تمرد -البوعزيزي- بداية لمشروع حياة جديدة
رندا قسيس
الحوار المتمدن
-
العدد: 3233 - 2011 / 1 / 1 - 19:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما أقدم عليه الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" و تمرده العفوي على الأوضاع المزرية في مجتمعه، و التي تبعتها اضرابات و مظاهرات في تونس، تؤكد لنا وجوب اللجوء أحياناً إلى اختيار الموت من أجل مشروع ولادة جديد.
ما يحل في تونس اليوم لهو بداية الوعي للحرمان و اختيار صائب للعراك من أجل السعي وراء الاشباع و الإكتفاء، انها بداية اليقظة التي تأتي بعد غيبوبة طويلة.
حالة "البوعزيزي" هي حالة واحدة يتقاسمها شابات و شبان المجتمعات العربية، انه شعور العجز لتحسين الأوضاع و فقدان أدنى الحريات الفردية لصالح طبقة سلطوية لا تعرف إلا لغة التعذيب و انتهاك الحياة و الموت في آن واحد.
عندما تقترن الحرية بالموت، و عندما يصبح الوطن عبارة عن جحيم أرضي و الذي يقترب إلى المفهوم الخيالي للججيم عند المؤمنين، ندرك عندئذ أن الحياة قد توقفت قبل البدء في رحلة البحث و الاستكشاف فيها و التي تمثل وقود الحياة.
كثير منا من يتشبث و يتعلق في هذه الحياة رغم أوضاعهم البائسة، ليرضون بالانسحاق و التقوقع و الغاء ذاتهم الفردية، لتنحصر المطالب الفردية و تنهمك فقط في اشباع بعض الغرائز الأساسية، و لأن الفرد في هذه المجتمعات يعيش في حالة أدنى من الحالة الحيوانية الأولى، علينا أن نعيد النظر في المفاهيم الأساسية للحياة، ربما لنرتقي قليلاً إلى حالة الأنواع الحيوانية الأخرى و التي تعيش بتناغم و تناسب مع الطبيعة.
صارع الانسان فكرة الموت و لفترات طويلة من خلال لجوئه إلى بناء خيالي لأبدية واهية، فنسي أن يركز و يفعل قواه في البحث عن حياة يستطيع من خلالها الإكتفاء، لهذا تم استبدال الحياة الأرضية بمفهوم الحياة الأبدية كحالة تعويضية، فكلما اقترب الفرد من تحقيق ما يطمح اليه و اكتساب حرية أوسع، نراه يتراجع أمام فكرة التعويض، ليتصالح مع مبدأ الموت.
من هنا، علينا القاء النظر على حالة الأفراد في المجتمعات العربية و القابعين تحت سلطة الثالوث الأقدس و المتجلي بإله قهار و حاكم متغطرس و مجتمع متقوقع، لنرى ان ما يعانيه الفرد في هذه المجتمعات يشبه و إلى حد كبير جهنم المؤمنين. لذلك يحق لنا التساؤل عن معنى الحياة للأفراد الفاقدين للذة الحياة نفسها؟
مازلت على قناعة ان الحياة و الحرية شيئين مترابطين، فهما يتوحدان تحت بند المعرفة و حرية القرارات و المسؤوليات، فبالرغم من اكتسابنا و وعينا المشروط بفعل البيئة و التابع للقيم الخارجية، إلا اننا نستطيع و من خلال المعلومات و القيم المختلفة أن نستلهم منها أفكاراً جديدة تعبر عن حرية القرار الذاتي في اتباعها أو اضفاء الجديد عليها، و من هنا تولد المسؤولية تجاه قراراتنا الحرة.
و هذا لا يتوفر إلا من خلال عملية اشباع فردية تبدأ أولاً بإشباع الغرائز الأولية، و من بعد، ضمن إطار تسلسلي اجتماعي تهب الجماعة للفرد مكافآت تحفزه على الاستمرار تحت غطائها.
نلاحظ أن المكافأة هي التي تقود الفرد إلى الاستسلام للقيم الجماعية و العمل على استمرارها و التضحية من أجلها، فعند اختفاء المكافأة تختفي معها القيم و المعاني التي تلقنها الفرد من خلال جماعته، و معها يضيع معنى الحياة خصوصاً في ظل هيمنة كاملة للجماعة على الفرد التي تقضي بدورها على المتنفس الأخير للفرد و المتجلي بالخيال الذاتي.
من هنا نلاحظ فقدان الفرد لجميع الدوافع الداخلية النابعة من داخله من أجل البحث عن الاشباع و الاكتفاء، و كما قال هنري لابوريت "لا يمكن الحصول على الاكتفاء إلا من خلال فعل اشباعي، فعند استحالة عملية الاشباع تنشأ الأزمة المتجلية بالعنف عندما تمس فرداً واحداً، أو ثورة عندما تمس طبقة واسعة من المجتمع".
لذلك أرى أنه يحق لنا اعادة صياغة معنى الحياة و الموت عند الفرد و المجتمعات العربية، و التي لا تملك أي حق في اشباع أساسياتها الأولية. فهل يمكننا الدفاع عن الحياة في ظل اختفاء المحرك الرئيسي للفرد؟
من وجهة نظري، أجد أن ما يفرق الحياة عن الموت هو ذلك الوعي للحياة و الموت و الحرية نفسها، لهذا أعتقد أن الحياة لا تساوي شيئا من دون أجزاء من الحرية، انه الوعي و حرية اتخاذ القرارات التي تناسب عملية الاكتفاء و البحث عنه.
لهذا أجد ان مبدأ الانتحار يصب أحياناُ في مبدأ الحياة عند وجوده في ظل فكر قمعي ممارس من حاكم متسلط أو ايدلوجية مستبدة أو دين كابح لاكتفاءات الانسان، فيصبح اختيار الموت عبارة عن ولادة حياة جديدة لآخرين و راحة و اختيار قبل كل شيئ للفرد نفسه.
نعلم أن الجماعة أوجدت صيغة الأمان لتحصر الفرد ضمن عباءتها، كما أوجدت صيغاً كثيرة تختلف من مجتمع إلى آخر حسب حدود الحرية المعطاة لأفرادها. لا شك ان الجماعة ستبقى ذلك المبتكر لمفاهيم جديدة تستطيع استخدامها لنشر مبدأ الهمينة، فجميع الأنظمة الاجتماعية عبارة عن أنظمة مغلقة تدور المعلومات و المعطيات في فلكها الخاص، إلا انه يتوجب علينا معرفة الدافع و المحرك الرئيسي للعناصر الداخلية لهذا النظام و التي تستمد طاقتها من خلال الاشباع أولاً و من ثم أمل المحاولة في الاكتفاء ضمن التسلسل الهرمي لهذه الأنظمة، و عند فقدان هذين العاملين يعيش الفرد في جحيم مستمر ليصبح عالقاً ما بين الموت و الحياة.
هذه الحالة هي حالة جميع الأفراد في المجتمعات العربية القابعين تحت سلطة الاستبداد بأشكالها المختلفة، لهذا علينا جميعاً أن نبجل أية محاولة فردية أو جماعية تهدف إلى الخلاص مهما اختلفنا مع الطرق المعتمدة.