الذاكرة و الوعي_الجزء الثاني
رندا قسيس
الحوار المتمدن
-
العدد: 3380 - 2011 / 5 / 29 - 14:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كنت قد توقفت في الجزء الأول عند آلية تطور الوعي، لأتطرق في هذا المقال لنظرية حديثة و هي نظرية اصطفاء المجموعات العصبية لصاحبها "جيرالد ادلمان" اختصاصي البيولوجيا و مدير المعهد العصبي في "جولا" ب"كاليفورنيا".
قسم "ادلمان" الوعي الى قسمين: الأول و لقبه بالوعي الأولي، أما الثاني فقد أعطاه تسمية الوعي الأعلى كونه يتميز بتفوق على الأولي.
فما هو الوعي الأولي؟
اعتبر "ادلمان" ان الوعي الأولي ينقسم بدوره الى نظامين في النظام العصبي: الأول مؤلف من منظومة مشكلة من الجذع الدماغي و الجهاز الحوفي(لمبيك سيستم)، ووظيفة هذه المنظومة تنظيم عملية الاغتذاء، كما انها مسؤولة عن العملية الجنسية إضافة الى جميع استراتيجيات الدفاع التي اكتسبت و استمدت خصائصها من خلال التطور، كما انها مسؤولة عن عمليات أخرى كالتنفس و التعرق و النوم...الخ، أي ان هذه المنظومة تخدم الأساسيات الضرورية للحياة، فنراها موجودة عند جميع الكائنات الحية التي تمتلك نظاما عصبيا.
إذاً هذه المنظومة عبارة عن نظام داخلي تطور مع الزمن من خلال عملية التطور المستمرة. أما النظام الثاني و المؤلف من (تالامو كورتيكل)، منها المهاد (التالاموس) و الذي يشكل البنية المركزية للدماغ و التي تحتوي خلاياه على نويات عدة وظيفتها تمرير الإشارات الحسية و غيرها الى اللحاء، لهذا يعتبر الوسيط الناقل للمعلومات الحسية الى المراكز العليا للدماغ، ليقوم الدماغ مرة أخرى بغربلتها، فيبرز بعضاً منها و يقلص البعض الآخر.
ارتبط هذان النظامان بعضهما البعض مع مرور الزمن مؤلفان بذلك الوعي الأولي كي يمنحا الكائنات الحية المقدرة على التأقلم مع البيئة المتواجد بها. فنلاحظ ان التعلم يشكل أساس التأقلم عند الإنسان و الحيوان معاً، فالبيئة متحولة و ليست ثابتة فهي في تغير مستمر في المكان و الزمان. و كما ان الطبيعة تتخلص من كل البنيات الغير متأقلمة معها، فهي في انتقاء دائم للسلوكيات المتأقلمة معها، و كما نعلم ان السلوك ينتج عن الخبرة البيئية، فهي التي تتيح للكائنات بالتعلم و التأقلم ضمن الشروط البيئية المتاحة لهم. و لا ننسى أيضا ان سلوك التعلم المختار هو لإكتفاء الحاجات الفيزيولوجية و المدلولات المنبثقة على مجموعة الجذع الدماغي و النظام الحوفي(اللامبيك) لتتم عملية ضبط بينهما.
بالعودة الى مفهوم الوعي الأولي و الذي ساهم في وجوده القدرة على خلق مشاهد في عقولنا (حسب ادلمان)، فهذا الوعي الأولي الذي اقترن بعملية التطور، ليتبين لنا ان ثلاثة وظائف أدت الى نشوئه: الأولى و هي النظام القشري (كورتيكال) الذي سمح بارتباط المفهوم الوظيفي أو الأفكار مع النظام الحوفي مما أدى الى توسيع القدرة على التعلم؛ أما الثانية فهي نمط جديد لذاكرة فهمية قادرة على ترتيب و تصنيف الأجوبة القادمة من الأنظمة الدماغية المختلفة منفذة بذلك عملية تصنيف للعمليات الإدراكية؛ أما الوظيفة الثالثة التي ساهمت في نشوء الوعي الأولي، فهي حلقة ريانترانت (و هي مبدأ لقاعدة هندسية من بنى خلايا عصبية تؤدي الى ولادة حلقات إعلامية من نوع تحكمي، أي ان الحلقات الريانترانت عبارة عن مجموعة متصلة ببنى تستطيع إعادة ادخال مستمرة للمعلومة بشكل استرجاعي*الفيدباك) و التي تسمح للذاكرة المؤسسة على القيم التصنيفية التي تعالج التصنيف الإدراكي في الوقت الفعلي لتبادل اشارات مستمرة بطريقة استرجاعية (ريانترانت).
