخدمون نفس الاسلوب الابراهيمي لعقاب من يختلف عنهم.
صورة عدوانية متأصلة في اعماق اي مؤمن، جاهزة للظهور و الاعلان عن نفسها عند وجود اية فرصة نفسية و خارجية ملائمة لها، هذ النظرة التي لا توافق ابداً نظرتنا الانسانية للامور في عصرنا الحالي، فخطورتها تكمن على صعيدين: جماعياً، كما هو الحال عند بعض الجماعات السلفية، او فردياً، كما حصل لنجار عام الف تسعمائة و سبعة و تسعون، عند اسيقاظه من النوم ليركض الى غرفة طفله الرضيع ذو الاربعة اشهر، و ينهال ضرباً بالمطرقة على رأسه ظناً منه بسماعه صوت الاله المطالب له باعادة عملية الفداء كما حصل مع ابراهيم.
قام مختص الاعصاب "برسينجر" بدراسة بعض الحالات الهجومية الناتجة عن صور عقلية باطنية، ليجد ان الصور الدينية المليئة بالعقاب و الموت، و التي تسيطر على عقلية المؤمن من خلال صوت داخلي واه ظناً منه بأنه صوت اله آت من ماوراء السماوات و النجوم، حيث فسر "برسينجر" الصور الدينية على انها انعكاس لتجارب سمعية، بصرية، حركية و شمية صادرة عن الفص الصدغي، فرسوخها يقترن بسرعة ارسال الفص الدماغي للتجارب الى باقي اجزاء الدماغ.
هذه الصور المسجلة و المختزنة في الذاكرة تتداخل مع "الانا" الفردية لتشكل هوة ما بين الادراك الداخلي و الواقع الخارجي، ليبدأ العجز عن فهم كل ما يتجاوز الصور الدفينة في الاعماق. تتكمن الخطورة القصوى لهذه الحالات عند اجتياحها العقول بشكل جماعي، ليصبح الخطاب التهديدي و التعنيفي افضل اسلوب لمعاملة الاخر ان كان على مستوى الدولة، او المدرسة، او الاسرة، فليس من العجب ابداً ان نرى ضيق الافق عند الافراد و الجماعات التي تتأصل في عقولها الصور العدوانية، فلا خطاب و لا سلوكيات الا ضمن خط واحد لا يترنح و لا يتحول، انها ثقافة غسل الادمغة لتلقين الاستبداد على كافة الاصعدة، من هنا لا يسعني الا ان اضم صوتي الى صوت رابطة "شباب من اجل فصل الدين عن التعليم" آملة ان تكتسب اصواتاً جديدة و انتشاراً اوسع في كافة المجتمعات العربية و الدينية على حد سواء، لاردد شعارها "لا تلوني، دعني اختار بنفسي".