أكد "ادلمان" و "تونوني" أهمية تشكل عقد التالامو_كورتيكال في ظهور الوعي، كما نستطيع القول ان الوعي الأولي الموجود عند الإنسان و الحيوان نشئا على أساس الذاكرة القصيرة و التفاعل ما بين نوع خاص من الذاكرة و التصنيف الإدراكي، مما أدى الى ولادة الوعي الأولي.
يرى "ادلمان" ان الكائنات التي تملك الوعي الأولي قادرة على خلق صور عقلية إلا انها عاجزة على النظر الى هذه الصور من زاوية الأنا الاجتماعية كما هو حال الإنسان بعد تطور جهازه العصبي و العقلي و اكتسابه الوعي الأعلى القادر على ربط كل تمثيل عقلي بقرينه الآخر لتشكيل سلسلة من تمثيلات عقلية مترابطة.
إذاً هناك التصنيف الإدراكي الذي يعالج الإشارات الآتية من العالم الخارجي من خلال الأعضاء الحسية، و هناك التصنيف المفاهيمي (القادر على تشكيل المفهوم) الذي يعمل داخل الدماغ و يعتمد بالتحديد على التصنيف الإدراكي للذاكرة.
هذه القدرة وجدت عند الإنسان إلا ان العلم يقر بوجودها أيضا عند الشمبانزي، فهم يملكون بعض العناصر من مفهوم الأنا، فبناء مفهوم الفردية مرتكز على التفاعلات الاجتماعية لإيجاد نموذج للعالم من خلال ربط الماضي بالحاضر و المستقبل، أي حتمية وجود ذاكرة رمزية، كما ان تطور المسالك الصوتية و المراكز الدماغية لفهم و إنتاج لغة ناطقة أدى الى تطور الكلام عند الإنسان، كما ساهم بشكل كبير في تطور الوعي البشري، و التي أدى الى تطور مفهوم الأنا و الى اكتساب الوعي الأعلى. فالتفاعلات المتواجدة بين الأفراد، و التي نتجت عنها قدرة في تخزين علاقات رمزية لفترات طويلة (فتفاعل أكثر من ذاكرة و نشوء ذاكرة معتمدة على التجارب الإدراكية، تستطيع ربط الماضي بالحاضر مع القدرة على خلق صور للمستقبل) ساهمت و الى حد بعيد في نشوء الوعي الأعلى. فالدماغ خاضع لعمليتين انتقائيتين هما الاصطفاء الطبيعي و الاصطفاء الجسدي الذي بدوره يخضع للاصطفاء الطبيعي، فهو يربط ما بين الإشارات الملتقطة و التمثيلات العقلية ليقوم بتشكيل ولادة وعي مرتكز على مجموعة من العلاقات الموجودة ما بين الإدراك و بنية المفاهيم و الذاكرة المتأثرة بنظام القيم الناشئة خلال فترة التطور، كما وضح لنا "ادلمان" في كتابه "بيولوجيا الوعي" مجرى الوعي الأعلى و مساهمته في بناء الخيال و المشاعر و الأحاسيس و الأفكار و الأنا و الإرادة. فسلوكنا محكوم من قبل ذاكرة ناتجة عن اعادة تصنيف نافذة تحت تأثير التغيرات الحيوية لعدد معين من القيم.
بعد الاطلاع على بعض النظريات الحديثة، نجد ان تعاطينا للمفاهيم ان كانت اجتماعية أو دينية، قائمة بالارتكاز على عملية التحول و التغير المستمر عبر الزمان، فلا إدراك ثابت و لا مفهوم محدد في إطار معين، إنما إدراكنا و إضفاءنا القيم على المحيط الخارجي يتم من خلال وعينا المتغير للخارج كي يكون منحانا متلائماً مع الطبيعة و الحياة نفسها، فعملية التطور عبر ملايين السنين استطاعت انتقاء آليات التعلم التي تساهم في عملية تأقلم الأنظمة العضوية مع بيئتها المناسبة للزمان و المكان المختلف, و من هنا نستطيع القول ان الأخلاق الناتجة عن تقييمنا الإدراكي للأشياء و المعطيات تتغير بناءاً على تغير في عملية الإدراك لإضفاء قيماً جديدة أو الاستغتاء عن قيم لم تعد تتماشى مع البيئة الخارجية.